الذاكرة الخصبة (1980) بداية مشوار ميشال خليفي السينمائي

سنوات السينما

من فيلم «الذاكرة الخصبة»
من فيلم «الذاكرة الخصبة»
TT

الذاكرة الخصبة (1980) بداية مشوار ميشال خليفي السينمائي

من فيلم «الذاكرة الخصبة»
من فيلم «الذاكرة الخصبة»

رغم أن صوت المخرج ميشال خليفي لم يعد مشاعاً وعالياً كما كان الحال عليه قبل أربعين وثلاثين سنة مضت، فإن إسهامه في تقديم سينما تسجيلية - روائية واقعية وخالية من الخطب السياسية حول فلسطين لا يزال ملكاً للتاريخ لا يمكن تغييره.
«ذكريات خصبة» كان أول أعماله. لكن خليفة كان خطط لمستقبله في السينما منذ أن اتخذ من بروكسل، بلجيكا، موطنه الثاني. اشتغل مسرحياً وأخرج أعمالا تلفزيونية ثم قدّم فيلمه الأول هذا الذي صوره كاملاً في فلسطين‫ ليعرض فيه جوانب حساسة تتعلق بالمرأة الفلسطينية، وبوجودها الاجتماعي، وبرموزها النضالية التي لا نعرف عنها سوى صور المظاهرات في الأفلام التوثيقية الأخرى.‬
تحدث خليفي عن شخصيتين حقيقيتين. لكن حقيقتهما كمادة جوهرية تتبع البيئة ذاتها حيث كل ما حولهما هو حقيقي، واقعي، وفيه طعم الحياة اليومية، جمال تلك الحياة وبساطتها المنشرحة. السيدة الأولى (فرح حاطوم) امرأة متمسكة بحقها في الأرض التي صادرها الجيش الإسرائيلي والتي يعرض الآن تسوية المسألة عبر شرائه لها. والسيدة الثانية (سحر خليفة) امرأة متمسكة بنضالها في سبيل مجتمع أفضل. في الاثنين ثورة واحدة. التعبير عنها هو الذي يختلف: السيدة الأولى ترفض بيع الأرض بعناد شديد، وبدعوة الثانية لانتفاضة المرأة العربية على نفسها أولاً، وعلى التقاليد التي من حولها.‫ ‬
صور المخرج حياة المرأتين الخاصة (الكل على حدة) في السهولة والمعايشة نفسها التي قد لا يقدر عليهما إلا مخرج كبير. خليفي يكتفي بالبيئة سنداً له، وبفهمه لها ولتواصله مع هاتين المرأتين اللتين، كباقي شخصيات الفيلم المقتصدة، لم تقف سابقاً أمام أي كاميرا أو على خشبة أي مسرح. يدلف بهما في مواقف فيها إدارة سردية، لكنه لا يتخلى قيد أنملة عن الحس الواقعي - الحقيقي للحياة اليومية، وينجب لحساب فن السينما ما يمكن أن نسميه سينما المعايشة. وطريقته في ذلك مزج التسجيلية بالمواقف السردية المطلوبة من دون دراما، ومن دون أن يؤثر ذلك على الصورة اليومية المستخلصة.
حتى منتصف الفيلم، لا يبدو أن هاتين الشخصيتين لديها روابط غير عادية مع الواقع المحيط بهما، هذا ربما باستثناء تلك الهمسات الحزينة، والتعابير الجادة والمستكينة في آن. لكن الفيلم لاحقاً يصل إلى المدرج الذي من عليه تتصاعد المواقف السياسية ثم تتدفق ومعها يتدفق الحنان الذي في الفيلم. هذا التدفق لا يرفع شعاراً بل يعلن قضية إنسانية لا نزاع فيها مهما اختلفت التفسيرات حولها أو المواقف.
الكاميرا هي من جملة الأشياء الصامتة في المكان. لا تبدو مطلقاً متداخلة ولو أن هناك ترتيباً معيناً لبعض مشاهدها بدت فيه مذكرة بوجودها.
«ذكريات خصبة» هو أيضاً أحد الأفلام العربية القليلة التي جعلت المرأة الموضوع والمحور فقط بل الكيان كله. إنها التماثل الذي يحن إليه الرجال: المرأة - المرأة، المرأة - الأرض، والمرأة - الأم. هذا التماثل مسنود بأسلوب من السرد الهادئ، بلقطات طويلة للأرض، وبحس خال من التلفيق. إنه فيلم أخاذ في صدقه وجمال طبيعته (الطبيعتان: طبيعة الفيلم وطبيعة البيئة والحياة التي ينقلها) جاء في فترة كانت امتلأت بالأفلام الحماسية التي اشترت عواطف المشاهدين بأبخس الأسعار. الإنتاج ليس عربياً، لكن الفيلم عربي بأحاسيسه وبرؤية مخرجه مروراً بشخصياته. كذلك بمكان تصويره وبمواقفه وبطروحاته وأفكاره.


مقالات ذات صلة

يوميات الشرق محمد فرّاج قبّل علم لبنان متأثراً (فراس حليمة)

الإعلامي فراس حليمة يشارك بمهرجان «الجونة السينمائي» موزعاً العلم اللبناني

فراس توجّه إلى القاهرة من الرياض كي يقوم بتغطية فعاليات المهرجان لقناة «أغاني أغاني»، حاملاً آلام وطن يئن تحت وطأة حرب قاسية كان يشعر بالارتباك.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق صبري تُعدّ نفسها ممثلة عصامية (الجونة السينمائي)

هند صبري: صُنّاع السينما العربية يخشون المجازفة ببطولات نسائية

قالت الفنانة التونسية هند صبري إنها تُعد نفسها ممثلة «عصامية»، فهي لم تدرس التمثيل لكنها تؤدي مشاهدها بإحساس فطري.

انتصار دردير (الجونة (مصر))
يوميات الشرق لقطة من الفيلم (الشركة المنتجة)

«أثر الأشباح»... يُوثّق مطاردة لاجئ سوري لـ«جلّاده» في فرنسا

ضحية يبحث عن جلاده للانتقام، لكن مع وصوله إليه تتغير نظرة الضحية للتعامل مع جلاده الذي لم يشاهد وجهه خلال التعذيب.

أحمد عدلي (الجونة (مصر))
يوميات الشرق شريفة ماهر في فيلم «رابعة العدوية» (يوتيوب)

رحيل الفنانة المصرية شريفة ماهر عن عمر 92 عاماً

رحلت عن عالمنا، السبت، الفنانة المصرية شريفة ماهر عن عمر يناهز 92 عاماً، بعد مشوار فني حافل بالعطاء في المسرح والسينما والتلفزيون.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

ألفرد هيتشكوك... سيد التشويق وسينما الألغاز

ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
TT

ألفرد هيتشكوك... سيد التشويق وسينما الألغاز

ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)
ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)

تعرِض منصة «نتفليكس» الأسبوع الحالي فيلمين متميّزين من أفلام المخرج ألفرد هيتشكوك الذي لم يوازِه أحد بعد في مجال الرّعب والتشويق واللعب على الغموض.

الفيلمان هما «سايكو» (1960)، و«الطيور» (1963)، وهما من خيرة أفلام المخرج في السنوات الـ20 الأخيرة من حياته لجانب «دوخان» (Vertigo) (1958)، و«جنون» (Frenzy) الذي كان فيلمه ما قبل الأخير سنة 1972.

لم ينل «فرنزي» حقّه كاملاً من قِبل نقاد جيل السبعينات رغم أنه نضح بكل العناصر التي جعلت من أفلام هذا المخرج أعمالاً مشهودة ورائعة. لعب على حكاية المتهم البريء والقاتل الذي لا يرتاب به أحد إنما بتجديد بديع. بعد مرور نحو 50 سنة عليه، ارتقى الفيلم بين النّقاد (أو هل نقول ارتقوا هم إليه؟) وعدّوه بدوره أحد أفضل أفلامه الأخيرة.

من «الطيور» (يونيڤرسال بيكتشرز)

قيمة فنية

الواقع هو أنه، بعد مرور 90 سنة على أول فيلم نقل ألفرد هيتشكوك إلى الاهتمام العالمي، وهو «The 39 Steps» سنة 1935، لا تزال القيمة الفنية لأعماله كافّة تتحدّث عن نفسها بوضوح. هيتشكوك كان بالفعل سيد من أتقن التشويق، لكن التشويق نفسه، وإتقانه، ليسا فعل سري يدركه سينمائي واحد ويمتنع عن آخرين. ما أضافه المخرج هو الوسيلة التي تجعل من المُشاهد شريكاً فيما يدور. يشعر بالخطر ويتلصّص على شخصيات الأفلام كما لو أنه يراقبها في الحياة العادية.

ما جعل هيتشكوك منفرداً ومميّزاً، هو الكيفية الخالصة التي عالج بها المخرج ذلك التشويق وما احتوته أفلامه من مفادات ومضامين لم يوفّرها آخرون على نحو عميق ومتواصل خلال سنوات عمله الممتدة ما بين 1922 (عندما كان في الـ23 من العمر)، و1976 (قبل 4 سنوات من وفاته).

لم تكن تلك القيمة ظاهرة لكثيرين، إلى أن تدخل نقاد فرنسيون اكتشفوا في أفلام هيتشكوك ميزات لا يمكن نكرانها.

انتبه إلى هذه الميزات في البداية، المنظّر أندريه بازان في عام 1951 عندما بدأ يُعاين أعمال هيتشكوك من وجهة نظره. ليس أن بازان كان معجباً بكل ما شاهده من أفلامه حتى ذلك الحين، لكنه من أوائل الذين انتبهوا إلى فاعلية أسلوبه التشويقي ومنحاه في استخراج ما هو أكثر من المشهد الماثل.

التبنّي النقدي الكامل لسينما هيتشكوك تم عندما أعلن كلٌ من فرنسوا تروفو، وكلود شابرو، وإريك رومير إعجابهم غير المنقوص بأفلام المخرج، في منتصف الخمسينات وبذلك ضمّوا هيتشكوك إلى سينما المؤلّفين قبل سواهم.

البريء والمجرم في «جنون» (يونيڤرسال بيكتشرز)

نبرة ساخرة

اختيار «سايكو»، و«الطيور» لعروض «نتفليكس» سيهضم حق فيلمه الثالث بين أعماله الأهم وهو «ڤرتيغو». لكن من سينتهز الفرصة للتعرّف، من جديد أو للمرّة الأولى، على إبداعات مخرج قلّ نظيره من حيث إنه صاغ من كل فيلم له حالة دامجة من الرعب والتشويق والملاحظات الإنسانية. «سايكو» بحد ذاته يحمل في طيّاته العميقة سخرية يدركها البعض منا كوننا واجهنا هذه النبرة الساخرة في الكثير من أفلامه.

«سايكو» في الوقت ذاته فيلم رعب نفسي داكن. هذا أكثر أفلام المخرج عنفاً، ونُشر كثير عن مشهد القتل في الحمّام. كيف صُوّر ووُلّف بحيث لا ظهور للعري كاملاً، ولا للطعنات تدخل الجسد، ولا دماء تنزف منه. بعض المحلّلين كتبوا أن هذا المشهد لم يكن من إخراج هيتشكوك بل من إخراج سواه (وفي فيلم Hitchcock لساشا جرڤازي، 2012)، ادعاءُ آخر بأن زوجة هيتشكوك، ألما رَڤيل، هي التي أخرجت هذا المشهد فعلاً. إنه كما لو أن هيتشكوك وقف محتاراً كيف سيُنجزه، واعتمد على آخرين ليدلوه أو يحقّقوه عوضاً عنه.

لكن المهم هنا هو التدرّج صوب المفاجأة. مادلين تبتسم لنفسها وقد قررت أن تعود صباح يوم غد وتعيد الثروة المسروقة. تخلع ثيابها وتدخل الحمّام. فجأة شبح امرأة عجوز تقتحم الشقة (وكان نورمَن اقترحها على مادلين لأنه يستطيع التلصّص عليها من ثقب في الجدار) وفي يدها سكين وتبدأ بطعن مادلين.

طيور الجريمة

أما «الطيور» فهو نوع مختلف من أفلام الرعب، ومختلف بالنسبة لما سبق أن حققه هيتشكوك قبل ذلك. مثل «سايكو» استمد هيتشكوك هذا الفيلم من حادثة حقيقية وقعت عام 1961 عندما هاجمت طيور النورس أهالي بلدة سانتا كروز في كاليفورنيا. لا يزال سبب الهجوم هذا غامض، لكن هيتشكوك قرأ الحادثة في رواية للكاتبة البوليسية دافني دو مورييه، التي كانت وضعتها قبل حادثة سانتا كروز ببضع سنوات وأعجب بها.

شاشة الفيلم هذا، تترجم لحظات الهجوم بقوّة غير منظورة. لا شكّ أن هناك مؤثرات بصرية، لكنها لا تُقاس بما وصلت إليه حالياً. على ذلك، مشاهد هجوم الطيور على تيبي هيدرن، ورود تايلور، وعدد كبير من الأولاد والبنات الصغار لا يُفوّت، كذلك مشهد هجوم أكبر التقطه هيتشكوك من الجو للطيور البيضاء والسوداء وهي تُغير على المدينة متسببة بحريق هائل.

لكن لا «سايكو»، ولا «الطيور» كانا فيلمَي رعب فقط. في عمق كلٍّ منهما ناحية حرِص المخرج على توفيرها أكثر من مرّة وهي الجانب العائلي وتحديداً العلاقة بين الرجل والأم.

في «سايكو» المجرم قتل والدته التي كانت تسيطر عليه، لكنه احتفظ بجثتها محنّطة ووجد نفسه، بلا وعي، يقوم بدورها كونها كانت تمنعه من التعرّف على أنثى سواها.

في «الطيور» نجد الأم (جيسيكا تاندي) تحرص على إفساد علاقة ابنها (رود تايلور) في أي مناسبة غرامية متوقعة بسبب خوفها من خروج ابنها من حياتها وبقائها وحيدة.