سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

من الغيبة الزمانية إلى الوعي اللاتاريخي

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
TT

سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)

لا يظهر المتطرف تطرفه مرة واحدة، بل يحاول عبر أقنعة متعددة جذب وتجنيد مستهدفيه، وهكذا يطرح نفسه داعية رسالياً لإصلاح العالم والأمة، كما يطرح ما يؤمن به حلا خلاصيا موعودا لكل مشكلات الحياة الخاصة والعامة، ولكن بعض التأمل يكشف زيف وأزمات ما يدعو إليه. وقد عرض وكشف كثير من كتب التراث كثيرا من سمات وصفات المتطرفين عبر التاريخ، كالمبالغة في الشكليات والطقوس، والتعصب للرأي، والتجرؤ، واتهام المختلف، كما اهتمت الدراسات المعاصرة بتحليل جوانب التطرف النفسية والفكرية والاجتماعية بوصفه ظاهرة فرضت حضورها وخطورتها على الجميع شرقاً وغرباً.
سنحاول فيما يلي جمع السمات التاريخية التي عرفت عن المتطرفين والغلاة وعن ظاهرتهم في التاريخ الإسلامي، وهو ما يكشف التشابه الشديد بين ذهنيات وجماعات التطرف والغلو وعناصرها عبر التاريخ.
* السرية والغموض: غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ، ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية، سمة ثابتة في الفرق والفتن القديمة والمعاصرة على السواء، حيث تتأسس فجأة في ليل غامض بعيدا عن إجماع الأمة وعن شهودها وعن صحيح دينها ومعلومه بالضرورة، وقد قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إذا رأيت قوماً يتناجون في شيء من الدين دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة».
ولم يكن الحديث عن ابن سبأ وحده غريبا في القرن الأول، بل كان الحديث عن آخرين كذلك كان لهم دور كبير في إرباك الأمة والمجتمع والدولة. لقد تحدث الأشعري في «مقالات الإسلاميين» وغيره في ترجمة القدري معبد الجهني، عن رجل يدعى سوسن، لم يذكر عنه سوى أنه من العراق ووصفه بأنه كان أول من تسبب في نشوء القدرية والقول بخلق القرآن الكريم.
كذلك نجد هذا الغموض في شخصيات هذه الفرق، فلم يكن الخارجون على رأسها من زمان الفتن رموزا معروفة محل تقدير في مقامات الناس، علما ومعرفة وزهدا وتقوى، بل ينكر كثير من المؤرخين السنة والشيعة مثلا كون أحد من الخوارج كان صحابيا، ويؤكدون أنه لم يكن بينهم صحابي، ورغم رد هؤلاء بأن عبد الله بن وهب الراسبي الذي ولاه الخوارج إمارتهم كان صحابيا، فإن الواضح أنه لم يكن أحد منهم من رموز الصحابة أو أعلام الأمة أو كبارها!
* الغيبة الزمانية: يحيا المتطرفون دائما غيبة زمانية، لا تدرك التاريخ ولا حركته أو قوانينه، فلا ينتبهون لأحوال الأمة؛ قوتها وضعفها، بل تختزل الأمة في أفرادهم وجماعاتهم وتنظيماتهم فقط.
ليس فيهم الحسن بن على رضي الله عنهما، الذي أخرج عنه ابن سعد وابن أبى شيبة والبيهقي في «الدلائل»، عن الشعبي، قال: لما سلم الحسن بن علي (ر) الأمر إلى معاوية، قال له معاوية: فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال إن هذا الأمر تركته لمعاوية إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم استغفر ونزل».
وأخرج البيهقي، عن الزهري قال: خطب الحسن - رضي الله عنه - فقال: أما بعد؛ أيها الناس: إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون)، إلى قوله: (ومتاع إلى حين)».
هذا التواضع والتنازل عن حق النفس وإدراك حال الأمة والإصرار على وحدتها وعدم فتنتها وتفكيكها، ليست أهدافا رئيسية عند تنظيمات التطرف العنيف، فهي تختزل الأمة في وصفها دون سواها، ودون إدراك زمنيتها، ولا واقع الأمة وما تحتاجه من حولها.
* الكراهية والتشتت: كان الغلاة قديما يتفرقون ويتشرذمون؛ فرقا من فرق، وجماعات من جماعات، تزايد أخراها على أولاها، وجديدها على قديمها، في الغلواء والتطرف، والتوسط أيضا، فخرج الخوارج من الخوارج، كخروج النجدات على المحكمة ونافع بن الأزرق، كما خرج الخطابية من السبئية الأولى، وخرج القرامطة من دعوى المهدوية، حتى فارقوا الدين كله. وهكذا تستمر دائرة البحث عن الحقيقة والتطرف سائرة مستمرة، وهو ما يجعلنا نراه من سمات الجماعات المتطرفة في التاريخ والواقع منذ القديم، فهي تتشتت، وتتفرق وتتشقق فروعا وشظايا، يزايد بعضها على بعض في كل عصر، حتى تكون نهايتها جميعا بعد أن يبذل التطرف أنفاسه، أو يفقد قناعاته، أو ينهي بعضها بعضا!
كذلك تتوزع جماعات العنف الديني، على عشرات الجماعات تصارع بعضها بعضا، ويقاتل بعضها بعضا. قد يجمعهم العدو الواحد كما كان في الحالة الأفغانية حتى جلاء السوفيات، لكن ما إن يخايلهم نصر حتى يتقاتلوا فيما بينهم على الزعامة والإمارة، كما حدث بعد جلاء السوفيات، وكما حدث أثناء وبعد الثورات العربية سنة 2011 خصوصا السورية منها، حيث ما لبث بعضهم يسيطر حتى قاتل بعضهم بعضا، وضاعت بهم ومعهم الثورة وألقها، وصارت بهم أزمة بعد أن كانت أملا في التغيير والإصلاح.
وقد لمح إلى هذه القاعدة في التشتت والتشرذم عبد القاهر البغدادي (المتوفى 429 هجرية) في كتابه «الفرق بين الفرق» حين قال: «الخوارج عشرون فرقة، وهذه أسماؤها المحكمة الأولى الأزارقة والنجدات والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية».
وفي سياق صراع المتطرفين على الزعامة، ومن أجلها، لا ينتبهون لحال الأمة والواقع بالعموم، ويحيون غيبتهم الزمانية، ويرهقون المجتمع وهم يدعون إصلاحه، ويهزمون الأمة وهم يدعون انتصارها. وهكذا حارب الخوارج علياً رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، وهو يحارب خارجا عليه. وكان القرامطة والحشاشون يحاولون ويستهدفون قتل صلاح الدين الأيوبي وهو يحرر القدس ويحارب الصليبيين وحده كفاية عن الأمة، حتى قيل إن صلاح الدين الأيوبي كان شديد الحرص والحذر منهم دائما كما يروي أحد أحفاده أبو الفداء في تاريخه.
* الانقراض التاريخي أو عزلة المصير: انقرضت فرق وجماعات كثيرة استمرت في تطرفها، بعد أن بلغت قمة التطرف والمغالاة والعنف ضد الأمة والجماعة، انقرضت بعدما ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولكن ضلت طريقها وانقرضت طريقتها، انقرض القرامطة وانقرضت الخطابية وانقرضت العلياوية، وانزوى بعضها الآخر منعزلا في زوايا زمان ما أو مكان ما، يحاول البقاء أمام أسئلة النقل والعقل. وقاعدة ذلك شرعا وعقلا، أنه «لا يعيش ولا يستمر في معارك الزمان والمكان إلا من يملك القوامة على الحياة وشرطها الوسطية: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما». (سورة الفرقان - 67).
* التجرؤ على القتل وتجاوز المقامات: عدّ كثير من مؤرخي وفقهاء الإسلام «ذو الخويصرة» الذي انتقد النبي (صلى الله عليه وسلم)، قيل عند توزيع غنائم غزوة حنين وقيل عند خراج اليمن، أول المتطرفين وأول الخوارج، قال ابن الجوزي وابن حزم: أول الخوارج هو ذو الخويصرة. وقال ابن حزم: «هذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه» وقال الشهرستاني في الخوارج: «أولهم ذو الخويصرة، وآخرهم ذو الثدية».
وأصل حديث ذو الخويصرة ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك؛ ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم آيتهم، رجل إحدى يديه، أو قال ثدييه، مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة، تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه؛ جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)».
روى الطبراني في «الأوسط» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه». ولكن المتطرفين في كل عصر يتجرأون على مقامات العلماء، ولا يسمعون لحججهم ويتهمونهم فيما شاءت وذهبت بهم أهواؤهم. لم يستمع الخوارج الذين أتوا من مصر لعثمان رضي الله عنه حين خطبهم، فشوشوا عليه، ولم يستمعوا أو يقتنعوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ في الأولى ولا في الثانية، ولا يستمع المتطرفون لنصائح العلماء، ويتجرأون على لحومهم؛ يأكلونها غيبة واتهاما وانتقاصا في كل زمن.


مقالات ذات صلة

مقتل 7 إرهابيين خلال عملية أمنية في باكستان

آسيا مسؤولون أمنيون يتفقدون موقع انفجار خارج مطار جناح الدولي في كراتشي بباكستان 7 أكتوبر 2024... قالت السفارة الصينية إن قافلة من العمال الصينيين في كراتشي تعرّضت للهجوم في 6 أكتوبر مما أسفر عن مقتل عاملين وإصابة كثيرين (أ.ب.أ)

مقتل 7 إرهابيين خلال عملية أمنية في باكستان

لقي 7 مسلحين من العناصر الإرهابية مصرعهم، خلال عملية نفّذتها قوات الأمن، الاثنين، في مدينة ميانوالي بإقليم البنجاب شرق باكستان.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
آسيا مسؤولون أمنيون يقفون حراساً في موقع انفجار تسبب في إصابة وتدمير مركبات خارج مطار كراتشي بباكستان الاثنين 7 أكتوبر 2024 (أ.ب)

كراتشي: مقتل صينيين اثنين في هجوم إرهابي

وقع انفجار قوي خارج مطار كراتشي، مساء الأحد، ما أسفر عن مقتل مواطنين صينيين اثنين، وذلك في حين تستعد الحكومة الباكستانية لعقد قمة «منظمة شنغهاي» في إسلام آباد.

عمر فاروق (إسلام آباد)
تحليل إخباري يقف أعضاء «طالبان» التابعون لوزارة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في نقطة تفتيش على طول طريق على مشارف ولاية هرات... 4 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تحليل إخباري «طالبان» حليف غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب

بعد 3 سنوات على خروج الائتلاف الغربي من أفغانستان وسط فوضى عارمة مع سيطرة «طالبان» على كابل، باتت الحركة محاوراً غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
أوروبا عناصر من الشرطة الألمانية المختصة بمكافحة الإرهاب (غيتي)

تحريك دعوى قضائية في ألمانيا ضد 3 مراهقين للاشتباه بإعدادهم لهجوم إرهابي إسلاموي

حرك الادعاء العام الألماني دعوى قضائية ضد 3 مراهقين من ولاية شمال الراين-ويستفاليا بتهمة الإعداد لهجوم إرهابي إسلاموي.

«الشرق الأوسط» (دوسلدورف )
شمال افريقيا الرئيس التونسي قيس سعيّد في اجتماع قبل أيام حول ملف الهجرة غير النظامية مع وزير الداخلية خالد النوري وكاتب الدولة للأمن سفيان بالصادق (من موقع الرئاسة التونسية)

تونس: إيقافات ومحاكمات لتونسيين وأفارقة متهمين بتهريب البشر

كشفت مصادر أمنية وقضائية رسمية تونسية أن الأيام الماضية شهدت حوادث عديدة في ملف «تهريب البشر» من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء نحو تونس.

كمال بن يونس (تونس)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.