«الشرق الأوسط» تستكشف «دمشق الصغيرة» في القاهرة

الوجبات الشعبية رهان اللاجئات... والمطاعم تجذب المصريين والأجانب

سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

«الشرق الأوسط» تستكشف «دمشق الصغيرة» في القاهرة

سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)

في أحد منازل ضاحية العبور بشرق القاهرة، تقوم مجموعة من النساء السوريات باستغلال خبرتهن في الطهي لإعداد الوصفات السورية التقليدية؛ وبعناية يقمن بتحضيرها لضمان مذاق يعمل على رواج أطباقهن التي يبتاعها منهن المصريين والأجانب في مصر على السواء، حيث تذهب تلك الأطباق مباشرة من مطابخهن إلى الزبائن بعد تسجيل الطلب تليفونيا.
نساء المطبخ السوري أطلقن على مشروعهن الصغير مسمى «زيت زيتون»، وهو اسم ترويجي من منتج سوري شهير، وهدفن من ذلك تزويد أنفسهن بمصدر جيد للمال، وتوفير دخل ثابت، وهو ما نجحن فيه بالفعل خلال السنوات الأربع الماضية، حيث لاقت صناعة الأطعمة السورية الشهيرة رواجا بين المصريين.
أما في الجهة المقابلة من القاهرة، حيث تقع ضاحية السادس من أكتوبر، فقد تخطى المطبخ السوري المنازل إلى المطاعم، ومن نطاق المشروع الصغير إلى المتوسط، بعد أن افتتح السوريون مجموعة من المطاعم لتكون مصدر رزق لهم، حيث استقر الكثير منهم في هذه المدينة بعد فرارهم من سوريا إلى مصر، مستغلين مهاراتهم ومدخّراتهم من أجل توفير لقمة العيش، واختاروا الدخول في مجال المأكولات، وهو «الرهان» الذي نجح بتفوق بعد أن جذبت المطاعم آلاف المصريين والأجانب المقيمين بالقاهرة.
الرهان على مصر لم يظهر فقط على الأرض، فقبل أيام قليلة انتشر في الفضاء الإلكتروني «تغريدات» ينصح مضمونها - الذي كتبه سوريون مقيمون في القاهرة - بالقدوم إلى مصر، مؤكدين أنها الأفضل بين جميع الدول العربية بالنسبة لهم، وذلك بعد أن طالب شاب سوري من مواطنيه تقديم النصائح إليه، والإجابة عن سؤاله «هل المعيشة بمصر جيدة؟».
منذ 6 سنوات وحتى اليوم؛ ما زالت مصر ملجأ لآلاف الأفراد والعائلات السورية اللاجئة التي جاءت تبحث عن الأمان، والفرار من ويلات الحرب في بلادهم واستمرار الصراعات، وعجزهم عن مواصلة الحياة والاستقرار هناك.

120 ألف لاجئ
ويقدر عدد اللاجئين السوريين في مصر بنصف مليون سوري في الوقت الراهن، بحسب إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي أعلنت خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي عن تسجيل مكتب المفوضية في القاهرة ما يزيد على 120 ألف لاجئ سوري، بينهم قرابة 52 ألف طفل، استضافتهم مصر، وقدمت لهم الدعم اللازم، فيما قدرت عدد اللاجئين السوريين المسجلين وغير المسجلين بمكتب المفوضية إلى نحو نصف مليون لاجئ سوري. وهو الرقم المعلن أيضا من جانب الحكومة المصرية، وفق تقديرات محمد ثروت سليم، القائم بأعمال السفارة المصرية في سوريا.
وبحسب المفوضية، التي تعمل على توفير الحماية والمساعدة للاجئين السوريين بالتعاون مع الحكومة المصرية ومجموعة من الشركاء، فإن هؤلاء اللاجئين يصارع من أجل البقاء، وكسب الرزق، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لأنفسهم، عبر توفير المستلزمات الأساسية للعيش كالطعام والرعاية الصحية والتعليم. علما بأن الوضع الاقتصادي الصعب في مصر المترافق مع تدهور في سعر صرف الجنيه المصري أدى إلى ارتفاع شديد في أسعار المنتجات وتكاليف المعيشة.
وتوضح المفوضية أن «مصر لا تدير مخيمات للاجئين، لذا يجب على هؤلاء الأشخاص أن يعولوا أنفسهم إلى أن يتم تسجيلهم كلاجئين». وهو ما بادر إليه السوريون بتأسيس مشروعات صغيرة في مصر تدعمهم على المعيشة، والتي تعتمد على تقديم الخدمات إلى المواطنين المصريين، والحصول على الأموال للإنفاق على أسرهم وغيرهم من النازحين، وهو الوضع الذي يصفه القائم بالأعمال المصري بأن «السوريين نجحوا جميعاً في الاندماج في المجتمع المصري».
أسباب هذا النجاح يُرجعها «فضل»، الذي اصطحب أسرته إلى القاهرة منذ عام 2012، إلى أن مصر تطبق سياسة الباب المفتوح. وعندما التقى اللاجئ الأربعيني المفوضية لأول مرة في القاهرة قال: «أتينا إلى مصر ليس لإمكانية دخولها بطرق قانونية فحسب، بل لأننا سمعنا أن الحياة فيها أرخص بكثير من الدول الأخرى».
سبب آخر يتمثل في ترحيب الشعب المصري باللاجئين السوريين، بل واستقبالهم في منازلهم واقتسام مواردهم الضئيلة معهم. وبحسب «فضل»: «فإنهم عاملونا بشكل جيد»، مضيفاً أنه سعيد بقدوم أسرته إلى مصر عوضاً عن التوجه إلى تركيا، أو الأردن أو العراق التي تستضيف أعداداً أكبر كثيراً من اللاجئين يقيم العديد منهم في المخيمات.
تتيح مصر لـ«فضل» ولآلاف غيره الحق في الوصول الكامل والمجاني لنفس الخدمات العامة المقدمة للمصريين، كما يتمتع السوريون بالرعاية الصحية نفسها وخدمات التعليم الأساسي والعالي، كما تسجل مصر أعلى معدلات التحاق لأطفال اللاجئين السوريين بالمدارس، حيث يبلغ عدد الطلاب المسجلين في المدارس 39.314 طالبا سوريا، ويبلغ عدد الطلاب السوريين المسجلين في الجامعات المصرية نحو 14 ألف طالب بالجامعات، وفق إحصائيات رسمية للخارجية المصرية.
وفيما وقعت الحكومة المصرية والأمم المتحدة في فبراير (شباط) 2015 خطة رئيسية لمساعدة اللاجئين السوريين في مصر، عبر الاستفادة من برامج المساعدة، والتركيز النوعي على سبل العيش، وخلق فرص اقتصادية؛ يُقر لاجئون مقيمون بمصر بأنها هي الأفضل للعمل؛ كونها تمتلك السوق الداخلية الأكبر عربيا، والموقع الجغرافي الأفضل والأقرب إلى الأسواق التصديرية في الخليج وأفريقيا وأوروبا.

المستثمر الأول في مصر
واستنادا لتقارير الأمم المتحدة، يعتبر السوري هو المستثمر الأول في مصر خلال السنوات الست الماضية. فيما يؤكد خبراء اقتصاديون مصريون، أن السوريين استطاعوا أن يخلقوا توازنا اقتصاديا، وأن يدخلوا في عجلة الاقتصاد كمنتجين ومستهلكين.
ويؤكد تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، صدر في مايو (أيار) الماضي، نجاح السوريين في إنشاء مشروعات تجارية واستثمارات تقدر بـ800 مليون دولار في السوق المصرية منذ عام 2011 إلى الآن.
وأشار التقرير، الذي حمل عنوان «توفير فرص العمل يحدث الأثر المنشود»، إلى أن السوريين استطاعوا الدخول إلى الاقتصاد المصري، والمشاركة برأس مال قدر بالملايين خلال السنوات الماضية، رغم أن عددا كبيرا من الصعوبات التي واجهتهم مثل الحصول على تراخيص العمل، وإن كان من المحتمل أن يكون هذا التقدير أقل من الرقم الفعلي، لأن عددا كبيرا من المشروعات التجارية السورية لا تكون مسجلة، أو تسجل تحت اسم مصري.
وذكر التقرير أن المشروعات السورية تدخل في عدد كبير من القطاعات مثل النسيج والمطاعم والأسواق المحلية، وشركات تكنولوجيا المعلومات، بجانب أن عددا كبيرا من المصريين يعمل فيها، إضافة إلى أن الشركات السورية توفر التدريب للمصريين، وتضخ العملة الأجنبية، وتعزز الصادرات.
ونوه التقرير إلى أنه رغم صعوبات إنشاء مشروعات تجارية في مصر، فإنه تبين أن مصر من بين الأماكن الأكثر استقطابا للاجئين السوريين الراغبين في إنشاء مشروعات، لعدة أسباب؛ منها رغبة المصريين في السماح لهذه الشركات بالازدهار، وكبر السوق وسلسلة الإمداد في مصر، ووجود جالية من رجال الأعمال السوريين المقيمين مثل (جمعية رجال الأعمال السوريين)، والعديد من المنظمات غير الحكومية التي يديرها السوريون.
«الأثر المنشود»، بعيداً عن الإحصائيات يمكن لمسه فعليا على أرض الواقع في مناطق بعينها في مصر مثل: التجمع ومدينة نصر والشروق ومدينة السادس من أكتوبر، والأخيرة بصفة خاصة تحظى بالنصيب الأكبر من التواجد السوري، وهو ما دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إليها لرصد واقع السوريين فيها على الطبيعة.

أسماء جاذبة للمستهلك
فما أن تطأ القدم المدينة، التي تنصف كأحد المجتمعات العمرانية الجديدة بمصر، إلا ويُرى التواجد السوري جليا، فالمشروعات التجارية السورية تُلمس من خلال رؤية العدد الكبير من المحلات ذات الأسماء السورية لا سيما المطاعم، فالزائر للمدينة ليس غريباً عليه أن يتجول بين مطاعم ومحال ترفع أسماء «الشامي» و«الحلبي»، و«الدمشقي»، أو «باب الحارة»، و«ست الشام»، و«الركن الدمشقي»، و«ريف دمشق»... وهي الأسماء الكفيلة بجذب الزبائن إلى منتجاتها.
في الحي السابع بالمدينة يسمى الشارع التجاري الأبرز باسم «سوريا» أو «دمشق الصغيرة»، وسبب التسمية أن كل شيء فيه يحمل الروح السورية بدءا من المطاعم، التي تتخصص في تقديم الفلافل السورية المصنوعة من الحمص، والشاورما والمناقيش، والفتة والكباب الحلبي، وهي الأطعمة ذات السمعة الجيدة في السوق المصرية.
وبجانب المطاعم هناك محلات أخرى تتخصص في بيع منتجات سورية مثل الجبن والمكسرات وزيت الزيتون، وهناك متاجر الملابس، والعصائر، وباعة الخردوات، إلى جانب عدد من المقاهي.
وعلى نطاق واسع؛ تنتشر بالمدينة محلات صناعة الحلوى السورية والشامية، وأبرزها بلح الشام المقرمش والمهلبية السورية، إلى جانب الحلويات الشامية الأصلية كالكنافة النابلسية والقطايف والنمورة والمعمول والعوامة والبسبوسة وغيرها.
ويسرد محمد، وهو أحد الطلاب السوريين الدارسين بإحدى جامعات السادس من أكتوبر، أن التواجد التجاري السوري ظهر في بداية الأمر من خلال المطاعم السورية التي انتشرت بشكل سريع مع وفود عدد كبير من أهل سوريا، حيث أقبل المصريون على هذه المأكولات السورية بصورة لافتة للنظر، بل ذاع صيت العديد منها خلال السنوات الماضية لتنافس أكبر المطاعم المصرية ومطاعم «التيك أواي» الشهيرة التي تزدحم بها القاهرة والمحافظات المصرية.
ويتابع: «المصريون لا يعتبروننا ضيوفاً لديهم ولكنهم يعاملوننا على أننا أصحاب مكان، وهو ما منح السوريين حرية في العمل، سواء عبر العمل الحرفي، أو إقامة مشروعات تجارية وصناعية، وهو ما جعل النشاط الاقتصادي يتوسع إلى حد كبير خلال الفترة الماضية».
«ظهرت المطاعم قبل 6 سنوات، لكن الأمر تبدل الآن بعد أن بدأت النشاطات التجارية الأخرى في الظهور تباعا»، هذا ما ترويه رضوى، ربة منزل مصرية، التقتها «الشرق الأوسط» حيث كانت تتسوق في الشارع التجاري السوري بالمدينة، مضيفة أن المنتجات السورية وجدت طريقها للمنازل المصرية بعد أن لاقت رواجا كبيرا، لافتة إلى أن نشاطات السوريين في مصر حاليا لم تعد مقصورة على تجارة أو نشاط بعينه.
وتكمل حديثها: «بين عشية وضحاها انتشر السوريون بيننا من خلال افتتاح أنشطة متعددة، منها مغاسل تنظيف السجاد، ومغاسل السيارات، وتجارة بيع السيارات المستعملة، وصالونات التجميل، ومحلات بيع الآيس كريم، ومحلات بيع وصيانة أجهزة الجوال المحمولة، إلى جانب لجوء عدد كبير من السيدات السوريات إلى بيع الوجبات والحلويات السورية، وتوسعهن في الأعمال اليدوية بجميع أنواعها، خاصة المفروشات والإكسسوارات، بخلاف انتشار السوريين في عشرات المحلات كبائعين».
داخل أحد المطاعم السورية، يقول العامل «أبو علي»: «غالبية السوريين هنا (في حي 6 أكتوبر) كان لهم أعمال دائمة في دمشق والمدن الأخرى، وجميعهم من الأيدي العاملة والماهرة، وغادروا البلاد وسط ظروف معيشية صعبة، ولكنهم حملوا معهم بعضا مما اشتهر به المطبخ السوري، وهو ما أتاح لنا العمل هنا بعمل مفيد. ومع البراعة والحرفية في الصنعة تمكن السوريون من وضع بصمتهم في أرجاء مصر بمحلاتهم ومطاعمهم التي تقدم الوجبات الشعبية، والتي تعتبر جاذبة لمعظم المصريين بمختلف فئاتهم، ومناسبة لكل طبقاتهم الاجتماعية، بل أصبح لكل مطعم قاعدة من الزبائن الذين يقصدونه باستمرار لتذوق أطباق المطبخ السوري».
وبرأي «أبو علي» أن «تركز غالبية المشروعات والأنشطة الاقتصادية السورية في المطاعم يعود إلى كون الطعام أحد مظاهر التعبير عن التراث والثقافة، وبالتالي يحاول اللاجئون السوريون التعبير عما يحملونه من حنين لتراثهم، وكشكل من أشكال التمسك بأحد مظاهر الثقافة الأكثر وضوحا في البلاد والمتمثلة في المطبخ السوري».



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.