«الشرق الأوسط» تستكشف «دمشق الصغيرة» في القاهرة

الوجبات الشعبية رهان اللاجئات... والمطاعم تجذب المصريين والأجانب

سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

«الشرق الأوسط» تستكشف «دمشق الصغيرة» في القاهرة

سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)

في أحد منازل ضاحية العبور بشرق القاهرة، تقوم مجموعة من النساء السوريات باستغلال خبرتهن في الطهي لإعداد الوصفات السورية التقليدية؛ وبعناية يقمن بتحضيرها لضمان مذاق يعمل على رواج أطباقهن التي يبتاعها منهن المصريين والأجانب في مصر على السواء، حيث تذهب تلك الأطباق مباشرة من مطابخهن إلى الزبائن بعد تسجيل الطلب تليفونيا.
نساء المطبخ السوري أطلقن على مشروعهن الصغير مسمى «زيت زيتون»، وهو اسم ترويجي من منتج سوري شهير، وهدفن من ذلك تزويد أنفسهن بمصدر جيد للمال، وتوفير دخل ثابت، وهو ما نجحن فيه بالفعل خلال السنوات الأربع الماضية، حيث لاقت صناعة الأطعمة السورية الشهيرة رواجا بين المصريين.
أما في الجهة المقابلة من القاهرة، حيث تقع ضاحية السادس من أكتوبر، فقد تخطى المطبخ السوري المنازل إلى المطاعم، ومن نطاق المشروع الصغير إلى المتوسط، بعد أن افتتح السوريون مجموعة من المطاعم لتكون مصدر رزق لهم، حيث استقر الكثير منهم في هذه المدينة بعد فرارهم من سوريا إلى مصر، مستغلين مهاراتهم ومدخّراتهم من أجل توفير لقمة العيش، واختاروا الدخول في مجال المأكولات، وهو «الرهان» الذي نجح بتفوق بعد أن جذبت المطاعم آلاف المصريين والأجانب المقيمين بالقاهرة.
الرهان على مصر لم يظهر فقط على الأرض، فقبل أيام قليلة انتشر في الفضاء الإلكتروني «تغريدات» ينصح مضمونها - الذي كتبه سوريون مقيمون في القاهرة - بالقدوم إلى مصر، مؤكدين أنها الأفضل بين جميع الدول العربية بالنسبة لهم، وذلك بعد أن طالب شاب سوري من مواطنيه تقديم النصائح إليه، والإجابة عن سؤاله «هل المعيشة بمصر جيدة؟».
منذ 6 سنوات وحتى اليوم؛ ما زالت مصر ملجأ لآلاف الأفراد والعائلات السورية اللاجئة التي جاءت تبحث عن الأمان، والفرار من ويلات الحرب في بلادهم واستمرار الصراعات، وعجزهم عن مواصلة الحياة والاستقرار هناك.

120 ألف لاجئ
ويقدر عدد اللاجئين السوريين في مصر بنصف مليون سوري في الوقت الراهن، بحسب إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي أعلنت خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي عن تسجيل مكتب المفوضية في القاهرة ما يزيد على 120 ألف لاجئ سوري، بينهم قرابة 52 ألف طفل، استضافتهم مصر، وقدمت لهم الدعم اللازم، فيما قدرت عدد اللاجئين السوريين المسجلين وغير المسجلين بمكتب المفوضية إلى نحو نصف مليون لاجئ سوري. وهو الرقم المعلن أيضا من جانب الحكومة المصرية، وفق تقديرات محمد ثروت سليم، القائم بأعمال السفارة المصرية في سوريا.
وبحسب المفوضية، التي تعمل على توفير الحماية والمساعدة للاجئين السوريين بالتعاون مع الحكومة المصرية ومجموعة من الشركاء، فإن هؤلاء اللاجئين يصارع من أجل البقاء، وكسب الرزق، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لأنفسهم، عبر توفير المستلزمات الأساسية للعيش كالطعام والرعاية الصحية والتعليم. علما بأن الوضع الاقتصادي الصعب في مصر المترافق مع تدهور في سعر صرف الجنيه المصري أدى إلى ارتفاع شديد في أسعار المنتجات وتكاليف المعيشة.
وتوضح المفوضية أن «مصر لا تدير مخيمات للاجئين، لذا يجب على هؤلاء الأشخاص أن يعولوا أنفسهم إلى أن يتم تسجيلهم كلاجئين». وهو ما بادر إليه السوريون بتأسيس مشروعات صغيرة في مصر تدعمهم على المعيشة، والتي تعتمد على تقديم الخدمات إلى المواطنين المصريين، والحصول على الأموال للإنفاق على أسرهم وغيرهم من النازحين، وهو الوضع الذي يصفه القائم بالأعمال المصري بأن «السوريين نجحوا جميعاً في الاندماج في المجتمع المصري».
أسباب هذا النجاح يُرجعها «فضل»، الذي اصطحب أسرته إلى القاهرة منذ عام 2012، إلى أن مصر تطبق سياسة الباب المفتوح. وعندما التقى اللاجئ الأربعيني المفوضية لأول مرة في القاهرة قال: «أتينا إلى مصر ليس لإمكانية دخولها بطرق قانونية فحسب، بل لأننا سمعنا أن الحياة فيها أرخص بكثير من الدول الأخرى».
سبب آخر يتمثل في ترحيب الشعب المصري باللاجئين السوريين، بل واستقبالهم في منازلهم واقتسام مواردهم الضئيلة معهم. وبحسب «فضل»: «فإنهم عاملونا بشكل جيد»، مضيفاً أنه سعيد بقدوم أسرته إلى مصر عوضاً عن التوجه إلى تركيا، أو الأردن أو العراق التي تستضيف أعداداً أكبر كثيراً من اللاجئين يقيم العديد منهم في المخيمات.
تتيح مصر لـ«فضل» ولآلاف غيره الحق في الوصول الكامل والمجاني لنفس الخدمات العامة المقدمة للمصريين، كما يتمتع السوريون بالرعاية الصحية نفسها وخدمات التعليم الأساسي والعالي، كما تسجل مصر أعلى معدلات التحاق لأطفال اللاجئين السوريين بالمدارس، حيث يبلغ عدد الطلاب المسجلين في المدارس 39.314 طالبا سوريا، ويبلغ عدد الطلاب السوريين المسجلين في الجامعات المصرية نحو 14 ألف طالب بالجامعات، وفق إحصائيات رسمية للخارجية المصرية.
وفيما وقعت الحكومة المصرية والأمم المتحدة في فبراير (شباط) 2015 خطة رئيسية لمساعدة اللاجئين السوريين في مصر، عبر الاستفادة من برامج المساعدة، والتركيز النوعي على سبل العيش، وخلق فرص اقتصادية؛ يُقر لاجئون مقيمون بمصر بأنها هي الأفضل للعمل؛ كونها تمتلك السوق الداخلية الأكبر عربيا، والموقع الجغرافي الأفضل والأقرب إلى الأسواق التصديرية في الخليج وأفريقيا وأوروبا.

المستثمر الأول في مصر
واستنادا لتقارير الأمم المتحدة، يعتبر السوري هو المستثمر الأول في مصر خلال السنوات الست الماضية. فيما يؤكد خبراء اقتصاديون مصريون، أن السوريين استطاعوا أن يخلقوا توازنا اقتصاديا، وأن يدخلوا في عجلة الاقتصاد كمنتجين ومستهلكين.
ويؤكد تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، صدر في مايو (أيار) الماضي، نجاح السوريين في إنشاء مشروعات تجارية واستثمارات تقدر بـ800 مليون دولار في السوق المصرية منذ عام 2011 إلى الآن.
وأشار التقرير، الذي حمل عنوان «توفير فرص العمل يحدث الأثر المنشود»، إلى أن السوريين استطاعوا الدخول إلى الاقتصاد المصري، والمشاركة برأس مال قدر بالملايين خلال السنوات الماضية، رغم أن عددا كبيرا من الصعوبات التي واجهتهم مثل الحصول على تراخيص العمل، وإن كان من المحتمل أن يكون هذا التقدير أقل من الرقم الفعلي، لأن عددا كبيرا من المشروعات التجارية السورية لا تكون مسجلة، أو تسجل تحت اسم مصري.
وذكر التقرير أن المشروعات السورية تدخل في عدد كبير من القطاعات مثل النسيج والمطاعم والأسواق المحلية، وشركات تكنولوجيا المعلومات، بجانب أن عددا كبيرا من المصريين يعمل فيها، إضافة إلى أن الشركات السورية توفر التدريب للمصريين، وتضخ العملة الأجنبية، وتعزز الصادرات.
ونوه التقرير إلى أنه رغم صعوبات إنشاء مشروعات تجارية في مصر، فإنه تبين أن مصر من بين الأماكن الأكثر استقطابا للاجئين السوريين الراغبين في إنشاء مشروعات، لعدة أسباب؛ منها رغبة المصريين في السماح لهذه الشركات بالازدهار، وكبر السوق وسلسلة الإمداد في مصر، ووجود جالية من رجال الأعمال السوريين المقيمين مثل (جمعية رجال الأعمال السوريين)، والعديد من المنظمات غير الحكومية التي يديرها السوريون.
«الأثر المنشود»، بعيداً عن الإحصائيات يمكن لمسه فعليا على أرض الواقع في مناطق بعينها في مصر مثل: التجمع ومدينة نصر والشروق ومدينة السادس من أكتوبر، والأخيرة بصفة خاصة تحظى بالنصيب الأكبر من التواجد السوري، وهو ما دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إليها لرصد واقع السوريين فيها على الطبيعة.

أسماء جاذبة للمستهلك
فما أن تطأ القدم المدينة، التي تنصف كأحد المجتمعات العمرانية الجديدة بمصر، إلا ويُرى التواجد السوري جليا، فالمشروعات التجارية السورية تُلمس من خلال رؤية العدد الكبير من المحلات ذات الأسماء السورية لا سيما المطاعم، فالزائر للمدينة ليس غريباً عليه أن يتجول بين مطاعم ومحال ترفع أسماء «الشامي» و«الحلبي»، و«الدمشقي»، أو «باب الحارة»، و«ست الشام»، و«الركن الدمشقي»، و«ريف دمشق»... وهي الأسماء الكفيلة بجذب الزبائن إلى منتجاتها.
في الحي السابع بالمدينة يسمى الشارع التجاري الأبرز باسم «سوريا» أو «دمشق الصغيرة»، وسبب التسمية أن كل شيء فيه يحمل الروح السورية بدءا من المطاعم، التي تتخصص في تقديم الفلافل السورية المصنوعة من الحمص، والشاورما والمناقيش، والفتة والكباب الحلبي، وهي الأطعمة ذات السمعة الجيدة في السوق المصرية.
وبجانب المطاعم هناك محلات أخرى تتخصص في بيع منتجات سورية مثل الجبن والمكسرات وزيت الزيتون، وهناك متاجر الملابس، والعصائر، وباعة الخردوات، إلى جانب عدد من المقاهي.
وعلى نطاق واسع؛ تنتشر بالمدينة محلات صناعة الحلوى السورية والشامية، وأبرزها بلح الشام المقرمش والمهلبية السورية، إلى جانب الحلويات الشامية الأصلية كالكنافة النابلسية والقطايف والنمورة والمعمول والعوامة والبسبوسة وغيرها.
ويسرد محمد، وهو أحد الطلاب السوريين الدارسين بإحدى جامعات السادس من أكتوبر، أن التواجد التجاري السوري ظهر في بداية الأمر من خلال المطاعم السورية التي انتشرت بشكل سريع مع وفود عدد كبير من أهل سوريا، حيث أقبل المصريون على هذه المأكولات السورية بصورة لافتة للنظر، بل ذاع صيت العديد منها خلال السنوات الماضية لتنافس أكبر المطاعم المصرية ومطاعم «التيك أواي» الشهيرة التي تزدحم بها القاهرة والمحافظات المصرية.
ويتابع: «المصريون لا يعتبروننا ضيوفاً لديهم ولكنهم يعاملوننا على أننا أصحاب مكان، وهو ما منح السوريين حرية في العمل، سواء عبر العمل الحرفي، أو إقامة مشروعات تجارية وصناعية، وهو ما جعل النشاط الاقتصادي يتوسع إلى حد كبير خلال الفترة الماضية».
«ظهرت المطاعم قبل 6 سنوات، لكن الأمر تبدل الآن بعد أن بدأت النشاطات التجارية الأخرى في الظهور تباعا»، هذا ما ترويه رضوى، ربة منزل مصرية، التقتها «الشرق الأوسط» حيث كانت تتسوق في الشارع التجاري السوري بالمدينة، مضيفة أن المنتجات السورية وجدت طريقها للمنازل المصرية بعد أن لاقت رواجا كبيرا، لافتة إلى أن نشاطات السوريين في مصر حاليا لم تعد مقصورة على تجارة أو نشاط بعينه.
وتكمل حديثها: «بين عشية وضحاها انتشر السوريون بيننا من خلال افتتاح أنشطة متعددة، منها مغاسل تنظيف السجاد، ومغاسل السيارات، وتجارة بيع السيارات المستعملة، وصالونات التجميل، ومحلات بيع الآيس كريم، ومحلات بيع وصيانة أجهزة الجوال المحمولة، إلى جانب لجوء عدد كبير من السيدات السوريات إلى بيع الوجبات والحلويات السورية، وتوسعهن في الأعمال اليدوية بجميع أنواعها، خاصة المفروشات والإكسسوارات، بخلاف انتشار السوريين في عشرات المحلات كبائعين».
داخل أحد المطاعم السورية، يقول العامل «أبو علي»: «غالبية السوريين هنا (في حي 6 أكتوبر) كان لهم أعمال دائمة في دمشق والمدن الأخرى، وجميعهم من الأيدي العاملة والماهرة، وغادروا البلاد وسط ظروف معيشية صعبة، ولكنهم حملوا معهم بعضا مما اشتهر به المطبخ السوري، وهو ما أتاح لنا العمل هنا بعمل مفيد. ومع البراعة والحرفية في الصنعة تمكن السوريون من وضع بصمتهم في أرجاء مصر بمحلاتهم ومطاعمهم التي تقدم الوجبات الشعبية، والتي تعتبر جاذبة لمعظم المصريين بمختلف فئاتهم، ومناسبة لكل طبقاتهم الاجتماعية، بل أصبح لكل مطعم قاعدة من الزبائن الذين يقصدونه باستمرار لتذوق أطباق المطبخ السوري».
وبرأي «أبو علي» أن «تركز غالبية المشروعات والأنشطة الاقتصادية السورية في المطاعم يعود إلى كون الطعام أحد مظاهر التعبير عن التراث والثقافة، وبالتالي يحاول اللاجئون السوريون التعبير عما يحملونه من حنين لتراثهم، وكشكل من أشكال التمسك بأحد مظاهر الثقافة الأكثر وضوحا في البلاد والمتمثلة في المطبخ السوري».



مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
TT

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)

أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.

وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.

أزمات ومعارك

أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».

ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.

وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.

وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.

ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.

حشد من الأتراك يحتفلون وسط إسطنبول فوق دبابة هجرها ضباط من الجيش بعد محاولة انقلاب فاشلة في 16 يوليو 2016 (غيتي)

مواجهة أخيرة

كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.

ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.

صعود اقتصادي وتقلبات سياسية

استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.

ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.

وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... ربع قرن عاصف بالتحولات (غيتي)

بين الكرد والقوميين

جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.

الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.

وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.

وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.

وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».

وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.

إردوغان (يمين) ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في ديار بكر جنوب تركيا نوفمبر 2013 (غيتي)

ألغاز السياسة الخارجية

ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.

وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.

واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.

وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند سبتمبر 2022 (أ.ف.ب)

هواجس المستقبل

الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».

يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.

كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.