سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

من الغيبة الزمانية إلى الوعي اللاتاريخي

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
TT

سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)

لا يظهر المتطرف تطرفه مرة واحدة، بل يحاول عبر أقنعة متعددة جذب وتجنيد مستهدفيه، وهكذا يطرح نفسه داعية رسالياً لإصلاح العالم والأمة، كما يطرح ما يؤمن به حلا خلاصيا موعودا لكل مشكلات الحياة الخاصة والعامة، ولكن بعض التأمل يكشف زيف وأزمات ما يدعو إليه. وقد عرض وكشف كثير من كتب التراث كثيرا من سمات وصفات المتطرفين عبر التاريخ، كالمبالغة في الشكليات والطقوس، والتعصب للرأي، والتجرؤ، واتهام المختلف، كما اهتمت الدراسات المعاصرة بتحليل جوانب التطرف النفسية والفكرية والاجتماعية بوصفه ظاهرة فرضت حضورها وخطورتها على الجميع شرقاً وغرباً.
سنحاول فيما يلي جمع السمات التاريخية التي عرفت عن المتطرفين والغلاة وعن ظاهرتهم في التاريخ الإسلامي، وهو ما يكشف التشابه الشديد بين ذهنيات وجماعات التطرف والغلو وعناصرها عبر التاريخ.
* السرية والغموض: غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ، ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية، سمة ثابتة في الفرق والفتن القديمة والمعاصرة على السواء، حيث تتأسس فجأة في ليل غامض بعيدا عن إجماع الأمة وعن شهودها وعن صحيح دينها ومعلومه بالضرورة، وقد قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إذا رأيت قوماً يتناجون في شيء من الدين دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة».
ولم يكن الحديث عن ابن سبأ وحده غريبا في القرن الأول، بل كان الحديث عن آخرين كذلك كان لهم دور كبير في إرباك الأمة والمجتمع والدولة. لقد تحدث الأشعري في «مقالات الإسلاميين» وغيره في ترجمة القدري معبد الجهني، عن رجل يدعى سوسن، لم يذكر عنه سوى أنه من العراق ووصفه بأنه كان أول من تسبب في نشوء القدرية والقول بخلق القرآن الكريم.
كذلك نجد هذا الغموض في شخصيات هذه الفرق، فلم يكن الخارجون على رأسها من زمان الفتن رموزا معروفة محل تقدير في مقامات الناس، علما ومعرفة وزهدا وتقوى، بل ينكر كثير من المؤرخين السنة والشيعة مثلا كون أحد من الخوارج كان صحابيا، ويؤكدون أنه لم يكن بينهم صحابي، ورغم رد هؤلاء بأن عبد الله بن وهب الراسبي الذي ولاه الخوارج إمارتهم كان صحابيا، فإن الواضح أنه لم يكن أحد منهم من رموز الصحابة أو أعلام الأمة أو كبارها!
* الغيبة الزمانية: يحيا المتطرفون دائما غيبة زمانية، لا تدرك التاريخ ولا حركته أو قوانينه، فلا ينتبهون لأحوال الأمة؛ قوتها وضعفها، بل تختزل الأمة في أفرادهم وجماعاتهم وتنظيماتهم فقط.
ليس فيهم الحسن بن على رضي الله عنهما، الذي أخرج عنه ابن سعد وابن أبى شيبة والبيهقي في «الدلائل»، عن الشعبي، قال: لما سلم الحسن بن علي (ر) الأمر إلى معاوية، قال له معاوية: فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال إن هذا الأمر تركته لمعاوية إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم استغفر ونزل».
وأخرج البيهقي، عن الزهري قال: خطب الحسن - رضي الله عنه - فقال: أما بعد؛ أيها الناس: إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون)، إلى قوله: (ومتاع إلى حين)».
هذا التواضع والتنازل عن حق النفس وإدراك حال الأمة والإصرار على وحدتها وعدم فتنتها وتفكيكها، ليست أهدافا رئيسية عند تنظيمات التطرف العنيف، فهي تختزل الأمة في وصفها دون سواها، ودون إدراك زمنيتها، ولا واقع الأمة وما تحتاجه من حولها.
* الكراهية والتشتت: كان الغلاة قديما يتفرقون ويتشرذمون؛ فرقا من فرق، وجماعات من جماعات، تزايد أخراها على أولاها، وجديدها على قديمها، في الغلواء والتطرف، والتوسط أيضا، فخرج الخوارج من الخوارج، كخروج النجدات على المحكمة ونافع بن الأزرق، كما خرج الخطابية من السبئية الأولى، وخرج القرامطة من دعوى المهدوية، حتى فارقوا الدين كله. وهكذا تستمر دائرة البحث عن الحقيقة والتطرف سائرة مستمرة، وهو ما يجعلنا نراه من سمات الجماعات المتطرفة في التاريخ والواقع منذ القديم، فهي تتشتت، وتتفرق وتتشقق فروعا وشظايا، يزايد بعضها على بعض في كل عصر، حتى تكون نهايتها جميعا بعد أن يبذل التطرف أنفاسه، أو يفقد قناعاته، أو ينهي بعضها بعضا!
كذلك تتوزع جماعات العنف الديني، على عشرات الجماعات تصارع بعضها بعضا، ويقاتل بعضها بعضا. قد يجمعهم العدو الواحد كما كان في الحالة الأفغانية حتى جلاء السوفيات، لكن ما إن يخايلهم نصر حتى يتقاتلوا فيما بينهم على الزعامة والإمارة، كما حدث بعد جلاء السوفيات، وكما حدث أثناء وبعد الثورات العربية سنة 2011 خصوصا السورية منها، حيث ما لبث بعضهم يسيطر حتى قاتل بعضهم بعضا، وضاعت بهم ومعهم الثورة وألقها، وصارت بهم أزمة بعد أن كانت أملا في التغيير والإصلاح.
وقد لمح إلى هذه القاعدة في التشتت والتشرذم عبد القاهر البغدادي (المتوفى 429 هجرية) في كتابه «الفرق بين الفرق» حين قال: «الخوارج عشرون فرقة، وهذه أسماؤها المحكمة الأولى الأزارقة والنجدات والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية».
وفي سياق صراع المتطرفين على الزعامة، ومن أجلها، لا ينتبهون لحال الأمة والواقع بالعموم، ويحيون غيبتهم الزمانية، ويرهقون المجتمع وهم يدعون إصلاحه، ويهزمون الأمة وهم يدعون انتصارها. وهكذا حارب الخوارج علياً رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، وهو يحارب خارجا عليه. وكان القرامطة والحشاشون يحاولون ويستهدفون قتل صلاح الدين الأيوبي وهو يحرر القدس ويحارب الصليبيين وحده كفاية عن الأمة، حتى قيل إن صلاح الدين الأيوبي كان شديد الحرص والحذر منهم دائما كما يروي أحد أحفاده أبو الفداء في تاريخه.
* الانقراض التاريخي أو عزلة المصير: انقرضت فرق وجماعات كثيرة استمرت في تطرفها، بعد أن بلغت قمة التطرف والمغالاة والعنف ضد الأمة والجماعة، انقرضت بعدما ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولكن ضلت طريقها وانقرضت طريقتها، انقرض القرامطة وانقرضت الخطابية وانقرضت العلياوية، وانزوى بعضها الآخر منعزلا في زوايا زمان ما أو مكان ما، يحاول البقاء أمام أسئلة النقل والعقل. وقاعدة ذلك شرعا وعقلا، أنه «لا يعيش ولا يستمر في معارك الزمان والمكان إلا من يملك القوامة على الحياة وشرطها الوسطية: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما». (سورة الفرقان - 67).
* التجرؤ على القتل وتجاوز المقامات: عدّ كثير من مؤرخي وفقهاء الإسلام «ذو الخويصرة» الذي انتقد النبي (صلى الله عليه وسلم)، قيل عند توزيع غنائم غزوة حنين وقيل عند خراج اليمن، أول المتطرفين وأول الخوارج، قال ابن الجوزي وابن حزم: أول الخوارج هو ذو الخويصرة. وقال ابن حزم: «هذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه» وقال الشهرستاني في الخوارج: «أولهم ذو الخويصرة، وآخرهم ذو الثدية».
وأصل حديث ذو الخويصرة ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك؛ ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم آيتهم، رجل إحدى يديه، أو قال ثدييه، مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة، تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه؛ جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)».
روى الطبراني في «الأوسط» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه». ولكن المتطرفين في كل عصر يتجرأون على مقامات العلماء، ولا يسمعون لحججهم ويتهمونهم فيما شاءت وذهبت بهم أهواؤهم. لم يستمع الخوارج الذين أتوا من مصر لعثمان رضي الله عنه حين خطبهم، فشوشوا عليه، ولم يستمعوا أو يقتنعوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ في الأولى ولا في الثانية، ولا يستمع المتطرفون لنصائح العلماء، ويتجرأون على لحومهم؛ يأكلونها غيبة واتهاما وانتقاصا في كل زمن.


مقالات ذات صلة

كراتشي: مقتل صينيين اثنين في هجوم إرهابي

آسيا مسؤولون أمنيون يقفون حراساً في موقع انفجار تسبب في إصابة وتدمير مركبات خارج مطار كراتشي بباكستان الاثنين 7 أكتوبر 2024 (أ.ب)

كراتشي: مقتل صينيين اثنين في هجوم إرهابي

وقع انفجار قوي خارج مطار كراتشي، مساء الأحد، ما أسفر عن مقتل مواطنين صينيين اثنين، وذلك في حين تستعد الحكومة الباكستانية لعقد قمة «منظمة شنغهاي» في إسلام آباد.

عمر فاروق (إسلام آباد)
تحليل إخباري يقف أعضاء «طالبان» التابعون لوزارة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في نقطة تفتيش على طول طريق على مشارف ولاية هرات... 4 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تحليل إخباري «طالبان» حليف غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب

بعد 3 سنوات على خروج الائتلاف الغربي من أفغانستان وسط فوضى عارمة مع سيطرة «طالبان» على كابل، باتت الحركة محاوراً غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
أوروبا عناصر من الشرطة الألمانية المختصة بمكافحة الإرهاب (غيتي)

تحريك دعوى قضائية في ألمانيا ضد 3 مراهقين للاشتباه بإعدادهم لهجوم إرهابي إسلاموي

حرك الادعاء العام الألماني دعوى قضائية ضد 3 مراهقين من ولاية شمال الراين-ويستفاليا بتهمة الإعداد لهجوم إرهابي إسلاموي.

«الشرق الأوسط» (دوسلدورف )
شمال افريقيا الرئيس التونسي قيس سعيّد في اجتماع قبل أيام حول ملف الهجرة غير النظامية مع وزير الداخلية خالد النوري وكاتب الدولة للأمن سفيان بالصادق (من موقع الرئاسة التونسية)

تونس: إيقافات ومحاكمات لتونسيين وأفارقة متهمين بتهريب البشر

كشفت مصادر أمنية وقضائية رسمية تونسية أن الأيام الماضية شهدت حوادث عديدة في ملف «تهريب البشر» من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء نحو تونس.

كمال بن يونس (تونس)
شؤون إقليمية مجلس الأمن القومي التركي برئاسة إردوغان أكد استمرار العمليات العسكرية ودعم الحل في سوريا (الرئاسة التركية)

تركيا ستواصل عملياتها ضد «الإرهاب» ودعم الحل السياسي في سوريا

أكدت تركيا أنها ستواصل عملياتها الهادفة إلى القضاء على التنظيمات الإرهابية في سوريا إلى جانب تكثيف جهود الحل السياسي بما يتوافق مع تطلعات ومصالح الشعب السوري.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».