«بلا أدنى أهمية»؛ العنوان الأول في فضاء الشعر للشاعرة سلوى عبد الحليم، احتفى به نقاد وكتاب في ندوة ثرية، عقدها قبل أيام منتدى المستقبل بمكتبة البلد بوسط القاهرة. ويثير الديوان الكثير من التباسات الوجود ويرصد وقعها وتداعياتها على رؤية الذات الشاعرة لنفسها وللعالم والواقع من حولها؛ عبر ثلاثة عناوين داخلية، هي بمثابة مفاصل فكرية تربط عالم هذه الرؤية، وتعري فجواتها في سياقات مشهدية، ناصعة أحياناً، وخافتة أحياناً أخرى، تراوح ما بين الوصل والقطع، ما بين الواقع والخيال، ما بين الحلم والذاكرة، حتى يصل النص إلى نقطة استوائه المشتهاة، ولو في عباءة الضد.
في القسمين الأول والثاني تركز الشاعرة على هم مناوشة العالم ومشاكسته وتعرية فجاجته وتكراره اجتماعياً وسياسياً وعاطفياً، فيبدو كأنه مساحة فارغة ومهمشة للكتابة.
وعلى الرغم من تعقيداته التي لا تنتهي لا تكف الشاعرة عن مساءلته، مدركة أن السؤال ليس فقط أداة للمعرفة، وإنما يطوي في داخله حقائق وأحلاماً مفتقدة؛ تشير إليها دلالياً عبارات عفوية من قبيل: «هل أخبرتك أن الحب هو أول وسائل الفهم، وأنني أصبحت لا أحب الآخرين»، «هل أخبرتك أن الأمر لم ينته بعد ولن ينتهي».. وغيرها من الصيغ الخبرية المتناثرة في أجواء الديوان، خاصة قصيدة «دماء بيضاء» على سبيل المثال. لكن اللافت في ظلال هذه المناوشة أننا أمام ذات شاعرة، تحتفي بضعفها وهشاشتها، تكتب ما تعيشه وتلمسه، ما تحبه وتكرهه، وتشعر بأنه يصب في قلب الشعر. لا تكترث بلعبة الثنائيات الضدية، فليس مهماً أن تظهر الأشياء أو تختفي، بل المهم أن تشكل نقطة اتزان للذات في فضاء النص.
هكذا تذهب الشاعرة إلى قصيدتها مسلحة بوعي بديهي، ينهض على الاختزال والبساطة في التعاطي مع اللغة وبناء الصورة والمشهد والعلاقة مع الآخر، بكل تقاطعاته الحميمة العاشقة المحبة، والمراوغة غير المطمئنة، والدميمة شديدة القبح، التي غالباً ما تتمثل في صورة السلطة ورموزها القمعية. لذلك يبلغ الفعل الشعر ذروته درامياً وشعرياً في مقدرته الدائمة على مواجهة القبح، واستنهاض الجمال من ركام الشائع والمألوف، ومفارقة العناصر والأشياء. وهو ما يتجسد على نحو لافت في الضربة الأولى بالديوان، حيث إدانة القبح ببساطة وشفافية عبر نص بعنوان «ذاكرة ماتت» تقول فيه: «القبح يلتهم الأشياء الجميلة / ببساطة شديدة / وبلا انقطاع / كأننا لا نراه».
هكذا تظل أسئلة الذات الشاعرة حيرى، ما بين مراوغة القبح، ومحاولة الانتصار على بشاعته ولو بتعليق الصور الملونة على الحوائط، أو «بصنع وجبة طعام ساخنة وقالب حلوى كبير، يكفي لإسكات صغيرين لأطول فترة ممكنة» أو «بالذهاب إلى الموت باطمئنان شديد».
إن القبح لن ينتهي من العالم، تدرك الشاعرة ذلك، بل إن لطشتها الأخيرة في الديوان في قصيدة «واقع افتراضي» تجسد هذا المعنى على هذا النحو:
«غداً يصبح العالم
أكثر قبحاً
أكثر قسوة
أكثر إيلاماً
من قال إننا صادقون».
وإذا كان القبح أصبح مرادفاً للكذب على هذا النحو، فإن العودة إلى مناخات الطفولة، التي تومض في أجواء كثير من نصوص الديوان، تكاد تشكل اللحظة الوحيدة التي تمارس فيها الذات انعتاقها من فوضى العالم وعبثيته، بل إن هذه اللحظة الأثيرة، تبقى معلقة في سقف الكتابة، وكأنها تميمة ضد الموت والزمن والقبح معاً، وسؤال ممتد في لحم الذاكرة والحلم. إنها أشبه بمصفاة، تتخلص فيها الذات من شوائب الخارج وتخلص إلى نفسها، إلى مائها الخاص الحميم، مما ينعكس على فعل الكتابة نفسه، فيبلغ ذروة من التكثيف والبساطة المقطّرة، وهو ما يطالعنا في عدد من نصوص الديوان، ومنها تحديداً نصا «قطعة أرض» و«خادمة ريفية بيضاء».
تقول الشاعرة في النص الأول:
«لم يترك لي أبي قطعة أرض
ولم تُهدني أمي يوم زفافي
بعض مصاغها القديم.
أخذت من أبي كل قلبه،
ومن أمي بعض روحها
لكنني اكتشفت لاحقاً
وبعد سنوات من الذهاب مع صغيرتي
إلى مطاعم الوجبات السريعة
وسماع حكايات الرؤساء على طاولة اجتماعات
زرعوها على طريق تعبره الشاحنات
ليلَ نهار
كم هم أغنياء
أولئك الذين يستيقظون كل صباح
وهم لا يملكون قوت يومهم!»
هذه الصورة الشعرية بمفارقاتها البسيطة الموجعة هي نتاج الطفولة، هي ومضة روح تتفتق من مناخاتها القصية، ورغم وعيها المفارق البعيد، فإنها قادرة على أن ترتفع بطاقة الحلم والبراءة في داخلنا، بينما يبدو الوعي المشتبك بالعالم الراهن زائفاً ومشوهاً، لأنه نتاج صورة كاذبة ومشوهة أيضاً، على شتى المستويات.
لا تخلو مشاكسة العالم في هذين القسمين خاصة القسم الأول من بعض أخطاء الكتابة، والتي أرى أنها تثقل النص، وتفقده الكثير من حيويته الشعرية والفنية. أبرز هذه الأخطاء الوقوع في الاستطراد والتبرير (ص 22، 29، 33، 43، 46) هناك أيضاً بعض أخطاء اللغة (النحو)، وهي أيضاً مما لا يجب أن يقع فيه الشاعر (ص 20، 94).
لكن بمحبة الشعر أتجاوز سلبية هذه الأخطاء لأنها ابنة تجربة حقيقية، وفي الوقت نفسه، أتعاطف كثيراً مع محاولة الذات الشاعرة البحث عن مبرر للتصالح مع هذا العالم والعيش فيه، وهو ما يتجسد في القسم الثالث والأخير من الديوان. خاصة في محاولة التصالح مع الحبيب العاشق، والتماس الأعذار له، وللذات العاشقة أيضاً، فالحب فعل لا بد أن يقبل القسمة دائماً على اثنين. نلمح ذلك في قصيدة بعنوان «صندوق خشبي»، حيث تبني الشاعرة جدران هذا التصالح، وتحلم به قائلة:
«لو أن لي جسداً فارغاً
مثل صندوق خشبي،
لا يمكنه أن يكون مثيراً للسرقة
تمنيت الذهاب معك في رحلة طويلة
والاستمتاع حتى أقصى حد
تمنيت أن تنتهي الحروب
وتتلاشى تماماً
أعتقد أن الوقت بات مناسباً
أن نتبادل الصور والألوان
والحكايات الجميلة
أن نكتب قصة قصيرة تقول:
كلانا يستيقظ مبكراً
يمازح الصغار نهاراً
ويشتري لهم قالب حلوى.. ليلاً
كلانا يهوى نزول النهر
وكلانا يحلم بالمزيد
لكنها مسألة وقت
فحسب».
في ظلال هذه الرجاءات الشغوفة بمحبة الحياة لا أظن أن هذا التصالح يجسد فقط إقراراً بواقع مرفوض يزداد قسوة يوماً بعد آخر، لكننني أعتبره محاولة لإعادة اختبار الخيال الشعري من زوايا أخرى، تمنح الذات الشاعرة مساحة من الاسترخاء ومعاودة التأمل بعمق في حقيقة الأشياء والواقع والوجود، وأيضاً في حقيقة الشعر، وجدوى أن تكون شاعراً، تنتظر شبحاً يضفي عليك لمسة من الدفء والحنان، بلا فواصل أو عقد سميكة، توسع الفجوات بين الروح والجسد، وكأنهما كائنان لا يضمهما جسد واحد... إنه الحلم الإنساني يفجر رغبته الطافرة بالوجود كحقيقة نقية، متصلة وممتعة حتى بألمها الشفيف.