الأزمة الكورية و«هستيريا» الاستفزازات المتبادلة

العالم يحذر واشنطن من تداعيات الخيار العسكري... ويدرس خوض «مفاوضات نووية» جديدة

الأزمة الكورية و«هستيريا» الاستفزازات المتبادلة
TT

الأزمة الكورية و«هستيريا» الاستفزازات المتبادلة

الأزمة الكورية و«هستيريا» الاستفزازات المتبادلة

40 دقيقة و30 ثانية، هي كل المدة التي سيستغرقها وصول صاروخ باليستي عابر للقارات من كوريا الشمالية إلى نيويورك، كبرى مدن الولايات المتحدة. وهي كذلك المدة التي قد تتسبب في تغيير النظام العالمي كما نعرفه.
اليوم تزعم كوريا الشمالية أنها طوّرت صواريخ باليستية متوسطة المدى وطويلة المدى قادرة على استهداف الأراضي الأميركية، في حين يشكك الخبراء في نجاحها في تصغير رأس نووي بحجم يتيح لها تركيبه على صاروخ عابر للقارات. ولكن، في كلتا الحالتين، بلغت الاستفزازات التي تمارسها القيادة في العاصمة الكورية الشمالية بيونغ يانغ والردود الأميركية حدة غير مسبوقة. وبين تجربة قنبلة هيدروجينية تفوق قوتها القنبلة النووية التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانية بنهاية الحرب العالمية الثانية، وتوعُّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب نظام بيونغ يانغ بـ«الغضب والنار»، يتخوف مراقبون من أن تؤدي المبالغات في التصريحات المتبادلة إلى خطوة عسكرية تودي بحياة مئات الآلاف. والسؤال المطروح هنا: ماذا يريد كيم جونغ أون من استفزازاته المتكررة؟ وهل التصعيد العسكري خيار وارد؟ وما الخطوط الحمراء للسياسة الأميركية تجاه الأزمة؟

ماذا يريد الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون؟
إنه السؤال الذي يفرض نفسه وسط أجواء التوتر والتصعيد غير المسبوقة، آسيويّاً وعالمياً.
وهو منذ وصول كيم جونغ أون إلى السلطة في عام 2011، خلفاً لأبيه كيم جونغ إيل، حدّد هدفين أساسيين لسياسته الداخلية والخارجية، هما تطوير برنامج بلاده الصاروخي، وتحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية لشعبه.
في الحقيقة، تعود الطموحات النووية للنظام الكوري الشمالي إلى ستينات القرن الماضي، وهي تتماشى مع مساعي بيونغ يانغ للحصول على الاستقلالية السياسية والعسكرية أمام أعداء كوريا الشمالية الشيوعية التقليديين، مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، وكذلك التخلص من «وصاية» الحليفين الروسي والصيني.
جون نيلسون - رايت، الزميل في معهد «شاتهام هاوس» بالعاصمة البريطانية لندن، يرى أن تمسك نظام كيم جونغ أون بالبرنامج الصاروخي «مبني على تقييم منطقي لمصالح كوريا الشمالية الاستراتيجية، فهو يرى في حرب العراق مثالاً على أن تطوير آلة عسكرية ونووية قوية السبيل الوحيدة لحماية بلاده في إطار العزلة الدولية التي يعيشها».
وبينما لم تطلق واشنطن، قبل التجربة النووية الأخيرة، أي تهديدات عسكرية مباشرة لكوريا الشمالية، فإن لديها 28 ألف جندي أميركي على الأقل في أرض «جارتها» اللدود كوريا الجنوبية، كما أنها أتاحت بيع أسلحة متطورة لكل من اليابان وكوريا الجنوبية، فضلاً عن تنظيمها مناورات سنوية مشتركة مع كل منهما. ولذا، ترى سلطات كوريا الشمالية في ذلك استفزازاً بالغاً وتهديداً لأمنها الوطني.

ذاكرة الحرب الكورية
وهنا يوضح نيلسون - رايت أن «النظام الكوري الشمالي يستخدم الحرب الكورية التي اندلعت في عام 1950، واستمرت ثلاث سنوات ذريعةً داخليةً لأنشطته العسكرية، ويعيد التذكير عبر آلته الإعلامية بمشاهد الدمار وأعداد الضحايا التي سقطت في القصف الأميركي لترسيخ طموحات واشنطن (الاستعمارية) في ذهن شعبه». وكانت الحرب قد اندلعت بين الكوريتين بعدما اندفع نحو 75 ألفاً من جنود جيش الشعب الكوري الشمالي عبر خط الحدود مع كوريا الجنوبية (وهو المرتسَم عند خط العرض 38). تلك الحدود كانت تفصل شطري شبه الجزيرة الكورية، وهما الشطر الشمالي الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية، والشطر الجنوبي الموالي للغرب والمدعوم من واشنطن.
الأميركيون تدخلوا في تلك الحرب بعد شهر من اندلاعها إلى جانب كوريا الجنوبية. وبعد شهور من القتال، ودخول الحرب مرحلة جمود، سعى مسؤولون أميركيون إلى التوصل لهدنة مع الكوريين الشماليين، إذ كانوا يخشون أن البديل سيكون حرباً تشمل الاتحاد السوفياتي والصين. وفعلاً، انتهت الحرب في عام 1953، ولكن بعدما أودت بأرواح نحو 5 ملايين شخص بين مدنيين وعسكريين.

تصريحات ترمب
عدد من المراقبين يرون أن التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب تشكل هدية لتطرف كيم جونغ أون، بحيث إنها تخدم «البروباغندا» الإعلامية للزعيم الكوري الشمالي وتعزز صورته قائدَ القوات المسلحة وحامياً لبلاده من الأطماع الخارجية. وتقول جيني تاون، مديرة تحرير موقع «38 نورث» الأميركي المتخصص في معهد الدراسات الدولية التابع لجامعة جونز هوبكنز بواشنطن، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن «كيم جونغ أون ليس مجنوناً، فهو يقوم بخطوات مدروسة ومحسوبة، ويبحث عن خدمة مصالحه الوطنية وعن اعتراف دولي. إلا أن ذلك لا يعني أن تحركات الطرفين محسوبة، وقد تكون لخطوة خاطئة تداعيات مأساوية».
واعتبرت تاون في مكالمة هاتفية أن كيم جونغ أون لا يبحث عن اعتراف دولي بقدرات بلاده العسكرية فحسب، بل يهدف كذلك إلى تعزيز مكانته داخل بلاده وتعزيز نفوذه ومصداقيته كقائد لإحدى آخر الدولة التي تصف نفسها بـ«الشيوعية».

الخيار العسكري مستبعد
موقع «38 نورث» يفيد بأن تجربة القنبلة الهيدروجينية التي أجرتها كوريا الشمالية مطلع هذا الشهر ولدت طاقة قدرها 250 كيلوطناً، أي أقوى بـ16 مرة من قوة القنبلة الذرية التي دمرت هيروشيما عام 1945. كذلك أعلن رئيس القيادة الاستراتيجية للجيش الأميركي أن القنبلة التي فجرتها كوريا الشمالية يوم 3 سبتمبر (أيلول) الحالي خلال تجربتها النووية السادسة كانت على الأرجح قنبلة هيدروجينية، وفق ما نقل عنه موقع «ديفينس نيوز» المتخصص. وكان الكثير من الخبراء أفادوا بعد التجربة بأن القنبلة لديها كل أوصاف القنبلة الهيدروجينية، وهو ما أعلنته بيونغ يانغ نفسها، لكن أياً من الدول الغربية لم يؤكد ذلك.
وقال الجنرال جون هايتن: «رأيت الحدث، رأيت المؤشرات التي تأتَّت عنه، رأيت حجمه ورأيت التقارير... وبناء على ذلك، أفترض من جانبي أنها كانت قنبلة هيدروجينية ذات حجم يسمح بتثبيتها على رأس صاروخ».
في هذه الأثناء، لم يستبعد وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس ولا «سيد» البيت الأبيض الخيار العسكري بعد تجربة القنبلة الهيدروجينية مطلع هذا الشهر، لكنهما شددا على أنه ليس خيارهما الأول. وبينما يبدو المجتمع الدولي متفقاً على أن الحوار يبقى الخيار المفضل، أو الوحيد بالنسبة لكل من موسكو وبكين، انتقد الرئيس ترمب مواصلة محاولات الحوار مع كوريا الشمالية معتبراً أن الإدارات الأميركية السابقة اعتمدت هذا النهج لكنها فشلت في ثني النظام عن مواصلة تطوير برنامجه الصاروخي الباليستي، قال ترمب معلقاً على التجربة النووية السادسة التي قامت بها كوريا الشمالية «لا تزال كلماتهم وأفعالهم معادية وخطيرة جداً تجاه الولايات المتحدة». وتابع في تغريدة عبر حسابه في «تويتر»، مضيفاً: «كوريا الشمالية دولة مارقة، وأصبحت تشكل تهديداً عظيماً وحرجاً كبيراً للصين التي تحاول المساعدة، ولكن دون نجاح يُذكَر». وفي تغريدة ثالثة، قال ترمب إن «كوريا الجنوبية تجد، كما قلت لهم، أن الحديث عن استرضاء كوريا الشمالية لن يفيد، فهُمْ يفهمون فقط شيئاً واحداً!».
في أي حال، أكد الوزير ماتيس آنذاك أن «أي تهديد يطال الولايات المتحدة أو أياً من أراضيها، بما في ذلك جزيرة غوام (جنوب أرخبيل اليابان)، أو أياً من حلفائها، سيلقى رداً عسكرياً شاملاً»، دون أن يستبعد احتمال استخدام إمكانات واشنطن النووية. وجاء ذلك بعدما شارك ماتيس في اجتماع للأمن القومي لإحاطة الرئيس ترمب بجميع الخيارات المتاحة للتحرك ضد كوريا الشمالية. وتعقيباً على هذه التصريحات، أجمع المجتمع الدولي، بما يشمل حلفاء كوريا الشمالية وروسيا والصين، على أن خيار التدخل العسكري غير وارد، وأن السبل الدبلوماسية لم تستنفد بعد.
وينضم خبراء نوويون ومتابعون لسياسات كيم جونغ أون لهذا الطرح، ويحذّرون من سقوط واشنطن في فخ كوريا الشمالي الاستفزازي وتوجيه ضربة عسكرية «جراحية» تستهدف موقعاً معيناً أو مقر إقامة كيم جونغ أون. وبهذا الصدد تقول جيني تاون إن «الحوار يبقى السبيل الوحيدة لتخفيض الأزمة الكورية»، معتبرة أن نتيجة حلقة التصريحات العدائية المتبادلة غير واضحة، وقد تؤدي إلى تجاوز من أحد الطرفين. كذلك يخشى المراقبون أن يصل النزاع إلى «نقطة لا عودة»، أي اللجوء إلى الخيار العسكري وتعريض حياة مواطني الجنوب والكوريين الشماليين إلى الخطر.

«اللاءات الأربع»
أكثر من هذا، سارعت كل من بكين وموسكو لرفض التلميح الأميركي بتدخل عسكري لحل الأزمة الكورية، واعتبرتا أن ذلك سيؤدي إلى نتائج كارثية؛ إذ قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أسابيع إن المبالغة في «الهستيريا العسكرية» قد يؤدي إلى كارثة عالمية، مشددا على أن الدبلوماسية هي الحل الوحيد. ومن ثم، كرر مندوباً البلدين في الأمم المتحدة أخيراً موقف بلادهما المعروف بـ«اللاءات الأربع» لحل الأزمة الكورية، وهي «لا لتغيير النظام، ولا لانهيار النظام ولا لعملية توحيد متسرّعة للكوريتين، وأخيراً لا لانتشار عسكري في المنطقة الحدودية بين الجارتين الجنوبية والشمالية». وطرحت «كفيلتا بيونغ يانغ الاقتصاديتان» (أي بكين وموسكو) خطة «الوقف مقابل الوقف» التي تقوم على وقف الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية مناوراتها العسكرية الكبيرة، مقابل وقف كوريا الشمالية برامجها الباليستية.
وفي حين لا تدعم روسيا فرض عقوبات شديدة على كوريا الشمالية، فإنها مع ذلك صوتت لصالح مشروع القرار الأميركي الأخير بعدما ضغطت على واشنطن لتخفيف بنوده. وللعلم، لطالما كرّر بوتين أن بيونغ يانغ لن ترضخ للعقوبات الدولية بل ستعزز تطوير برامجها النووية والصاروخية، لأنها تعتبرها الوسيلة الوحيدة للدفاع عن النفس. وأضاف الرئيس الروسي في كلمة ألقاها في مؤتمر اقتصادي بمدينة فلاديفوستوك بشرق سيبيريا أنه «من المستحيل إخافة الكوريين الشماليين».

حزمة عقوبات جديدة
من جهة أخرى، يعاد طرح النقاش حول الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة والمجتمع الدولي مع كل تجربة صاروخية أو نووية جديدة، ولم يشكل إطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى من بيونغ يانغ فوق اليابان مساء أول من أمس استثناءً. ولقد عقد مجلس الأمن في الأمم المتحدة اجتماعاً طارئاً آخر أمس، هو الأخير في سلسلة اجتماعات أدت إلى تشديد العقوبات الاقتصادية والسياسية على كوريا الشمالية خلال الأشهر الماضية. ومن المعلوم أن سلطات بيونغ يانغ تعتبر هذه العقوبات المشددة استفزازا يدعو إلى رد يعكس حجم قوتها. وكان الصاروخ الأخير قد أُطلق من موقع قريب من العاصمة الشمالية بعد أقل من أسبوع على إقرار مجلس الأمن الدولي مجموعة ثامنة من العقوبات على نظامها الانعزالي، سعياً لحمله على التخلي عن برامجه العسكرية المحظورة. وجرت عملية الإطلاق الجديدة بعد أيام على سادس تجربة نووية أجرتها كوريا الشمالية وكانت الأقوى حتى الآن، وأعلنت يومها أنها فجرت خلالها قنبلة هيدروجينية بحجم يسمح بتثبيتها على رأس صاروخ.
ومن ردات الفعل، أصدر وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بياناً أدان فيه التجربة الأخيرة وحث الصين وروسيا على الموافقة على فرض أقصى العقوبات على نظام كيم جون أون. وقال تيلرسون في بيانه إن «الإطلاق الاستفزازي للصواريخ من كوريا الشمالية يشكل المرة الثانية التي يتعرض فيها شعب اليابان للتهديد المباشر في الأسابيع الأخيرة». وتابع أن حزمة العقوبات الأخيرة التي اتخذتها الأمم المتحدة هي الحد الأدنى من الإجراءات، داعياً الصين وروسيا إلى دعم تدابير جديدة ضد نظام بيونغ يانغ. ولفت تيلرسون إلى أن الصين تزود كوريا الشمالية بكميات كبيرة من النفط، بينما تعد روسيا «أكبر رب عمل للعمال القسريين القادمين من كوريا الشمالية»، على حد قوله.
من جانب آخر، يؤمن قادة الاتحاد الأوروبي كذلك بفاعلية العقوبات الاقتصادية، التي شددت الخميس عبر تبني إجراءات أعلنتها الأمم المتحدة بداية أغسطس (آب) المنصرم ردا على إطلاق صاروخ باليستي. وقال مجلس الاتحاد الأوروبي، الذي يمثل الدول الأعضاء الـ28، في بيان إن العقوبات «تستهدف أبرز صادرات كوريا الشمالية ما دامت تفرض حظراً تامّاً على أي تصدير للفحم والحديد ومشتقات الحديد والمنتجات البحرية والرصاص ومشتقات الرصاص».
وتستهدف العقوبات أيضاً «تجارة الأسلحة في كوريا الشمالية والتعاون بين شركات (كورية شمالية) ومؤسسات أجنبية والمصارف (الكورية الشمالية) وقدرتها على تأمين عائدات والمشاركة في النظام المالي الدولي».
إلى ذلك، باشر الاتحاد بحث احتمالات مختلفة تتراوح بين إدراج كبار القادة الكوريين الشماليين (بمن فيهم الرئيس كيم جونغ أون) على اللائحة السوداء... وطرد مئات من الكوريين الشماليين العاملين في أوروبا، بحسب ما أفادت مصادر دبلوماسية لوكالة الصحافة الفرنسية. وقد يعمد الأوروبيون كذلك إلى الحد من بيع المنتجات الأوروبية الفاخرة في كوريا الشمالية أو فرض حظر تام على الصادرات النفطية إلى هذا البلد، وفق المصادر نفسها.
من جهته، دعا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ إلى «رد عالمي» وكتب على «تويتر» أن «إطلاق كوريا الشمالية الصاروخ هو انتهاك جديد متهور لقرارات الأمم المتحدة (ويشكل) تهديداً كبيراً للسلم والأمن الدوليين يستوجب رداً عالمياً». وبينما رأت وزارة الدفاع الكورية الجنوبية أن الصاروخ عبر على الأرجح مسافة 3700 كيلومتر على ارتفاع أقصاه 770 كيلومتراً، قبل أن يسقط في المحيط الهادي، قال وزير الدفاع الياباني إيتسونوري أونوديرا إن «غوام كانت في بال» بيونغ يانغ، أمس (الجمعة)، وأشار إلى أن مدى الصاروخ كان كافياً ليبلغ هذه الجزيرة الواقعة على مسافة نحو 3400 كلم من كوريا الشمالية.
وبحسب طوكيو، فإن الصاروخ حلّق فوق جزيرة هوكايدو في شمال اليابان قبل أن يسقط على مسافة نحو ألفي كلم إلى الشرق، ولا تفيد أي مؤشرات في الوقت الحاضر بسقوط شظايا على الأراضي اليابانية. وعلى الأثر، أعلن رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي أن بلاده «لن تقبل أبداً بأعمال كوريا الشمالية الاستفزازية التي تهدد السلام في العالم»، محذراً بأنه «إذا استمرَّت كوريا الشمالية بالسير في هذا الطريق فإن مستقبلها لن يكون مشرقاً».
أما السلطات الكورية الجنوبية في سيول، فردّت بتمرين على إطلاق صاروخ «هيونمو» في البحر الشرقي، بحسب التسمية الكورية لبحر اليابان، وفق ما أعلنت وزارة الدفاع. وعبر الصاروخ مسافة 250 كلم، أي ما يكفي نظريّاً لبلوغ موقع سونان لإطلاق الصواريخ في كوريا الشمالية، قرب مطار بيونغ يانغ.
هذا، وقرأ خبراء التجربة الكورية الأخيرة على أنها رسالة موجهة للعالم، بأن العقوبات الأخيرة «لا تخيفنا». وقال يانغ مو جين، من جامعة الدراسات الكورية الشمالية في سيول، لوكالة الصحافة الفرنسية، إن «الشمال يبعث الرسالة التالية: لسنا خائفين من أي عقوبات وتهديداتنا ليست فارغة».

اتفاق نووي ثانٍ؟
وسط هذه التطورات، عرضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أخيراً الوساطة في الأزمة الكورية، وطرحت إمكانية دخول القوى الغربية في حوار مباشر مع كوريا الشمالية يفضي إلى اتفاق نووي شبيه بالذي أبرمته القوى العظمى مع إيران في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما.
وذلك عندما أعلنت المستشارة الألمانية في مقابلة مع صحيفة «فرانكفورتر ألغيماينه تسايتونغ» الأسبوع الماضي أن بلادها مستعدة لممارسة ضغوط دبلوماسية لإنهاء برنامج تطوير الأسلحة النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، على غرار الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع إيران.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المفاوضات بين إيران والدول الست الكبرى كانت قد أسفرت عن اتفاق عام 2015 تتخلى طهران بموجبه عن برنامجها النووي، وتسمح بعمليات تفتيش مقابل رفع بعض العقوبات. وترى ميركل أن تلك المفاوضات كانت «طويلة الأمد، لكنها شكلت حقبة دبلوماسية مهمة».
وأضافت موضحةً موقف حكومتها «يمكنني تصور صيغة مشابهة من أجل تسوية النزاع مع كوريا الشمالية. على أوروبا، خصوصاً ألمانيا أن تكون مستعدة للمشاركة بشكل فاعل».
ووفق المعطيات الحالية، بدا الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون موافقين على هذا الاقتراح الألماني، أمس، وذلك بعدما وجهاً دعوة إلى عقد «مفاوضات مباشرة» مع كوريا الشمالية لخفض التوتر.
وأعلن الكرملين في بيان أن الرئيسين أكدا خلال اتصال هاتفي بينهما «وحدة الموقف إزاء الطابع غير المقبول للتصعيد» في شبه الجزيرة الكورية. وأضاف أنهما اتفقا على «ضرورة حل هذا الوضع البالغ التعقيد حصريّاً بالوسائل السياسية والدبلوماسية، من خلال استئناف المفاوضات المباشرة». ونددا «بشدة بالأعمال الاستفزازية لكوريا الشمالية التي تنتهك بشكل خطير قرارات مجلس الأمن الدولي».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.