صفقة «داعش» و«حزب الله» تكشف المستور

الغريب أن يلتقي التنظيم ذو الأصل «الزرقاوي» مع عدوه التاريخي الذراع الأبرز لنظام الولي الفقيه

قافلة من سيارات الإسعاف تنقل جرحى «داعش» من الجرود إلى شرق سوريا بموجب الصفقة الجديدة مع «حزب الله» (أ.ف.ب)
قافلة من سيارات الإسعاف تنقل جرحى «داعش» من الجرود إلى شرق سوريا بموجب الصفقة الجديدة مع «حزب الله» (أ.ف.ب)
TT

صفقة «داعش» و«حزب الله» تكشف المستور

قافلة من سيارات الإسعاف تنقل جرحى «داعش» من الجرود إلى شرق سوريا بموجب الصفقة الجديدة مع «حزب الله» (أ.ف.ب)
قافلة من سيارات الإسعاف تنقل جرحى «داعش» من الجرود إلى شرق سوريا بموجب الصفقة الجديدة مع «حزب الله» (أ.ف.ب)

تأتي الوقائع على عكس مضامين وأهداف الأضداد الأصولية وجماعات التطرف العنيف، سنية وشيعية على السواء، ففي النهاية المصلحة مقدمة على سواها. ورغم تكدس مفردات التوحد والتوحيد بين الفصائل المسلحة، كانت الحرب فيما بينها أبرز وقائعها، وكانت الزعامة والتغلب أعلى أهدافها، بل إن غريزة بقاء التنظيم وانتصار الكيان الميكافيلية أعمق عندها من الانتصار الآيديولوجي أو العقدي الذي ينتحر في سبيله العوام فقط.

بينما يحضر الآخر الطائفي مدنسّاً عند عوام وعناصر التطرف في الجهتين، لم يمنع الواقع وأكدت الوقائع إمكانية تقاربهما في تحقيق مصلحة مشتركة، هكذا التقت عناصر «القاعدة» المتورطة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) سنة 2001 مع عناصر الحرس الثوري، وكانت إيران ملاذاً آمناً لعناصرها، وتم تدريب بعض طلائعها المقاتلة على يد عناصر «حزب الله» وقائدها الراحل عماد مغنية، كما أثبتت وثائق وتقرير سبتمبر فيما بعد.
لكن الغريب أن تلتقي «داعش»، ذات الأصل الزرقاوي وتتفق مع حزب الله، عدوها التاريخي، والذراع الأبرز لنظام الولي الفقيه الإيراني والداعم الأهم لبقاء النظام السوري، وبرعاية الأخير، كما شهدنا في اتفاقية - أو صفقة - «حزب الله» الأخيرة - مع عناصر «داعش»، أواخر أغسطس (آب) الماضي.
ولكن إذا استحضرنا أن الزرقاوي نفسه بعد حرب أفغانستان وفراره من هيرات أقام عامين في إيران، كما ذكر سيف العدل القائد العسكري لـ«القاعدة» في سيرته وترجمته فيما بعد، وأن كثيرين غيره كذلك كان ملاذهم فيها، كما كانت وصايا بن لادن تتوالى توصي بإيران خيراً، وبعدم استهدافها لأسباب مختلفة، وليس فقط بسبب لواذ ولجوء عشرات الأسر لعناصر «القاعدة» بها، كما أثبتت وثائق أبوت آباد التي وُجدت في بيته، لبدا الأمر ممكناً ومحتملاً باستمرار.
ونرى احتمالية التلاقي بين «داعش» و«الجهاديات الإيرانية» قائمة دائماً، - كون الأخيرة تابعة نظام ودولة الولي الفقيه تستهدف مصالحها وحماية حلفائها وأوليائها، هكذا فعل «حزب الله» في الاتفاق الأخير، وقبل الأسد ويسمح دائماً باتفاق منفرد لـ«حزب الله» مع «داعش» طالما أوجبت المصلحة ذلك، خصوصاً أن داعش في موقف ضعف بعد انهيار دولتها وسطوتها، ولكن في السابق - ووفق ما توجبه المصلحة أيضاً - ترك الأسد لها معسكر الطبقة حراً، كما ترك لها كثيراً من المدن ومخازن السلاح دون أن يلقي بالاً لغير نظامه وبقائه في سوريا، أو مخاطر قوتها على دول الجوار له، وفي السابق وبعد تحرير العراق من نظام صدام حسين سنة 2003 كانت الحدود السورية دائماً موئلاً ومورداً رئيسياً للمتطرفين من مختلف أنحاء العالم للدخول للعراق، وقد ثارت ثائرة المدن الشيعية مرات كثيرة تهتف بسقوط الإرهاب والنظام السوري الذي يدعمه وييسر له الطريق، كما كان في أحداث الحلة سنة 2008.

صفقة خطيرة وردود فعل غاضبة
أثار اتفاق «حزب الله» و«داعش» يوم السبت 26 أغسطس الماضي كثيراً من الأسئلة والهواجس، حيث التقى الشتيتان الأصوليان بعد الظن «كل الظن ألا تلاقيا»، واستثار هذا الاتفاق الكثير من الرفقاء والحلفاء لكل طرف، خصوصاً «حزب الله»، الطرف الأقوى في معادلته بعد تراجع «داعش»، ولكن كونه تم تحت رعاية نظام بشار الأسد، الذي ذكر أنه يوافق على مثل هذا من «حزب الله»، وأنه لا مانع لديه متى أراد الحزب - الذراع اللبنانية لنظام الولي الفقيه - لكنه لا يقبله من الجيش اللبناني إلا بعد الاستئذان وطلب ذلك، كما جاء في تصريحات للسيد حسن نصر الأمين العام لـ«حزب الله» يوم 1 سبتمبر (أيلول) الحالي، نشرتها وكالة «إرنا» الإيرانية وإعلام الحزب.
وقد كشف «حزب الله» وذراعه الإعلامية يوم الأحد 27 أغسطس الماضي أنه سيتم نقل قافلة مسلحي «داعش» ستنسحب من الحدود اللبنانية - السورية إلى مدينة البوكمال السورية في ريف دير الزور الشرقي، عبر اتفاق بين الطرفين السبت 26 أغسطس، وافقت عليه دمشق. وقال الإعلام المركزي الحربي في بيان أمس، إن المنطقة التي ستتوجه إليها قافلة مسلحي «داعش» وعائلاتهم هي مدينة البوكمال السورية في ريف دير الزور الشرقي، بحسب ما تم الاتفاق عليه.
تساءل البعض عن صمت مرجعية النجف وعدم إدانة اتفاق «حزب الله» و«داعش» على نقل عناصر «داعش» من الجرود اللبنانية إلى الحدود السورية العراقية، التي تمتد لأكثر من ستمائة كيلومتر، وتهدد عودة عناصر «داعش» إليها عودة خطرها من جديد رغم الانتصارات الأخيرة التي حققها التحالف والجيش العراقي في نينوى وتلعفر وغيرها، ولكن يبدو أن المرجعية واعية بالهدف الإيراني الذي يعمل لمصلحة الأسد، ولم يشغله صالح العراق طويلاً. تصاعد الرفض العراقي الرسمي ممثلاً في تصريح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الثلاثاء 29 أغسطس الماضي، وكذلك الكتل السياسية العراقية المختلفة لرفض اتفاق «حزب الله» و«داعش» برعاية النظام السوري، الذي يقضي بنقل عناصر التنظيم من الحدود اللبنانية السورية إلى الحدود العراقية السورية، مهد الطريق لكثير من الانتقادات التي تصاعدت، مناشدة العبادي رفض الصفقة والمطالبة بإلغائها.
حذر سليم الجبوري رئيس مجلس النواب يوم الأربعاء 30 أغسطس من العودة إلى المربع الأول والتنكر لـ«دماء الشهداء»، مؤكداً رفضه لأي اتفاق من شأنه أن يعيد تنظيم داعش إلى العراق أو يقربه من حدوده، وأضاف أن العراق لن يدفع ضريبة اتفاقات أو توافقات تمس أمنه واستقراره. ودعا الحكومة الاتحادية لاتخاذ كل التدابير اللازمة من أجل مواجهة تداعيات هذه الصفقة.كما وجه لجنة الأمن والدفاع بالتحرك السريع لتقصي الحقائق وتقديم تقرير مفصل يوضح لمجلس النواب تداعيات الاتفاق المبرم بين «حزب الله» وتنظيم داعش الإرهابي، وانعكاساته على أمن واستقرار البلد. يُذكَر أن وصول المزيد من عناصر «داعش» إلى منطقة دير الزور بعد نقلهم من الجرود اللبنانية بالاتفاق مع حزب الله، سيسمح لتنظيم داعش بإعادة ترتيب صفوفه في المحافظة الاستراتيجية وقد تخول له شن هجمات انتقامية ضد العراق انطلاقاً من سوريا، خصوصاً أن المسافة من مركز دير الزور إلى الأراضي العراقية هي نحو مائة كيلومتر فقط.

تناقضات المواقف
ما فعله السيد نصر الله و«حزب الله» في صفقته مع «داعش»، أواخر أغطس الماضي، من السماح بنقل قافلة من مسلحي «داعش» لمدينة البوكمال السورية على الحدود السورية العراقية، هو ما رفضه أمين عام الحزب قبل شهور من القوات العراقية حين شرعت في حربها لتحرير الموصل خوفاً منه لانتقال مسلحي «داعش» للمنطقة الشرقية في سوريا.
فقد خطب أمين عام «حزب الله» اللبناني السيد حسن نصر، بعد تقدم الجيش العراقي وميليشيات الحشد الشعبي نحو الموصل، وقبل انتهاء المعركة، حيث خطب أمين عام «حزب الله» في الثاني عشر من أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي (2016) ناصحاً العراقيين برفض ما سماه «الصفقة الأميركية»، وطرد عناصر وفلول داعش إلى الداخل السوري، محذراً العراقيين جميعاً مما فعله بعد ذلك.
ففي خطبته المذكورة ذكر السيد نصر ضرورة الحذر من عودة «داعش» إلى سوريا، حال تقدم العراقيون وانتصروا في الموصل، مما يكرره دائماً، وفي مواقف متناقضة من عدم الانصياع للخداع الأميركي في ترك مقاتلي «داعش» يتكتلون في المنطقة الشرقية في سوريا، ومعتبراً ذلك ضد صالح العراقيين والسوريين على السواء.
حذر نصر الله في خطابه المذكور من ذلك قائلا: «إنه سيضيع انتصاركم في الموصل، الانتصار العراقي الحقيقي هو أن تضرب (داعش)، وأن يُعتَقَل قادتها ومقاتلوها ويزج بهم في السجون ويحاكموا محاكمة عادلة، لا أن يُفتح لهم الطريق إلى سوريا، لأن وجودهم في سوريا سيشكل خطراً كبيراً على العراق قبل كل شيء»، لكن هذا الإصرار حين تعلق الأمر بمصلحته وصالحه وصالح نظام بشار الأسد كان ممكناً، كما عبَّرَت عنه صفقة «حزب الله» الأخيرة مع «داعش» في الجرود التي وقعت في أغسطس الماضي.
كانت تحفظات السيد نصر الله على إجراء مثل هذا، والتحذير الاستباقي منه، قائمة على سببين رئيسيين، هما ما يثير المتحفظين على اتفاقه الأخير، الذي يقضي باقتراب فلول «داعش» ومسلحيه من الحدود العراقية من جديد، هما كما يلي:
أولاً: أن (داعش) سيستغل وجوده العسكري والأمني في المنطقة الشرقية في سوريا (يعني على الحدود الغربية للعراق)، لتنفيذ عمليات أمنية وإرهابية وانتحارية حيث تصل أيديه في داخل العراق، وبالتالي سيضطر الجيش العراقي للدخول لهذه المنطقة.
ثانيا: في تحذيره السابق في أكتوبر سنة 2016 حذر السيد نصر الله من عودة داعش للعراق حال نقل مسلحوها للمنطقة الشرقية في سوريا، وأنها في هذه الحالة «سوف تحشد لتعود من جديد إلى العراق، أساساً قبل سنوات عندما كانت الأنبار وصلاح الدين ومحافظة نينوى الموصل في يد الحكومة العراقية، من أين دخلتها (داعش)؟ دخلتها من الرقة، من دير الزور، من المنطقة الشرقية في سوريا».
وهذه النقطة التي ذكرها السيد نصر الله مغالطة غير صحيحة تاريخياً؛ فـ«داعش» انطلق من العراق بعد فض الاعتصام الأمني بالقوة في عهد نوري المالكي، ووجد فرصته وقوته التي انطلق بها إلى سوريا، مما خلفته قوات المالكي وراءها من أسلحة وذخائر، فالعراق كان منطلقه وقوته وصحوته، بينما ظلت الجبهة السورية مشتعلة من حوله، سواء ضد الجبهات المسلحة الأخرى، أو قوى النظام والقوات الموالية له، ولكن الرجل على ما يبدو ينسى كلامه أو يتناساه، ولكن تبقى دائماً في خطاباته ومبرراته شماعة المؤامرة و«الشيطان الأكبر» أو «الخداع الأميركي» كما يسميه.
ختاماً، تكشف صفقة «حزب الله»... «داعش» أن مصلحة النظام السوري في الأجندة الإيرانية مقدمة على سواه ولو كان النظام والشعب العراقي، الذي تكبد الكثير في معاركه ضد «داعش» خلال الشهور الأخيرة، وأن إيران الدولة التي تحتفظ بعشرات الجماعات ومجموعات التطرف العنيف - أحزاب الله الموالية لها - للدفاع عن هويتها ودورها لن ترتدع استثناء بين دول العالم والمنطقة أن تتفق مع جماعات كـ«داعش» أو «القاعدة» في السابق متى استوجبت المصلحة والضرورة ذلك.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟