رغم أن صوت المخرج ميشال خليفي لم يعد مشاعاً وعالياً كما كان الحال عليه قبل أربعين وثلاثين سنة مضت، فإن إسهامه في تقديم سينما تسجيلية - روائية واقعية وخالية من الخطب السياسية حول فلسطين لا يزال ملكاً للتاريخ لا يمكن تغييره.
«ذكريات خصبة» كان أول أعماله. لكن خليفة كان خطط لمستقبله في السينما منذ أن اتخذ من بروكسل، بلجيكا، موطنه الثاني. اشتغل مسرحياً وأخرج أعمالا تلفزيونية ثم قدّم فيلمه الأول هذا الذي صوره كاملاً في فلسطين ليعرض فيه جوانب حساسة تتعلق بالمرأة الفلسطينية، وبوجودها الاجتماعي، وبرموزها النضالية التي لا نعرف عنها سوى صور المظاهرات في الأفلام التوثيقية الأخرى.
تحدث خليفي عن شخصيتين حقيقيتين. لكن حقيقتهما كمادة جوهرية تتبع البيئة ذاتها حيث كل ما حولهما هو حقيقي، واقعي، وفيه طعم الحياة اليومية، جمال تلك الحياة وبساطتها المنشرحة. السيدة الأولى (فرح حاطوم) امرأة متمسكة بحقها في الأرض التي صادرها الجيش الإسرائيلي والتي يعرض الآن تسوية المسألة عبر شرائه لها. والسيدة الثانية (سحر خليفة) امرأة متمسكة بنضالها في سبيل مجتمع أفضل. في الاثنين ثورة واحدة. التعبير عنها هو الذي يختلف: السيدة الأولى ترفض بيع الأرض بعناد شديد، وبدعوة الثانية لانتفاضة المرأة العربية على نفسها أولاً، وعلى التقاليد التي من حولها.
صور المخرج حياة المرأتين الخاصة (الكل على حدة) في السهولة والمعايشة نفسها التي قد لا يقدر عليهما إلا مخرج كبير. خليفي يكتفي بالبيئة سنداً له، وبفهمه لها ولتواصله مع هاتين المرأتين اللتين، كباقي شخصيات الفيلم المقتصدة، لم تقف سابقاً أمام أي كاميرا أو على خشبة أي مسرح. يدلف بهما في مواقف فيها إدارة سردية، لكنه لا يتخلى قيد أنملة عن الحس الواقعي - الحقيقي للحياة اليومية، وينجب لحساب فن السينما ما يمكن أن نسميه سينما المعايشة. وطريقته في ذلك مزج التسجيلية بالمواقف السردية المطلوبة من دون دراما، ومن دون أن يؤثر ذلك على الصورة اليومية المستخلصة.
حتى منتصف الفيلم، لا يبدو أن هاتين الشخصيتين لديها روابط غير عادية مع الواقع المحيط بهما، هذا ربما باستثناء تلك الهمسات الحزينة، والتعابير الجادة والمستكينة في آن. لكن الفيلم لاحقاً يصل إلى المدرج الذي من عليه تتصاعد المواقف السياسية ثم تتدفق ومعها يتدفق الحنان الذي في الفيلم. هذا التدفق لا يرفع شعاراً بل يعلن قضية إنسانية لا نزاع فيها مهما اختلفت التفسيرات حولها أو المواقف.
الكاميرا هي من جملة الأشياء الصامتة في المكان. لا تبدو مطلقاً متداخلة ولو أن هناك ترتيباً معيناً لبعض مشاهدها بدت فيه مذكرة بوجودها.
«ذكريات خصبة» هو أيضاً أحد الأفلام العربية القليلة التي جعلت المرأة الموضوع والمحور فقط بل الكيان كله. إنها التماثل الذي يحن إليه الرجال: المرأة - المرأة، المرأة - الأرض، والمرأة - الأم. هذا التماثل مسنود بأسلوب من السرد الهادئ، بلقطات طويلة للأرض، وبحس خال من التلفيق. إنه فيلم أخاذ في صدقه وجمال طبيعته (الطبيعتان: طبيعة الفيلم وطبيعة البيئة والحياة التي ينقلها) جاء في فترة كانت امتلأت بالأفلام الحماسية التي اشترت عواطف المشاهدين بأبخس الأسعار. الإنتاج ليس عربياً، لكن الفيلم عربي بأحاسيسه وبرؤية مخرجه مروراً بشخصياته. كذلك بمكان تصويره وبمواقفه وبطروحاته وأفكاره.
الذاكرة الخصبة (1980) بداية مشوار ميشال خليفي السينمائي
سنوات السينما
الذاكرة الخصبة (1980) بداية مشوار ميشال خليفي السينمائي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة