الكاريكاتير... لماذا يخافه المستبدون؟

مسيرته السياسية بدأت منذ القرن السادس عشر مع حركة لوثر

من كاريكاتيرات ناجي العلي - من كاريكاتيرات هيربلوك
من كاريكاتيرات ناجي العلي - من كاريكاتيرات هيربلوك
TT

الكاريكاتير... لماذا يخافه المستبدون؟

من كاريكاتيرات ناجي العلي - من كاريكاتيرات هيربلوك
من كاريكاتيرات ناجي العلي - من كاريكاتيرات هيربلوك

أبرق نجم الفنان الفلسطيني ناجي العلي كشهبٍ في سماء الكاريكاتير السياسي حتى أصبح بمثابة ضمير وصوت الشعب الفلسطيني الذي يُصدر كل يوم مع صحيفة الصباح ما يشبه بياناً حاسماً لاذعاً لا رمادي فيه: ضد الاحتلال، وضد المساومة وضد الفساد وضد كل من ثبت أنه قد حاد عن الطريق إلى فلسطين. وما لبثت أعماله أن أصبحت ظاهرة عالميّة يشار إليها عند وصف قدرة الكاريكاتير السياسي المذهلة بالتعبير عن المواقف الآيديولوجيّة وإمكاناته اللانهائيّة على بناء (الوعي) في أذهان القطاعات الشعبيّة العريضة.
كبر ناجي العلي في قدرته على توجيه جمهور القضيّة الفلسطينية حتى أصبح بمثابة خطر ماحق لا يمكن التعايش معه مع منظومة الهيمنة، فكان القرار بإسكات (حنظلة) - الشخصية التي جعل منها العلي أيقونة الفلسطينيين عبر العالم - بالرصاص الغادر لا أقل. لا شك أن من شد زناد المسدس مساء ذلك اليوم الأسود من يوليو (تموز) 1987 ليسقط العلي مضرجاً بدمائه في شارع جانبي بلندن لتتطاير رسوماته الأخيرة، لم يكن أكثر من مخلب قط لا قيمة له مقابل العلي - الرمز. بل هو لم يجرؤ حتى على مواجهته، فأصابه في رقبته من الخلف برصاصات غادرة قبل أن يفر كفأر مذعور. لكن القاتل الحقيقي سواء أكان إسرائيليّاً أو فلسطينياً - لا فرق -، لم يدرك أن الأعمال المبدعة ما إن تخرج من أنامل أصحابها حتى تكتسب حياة خاصة بها، بعيداً عن مبدعيها، في عقل وقلب جمهورها. فكيف وقد عمدت تلك الأعمال بالدم؟ لقد قتلوا ناجي العلي وهم لم يعلموا أنه صار 14000 كاريكاتير سرمديّة الوجود يستحيل تغييبها مهما أطلقوا عليها من رصاصهم الغادر.
العلي - مهنيّاً، كان استمرارية بل وتتويجاً لمسار تطور الكاريكاتير السياسي العالمي في التاريخ المعاصر للبشريّة. وهي مسيرة يقال إنها بدأت في القرن السادس عشر وتحديداً من سلسلة الأعمال الفنيّة اللاذعة التي كان ضمّنها مارتن لوثر في أعماله الواسعة الانتشار - والمثيرة للجدل -، الذي وفي إطار حربه الفكريّة الشاملة ضد بابوات روما الفاسدين تولى نشر أعمال رسامين تجرأوا على توجيه نقد لا يرحم من خلال رسومات تتصيد القبح وتضخمه عبر خطوط بسيطة. فكانت في بعض الأحيان أفعل تأثيراً بالجماهير التي غلبت عليها الأميّة أو قلة التعليم من النصوص الفكريّة المرافقة. ولعل كاريكاتير لوكاس كارناش الشديد البذاءة عن خروج البابا من الشيطان الذي نشره لوثر عام 1545 يعد علامة على انطلاق الكاريكاتير في فضاء السياسة دون أن يكون بالإمكان إعادته إلى القمقم مطلقاً.
انتبه الطغاة مبكرين لخطورة تأثير الكاريكاتير على الجماهير. ولذا فإن الفنان الفرنسي الشهير هونريه دومينه انتهى في السجن عندما رسم الملك لويس - فيليب كذات متضخمة، وتسبب في قرار الملك إعادة إجراءات الرقابة المسبقة على النشر عام 1835 بعد تعليقها في فرنسا لفترة وجيزة، رغم أن هدف تلك الإجراءات لم يكن النصوص المكتوبة بل رسومات الكاريكاتير بالذات. لويس - فيليب كان واضحاً: «المنشورات المكتوبة ليست أكثر من تعسف محتمل في الرأي، لكن رسومات الكاريكاتير بالذات ترقى لأن تكون بمثابة أعمال عنف». لم يدفع دومينه الثمن وحده، حتى ناشره تشارلز فيليبون حوكم بدوره بتهمة سماحه بنشر كاريكاتيرات دومينه لأن الفرنسيين أصبحوا يطلقون على لويس - فيليب اسم (الإجاصة) وفق ما أظهرته تلك الرسومات. وتنقل نصوص المحاكمات الفرنسيّة من تلك الفترة دفاع الناشر البليغ عن نفسه أمام القضاة: «ما ذنبي إذا كان شكله، أي لويس - فيليب، يشبه الإجاصة؟».
لا يعرف بالتحديد لماذا تمتلك الكاريكاتيرات هذه الخطورة على الوعي البشري. هناك نظريات كثيرة بين علوم الأعصاب والأنثروبولوجيا والتاريخ تحاول تقديم تفسيرات لذلك لكنها تقصر جميعاً عن تقديم جواب مقنع. لعل نظريّة البروفسور مهربيان عن أسس التواصل البشري وحدها تهمس لنا بإجابة ما: فبينما تعطي الكلمات 7 في المائة من مضمون الرسالة عند تواصل البشر مع بعضهم، فإن 38 في المائة من المضمون ينتقل عبر الصيغة التي قيلت فيها هذه الكلمات، بينما 55 في المائة منه ينقل عبر الإيحاءات البصريّة المرافقة للكلمات. مهما يكن من أمر فإن الطغاة استمروا عبر العصور في حربهم السافرة على الكاريكاتير. في بريطانيا وأثناء الحرب العالميّة الأولى أُغلقت مجلّة (الجماهير) عندما نشرت كاريكاتيراً للفنان آرت يونغ عن السيّد المسيح بوصفه مطلوباً لتجذيفه على السلطات. لم تغلق المجلة بتهمة الخروج عن النص فحسب: لقد حوكمت المجلة والقائمون عليها وفق قانون التجسس، ووصفوا بكونهم أضعفوا الروح الوطنيّة أثناء الحرب وتسببوا بضرر بالغ للمجهود الحربي. وربما لا يعرف الكثيرون أن ناشر صحيفة دير ستورمير الألمانيّة في العهد النازي كان المدني الوحيد إلى جانب كبار قادة الجيش النازي الذي أعدم إثر محاكمات نورمبيرغ بعد الحرب العالميّة الثانية. قضاة الحلفاء وقتها اعتبروا أن كاريكاتيرات المجلّة كانت بمثابة سلاحٍ ماضٍ لا يقل فعاليّة عن طائرات النازيين ودباباتهم التي اجتاحت أوروبا وكادت تخضعها لرايخ ثالث. وللحقيقة فإن خبراء الثقافة الشعبيّة اليوم يقولون إن كاريكاتيرات دير ستورمير صاغت وعلى نحو كبير شوهت صورة اليهودي في العقل الجمعي للشعب الألماني، وتحوّل كثير منها إلى بوسترات دعائيّة لآلة الحرب الآيديولوجيّة النازيّة. ولاحقاً في الولايات المتحدة فإن تآكل شعبيّة الرئيس نيكسون وصولاً إلى استقالته المذّلة من المنصب الرئاسي بعد فضيحة ووترغيت لا يمكن فهمها دون دراسة تأثير كاريكاتيرات الفنان الأميركي هيربلوك والتي شكلت عبر سنوات صورة نيكسون في عقل جيل أميركي كامل.
هل غيّر الكاريكاتير السياسي التاريخ الحديث للبشر؟ ربما ليس مباشرة، لكن هنالك إجماع على أن أداة التعبير اللاذعة هذه ومن خلال التلاعب الذكي بالمفارقات والرموز مثلت وتمثل أخطر وسيلة لنشر الأفكار بسرعة خارقة بين قطاعات واسعة من المتلقين بغض النظر عن مستوى تعليمهم أو معارفهم السابقة، لا سيما أن الكاريكاتير تحديداً ودون أشكال التعبير والإدانة الأخرى لا يمكن الردّ عليها. فأي مقالة مكتوبة يمكن الردّ عليها برسالة تفرض قوانين بعض الدول نشرها، ولكن أي ردٍ ممكنٍ على الكاريكاتير؟
يذهب البعض إلى اعتبار الكاريكاتير أبنا شرعيّاً للصحافة المطبوعة - وهو أمر لا جدال فيه -، ولذا فهم يمن دون قلقهم من غياب محتمل للكاريكاتير السياسي تحديداً مع خفوت نجم الصحف الورقيّة وتراجع أعدادها كما تأثيرها أقله مقارنة بالتشظي الانشطاري لأدوات التواصل الاجتماعي. لكن قوة هذه الأداة الهائلة تبدو مرشحة لأن تنطلق في نسق جديد لها لتعيش حياة أخرى ربما تصبح فيها أفعل في صياغة الوعي بالنظر إلى السرعة الهائلة والانتشار اللامحدود عبر القارات.
كان جمهور ناجي العلي يشتري الجريدة ليقرأها من الصفحة الأخيرة حيث كاريكاتيره اليومي. كثيرون كانوا يقصّون تلك الرسومات ويحتفظون بها في دفاترهم ليروها لأصدقائهم. تخيلوا اليوم كيف يمكن لتلك الرسومات مثلاً وبعد أن تحررت من قيودها الورقيّة وصارت كأنها أثير أن تقرأ وتتداول ويتم تبادلها بين الملايين خلال ثوان ربما وعبر جهات العالم كله.



مصر: اكتشاف ألسنة وأظافر ذهبية من العصر البطلمي بالمنيا

مجموعة من اللقى الأثرية المكتشفة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)
مجموعة من اللقى الأثرية المكتشفة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)
TT

مصر: اكتشاف ألسنة وأظافر ذهبية من العصر البطلمي بالمنيا

مجموعة من اللقى الأثرية المكتشفة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)
مجموعة من اللقى الأثرية المكتشفة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف ألسنة وأظافر ذهبية وعدد من المقابر تعود للعصر البطلمي، مزينة بنقوش وكتابات ملونة، بداخلها مجموعة من المومياوات والهياكل العظمية والتوابيت، وغيرها من اللقى الأثرية.

وتوصلت البعثة المشتركة بين مصر وإسبانيا من خلال جامعة برشلونة ومعهد الشرق الأدنى القديم، إلى هذا الكشف الأثري أثناء عمليات التنقيب بمنطقة البهنسا في محافظة المنيا (251 كيلومتراً جنوب القاهرة).

وأكد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بمصر الدكتور محمد إسماعيل خالد، أهمية هذا الكشف، واعتبره سابقة في الاكتشافات الأثرية، قائلاً: «للمرة الأولى يتم العثور بمنطقة البهنسا الأثرية على بقايا آدمية بداخلها 13 لساناً وأظافر آدمية ذهبية لمومياوات من العصر البطلمي، بالإضافة إلى عدد من النصوص والمناظر ذات الطابع المصري القديم، والتي يظهر بعضها لأول مرة في منطقة البهنسا؛ مما يُمثل إضافة كبيرة لتاريخ المنطقة، ويسلط الضوء على الممارسات الدينية السائدة في العصر البطلمي»، وفق بيان لوزارة السياحة والآثار.

لوحات ومناظر تظهر لأول مرة في البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

وأوضح أستاذ الآثار بجامعة القاهرة ومدير حفائر البعثة المشتركة الدكتور حسان إبراهيم عامر، أنه تم العثور على جعران القلب موجود في مكانه داخل المومياء، في إحدى المقابر المكتشفة، بالإضافة إلى العثور على 29 تميمة لـ«عمود جد»، وجعارين وتمائم لمعبودات مثل «حورس» و«جحوتي» و«إيزيس». في حين ذكر رئيس البعثة من الجانب الإسباني الدكتور أستر بونس ميلادو، أنه خلال أعمال الحفائر عثرت البعثة على بئر للدفن من الحجر المستطيل، تؤدي إلى مقبرة من العصر البطلمي تحتوي على صالة رئيسة تؤدي إلى ثلاث حجرات بداخلها عشرات المومياوات متراصّة جنباً إلى جنب؛ مما يشير إلى أن هذه الحجرات كانت قد استُخدمت كمقبرة جماعية.

وأضاف رئيس البعثة أنه «إلى جانب هذه البئر تم العثور على بئر أخرى للدفن تؤدي إلى ثلاث حجرات، ووجدوا جدران إحدى هذه الحجرات مزينة برسوم وكتابات ملونة، تمثل صاحب المقبرة الذي يُدعى (ون نفر) وأفراد أسرته أمام المعبودات (أنوبيس) و(أوزوريس) و(آتوم) و(حورس) و(جحوتي)».

إلى جانب ذلك، تم تزيين السقف برسم للمعبودة «نوت» (ربة السماء)، باللون الأبيض على خلفية زرقاء تحيط بها النجوم والمراكب المقدسة التي تحمل بعض المعبودات مثل «خبري» و«رع» و«آتوم»، حسب البيان.

مناظر عن العالم الآخر في مقابر البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

وكان اللافت للانتباه، وفق ما ذكرته البعثة، هو «وجود طبقة رقيقة من الذهب شديدة اللمعان على وجه المومياء التي يقوم بتحنيطها (أنوبيس)، وكذلك على وجه (أوزوريس) و(إيزيس) و(نفتيس) أمام وخلف المتوفى». وأوضحت أن «هذه المناظر والنصوص تمثل صاحب المقبرة وأفراد أسرته في حضرة معبودات مختلفة، وهي تظهر لأول مرة في منطقة البهنسا».

وقال الخبير الأثري المصري الدكتور خالد سعد إن «محتويات المقبرة توضح مدى أهمية الشخص ومستواه الوظيفي أو المادي»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «مصر وجدت الكثير من الدفنات المماثلة من العصرين اليوناني والروماني، وكانت الدفنة سليمة؛ لم يتم نبشها أو العبث بها».

ويوضح الخبير الأثري أن «الفكر الديني في ذلك الوقت كان يقول بوضع ألسنة ذهبية في فم المومياوات حتى يستطيع المتوفى أن يتكلم كلاماً صادقاً أمام مجمع الآلهة».

ألسنة ذهبية تم اكتشافها في المنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

أما بالنسبة لتلابيس الأصابع (الأظافر الذهبية)، فهذا تقليد كان ينتهجه معظم ملوك الدولة الحديثة، وتم اكتشافها من قبل في مقبرة «توت عنخ آمون»، وكانت مومياؤه بها تلابيس في أصابع اليد والقدم، وفي البهنسا تدل التلابيس والألسنة الذهبية على ثراء المتوفى.

وتعدّ قرية البهنسا (شمال المنيا) من المناطق الأثرية الثرية التي تضم آثاراً تعود للعصور المختلفة من المصري القديم إلى اليوناني والروماني والقبطي والإسلامي، وقد عثرت فيها البعثة نفسها في يناير (كانون الثاني) الماضي على عدد كبير من القطع الأثرية والمومياوات، من بينها 23 مومياء محنطة خارج التوابيت، و4 توابيت ذات شكل آدمي.

مناظر طقوسية في مقابر منطقة البهنسا بالمنيا (وزارة السياحة والآثار المصرية)

وفسّر الخبير الأثري العثور على مجموعة من الأواني الكانوبية في المقابر بأنها «تحفظ أحشاء المتوفى، وهي أربعة أوانٍ تمثل أربعة من أولاد (حورس) يرفعون أطراف الكون الأربعة، وفقاً لعقيدة الأشمونيين، ويتمثلون في ابن آوى والقرد والإنسان والصقر، ويوضع في هذه الأواني المعدة والأمعاء والقلب والكبد، وكانت على درجة عالية من الحفظ، نظراً للخبرة التي اكتسبها المحنّطون في السنوات السابقة».

وأشار إلى أن «اللقى الأثرية الأخرى الموجودة بالكشف الأثري مثل الأواني الفخارية والمناظر من الجداريات... تشير إلى أركان طقوسية مرتبطة بالعالم الآخر عند المصري القديم مثل الحساب ووزن القلب أمام ريشة (ماعت)؛ مما يشير إلى استمرارية الديانة المصرية بكافة أركانها خلال العصر اليوناني والروماني، بما يؤكد أن الحضارة المصرية استطاعت تمصير العصر اليوناني والروماني».

بدورها، أشارت عميدة كلية الآثار بجامعة أسوان سابقاً الدكتورة أماني كرورة، إلى أهمية منطقة البهنسا، واعتبرت أن الكشف الجديد يرسخ لأهمية هذه المنطقة التي كانت مكاناً لعبادة «الإله ست» في العصور المصرية القديمة، وفق قولها، وأضافت لـ«الشرق الأوسط»: «هذه المنطقة كانت تضم العديد من المعابد والمنشآت العامة، فهناك برديات تشير إلى وجود عمال مكلفين بحراسة المنشآت العامة بها؛ مما يشير إلى أهميتها».