«عائلة جادو»... عنف العالم

أحمد الفخراني يمزج بين الأساطير القديمة وغرائبية التكنولوجيا

«عائلة جادو»... عنف العالم
TT

«عائلة جادو»... عنف العالم

«عائلة جادو»... عنف العالم

أخشى الروايات كبيرة الحجم، وأخشى على مؤلفيها. بمجرد أن أمسك برواية طويلة تحاصرني أسئلة من قبيل: هل هناك حكاية لا تمكن روايتها إلا في هذا العدد من الصفحات؟ هل هناك فكرة لا يمكن الإمساك بها في كتاب رحيم بمعاصم الضعفاء والمسنين؟ ألم يكن من الممكن قسمة الحكاية أو الفكرة على كتابين أو أكثر؟
ربما تنبع هذه الأسئلة من انحياز مضمر لرف من الروايات القصيرة الفاتنة، مثل «الجميلات النائمات» لكاواباتا: «المسخ» لكافكا: «الموت في فينيسيا» لتوماس مان: «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» لماركيز، و«امتداح الخالة» لماريو فارغاس يوسا، ومن روايات العرب يمكن أن نضع على الرف نفسه عدداً لا بأس به من الروايات، بينها «صخب البحيرة» لمحمد البساطي، و«عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني، و«تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، ويمكن لقراء آخرين بالطبع أن ينحازوا إلى روايات أخرى من تلك الصغيرة المحكمة التي تتمتع بما يسميه يوسا: «فتنة الحبكة».
ربما، هذا ما يجعل كاتب الرواية الطويلة محل إشفاقي. ينزل إلى الميدان، متنازلا عن «فتنة الحبكة» قبل أن يبدأ؛ فحتى لو نجح في تحقيق هذه الفتنة، ستكون غير مرئية، مثلما لا يمكننا أن نرى كروية الأرض عندما نقطعها في سيارة من أدناها إلى أقصاها، لهذا فإن تقديري لدأب وجدية أحمد الفخراني، الذي عرفت خطواته المبكرة جداً، لم يمنعني من البدء في قراءة روايته الجديدة «عائلة جادو» بالإشفاق والشكوك والأسئلة ذاتها، خاصة أن الكتاب الذي يقع في 440 صفحة يحمل عنواناً فرعياً «نص النصوص» وسيعرف القارئ، عندما يتوغل في النص، أن هذا الوصف التقريظي سيرد في المتن، كأمنية للراوي البطل.
- الفكرة وضدها
أول ما يواجهه القارئ، في نص النصوص، مفتتح: «بدأ كل شيء سريعاً كطيف، ثقيلاً وضاغطاً ككابوس، تحررت من بطء الوقت، لأسير وفي يدي رسالة: فلتجد كارل ماركس، وفي قلبي مهمة: اقتله». يبدو هذا الاستهلال كما لو كان صوت الكاتب، ولن يتركنا نعرف بدقة هل هو مع ماركس والماركسية أم ضدهما، ولن يتركنا للتخمين، إذ يصرح في المفتتح نفسه بهذا المعنى: «تعلمت شيئا أو شيئين من رحلة العثور على ماركس، أن الاتجاهات كالموت محض خدعة؛ فكل شيء يحيط بكل شيء». وهذه العبارة تقريباً هي سر الرواية، الآيديولوجيا محض خدعة، الديمقراطية محض خدعة. الخوف هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم!
مع بداية الفصل الأول يستمر ضمير المتكلم، ولكن على لسان راو بطل مما يضع احتمال أن يكون ضمير المتكلم في المفتتح هو صوت البطل نفسه؛ «رزق» الذي أكلت القراءة عينيه فاستخدم النظارة الطبية، ومع ذلك فهو بلطجي، ابن غير شرعي لزعيم العصابة «نخنوخ الهواري» يعمل قواداً لديه على أمل أن يرضى عنه ويعترف يوماً بنسبه.
يشير الراوي إلى الأب نخنوخ بلقب «مولانا» وهو مثل قادة المافيا، لا يظهر إلا مروياً عنه، وعن قصره الأسطوري، عن عشقه للقاصرات، وعن علاقاته الوثيقة بالسلطة.
عالم عنيف، وحشي ولا يخلو من نسمات حنان، من شأنه أن يعجب جان جينيه لو كان حياً. وربما لن يكون العنف وحده محل إعجابه؛ لأن الرواية تلبي شرطاً فنياً يحبه جينيه، وهو أن تضرب كل فكرة سابقتها وتمحوها.
وتقوم السخرية بدور كبير في المسعى الهدام الذي تنتهجه الرواية، جنباً إلى جنب مع تطور السرد الذي يتسع لكل شيء ونقيضه، وحيث يتجاور الشعر مع سوقية العالم التحتي. كل شيء يحيط بكل شيء، والاتجاهات محض خدعة. البحث عن كارل ماركس وأفكاره خدعة وسخرية أخرى، لا يخلو أتباعه المجانين من العنف، وهم ينشدون الخير مخلصين، وغير أكفاء.
عالم محكوم باللاجدوى، تسخر فيه الرأسمالية المتمكنة من البشر والأفكار، بينما تنفتح سراديب التعذيب الشرطية على مثيلتها لدى مولانا نخنوخ، حيث القهر سلعة متداولة ورائجة لا يسلم منه حتى رزق البلطجي، الذي يدير دفة السرد، وابن المافياوي المخيف؛ إذ يعاني آلام حب مجهض مع زوجته ابنة عائلة جادو التي انتزعها منه حماه وأجبرها على فراقه، حتى بعد أن يموت جادو يظل حكمه بالتفريق بين الزوجين الحبيبين قائماً.
- إقناع المباغتة
في عالم مخيف وقاتم يمكن لجريجور سامسا أن يستيقظ فيجد نفسه صرصاراً. هذه المباغتة التي أقدم عليها فرانز كافكا وصدقها القارئ في واحدة من الروايات الصغيرة «فاتنة الحبكة» نجدها كذلك في النص الطويل «ألف ليلة وليلة» ولم نتوقف أمام سؤال المعقولية في مواجهة مسخ كافكا أو عفاريت ومسوخ ألف ليلة، وكذلك ليس لنا أن نسائل «عائلة جادو»؟
يباغت الفخراني قارئه بعالمه المخيف القاتم والعجيب في الوقت ذاته. نرى صخب الجماهير التي تهتف «هركليز... هركليز» حماسة لعبد المولى؛ المصارع المعجزة الذي يقول رزق إنه أوجده من العدم، ويدعي أنه جلبه من موريتانيا عبر رحلة شاقة إلى مدينة مسحورة، بينما هو في الحقيقة جلبه من المطرية (حي عشوائي شمال شرقي القاهرة). ليس من الضروري الذهاب بعيداً من أجل اختراع أسطورة، وليس لدى القارئ الوقت ليسأل عن سر تميز عبد المولى، فالمصارعة مثيرة ووحشية لا تنتهي بهزيمة المنافس بل بموته الذي يطلق نشوة الجمهور، النشوة التي رفعت القاتل غرونوي بطل العطر إلى مستوى القداسة، هي نفسها التي تجعل بطولات هركليز حقيقية.
المخيف هو المسلي، هذه هي حقيقتنا قبل أن يلبسنا العيش في المجتمعات قشرة الحضارة التي يبدو التخلي عنها أسهل مما نتصور. غريزة الموت تسيطر في «عائلة جادو» بما يلائم ما يجري في الواقع العربي الآن، حيث تنهزم الأفكار والأشعار، ولا شيء يردع أو يكبح جماح عنف الفاعلين والمتفرجين على السواء. حياة عبد المولى هي جائزته التي يحصل عليها كل مباراة، وهو مجبر على ذلك مثل الكثيرين من المنخرطين في لعبة العنف الدائرية: عليه أن يقتل أحدهم كل ليلة لكي يعيش، أما رزق الابن غير المعترف به والحبيب المحروم من حبيبته لأسباب واهية، فجائزته هي العثور على ماركس، وسيمضي في حضرته كمريد في حضرة شيخه، يجتازان معاً مدناً وقلاعاً مسحورة، ونطلع على ماركس آخر، يصف البروليتاريا بالقذارة، يؤدي التحية النازية، ويهتف مستنهضاً عديمي الموهبة: يا مديوكرز العالم اتحدوا!
- تواريخ ليست أقل دموية
تخترع الرواية تواريخ بديلة لما عاشه العالم. في تاريخ مختلف فر ستالين، واستطاع التسلط على غابة يقطنها جهاديون إسلاميون، وعاونه تروتسكي، ثم سرعان ما انقلب عليه وذبحه، وعلق رأسه في الغابة كي يصير عبرة، وأعلن نفسه خليفة!
لكن الفنتازيا لا تخلو من علامات طريق واقعية. الأب الغامض «نخنوخ» يحيل إلى اسم يعرفه المصريون جيداً، فلم تزل قضية «صبري نخنوخ» ماثلة في الأذهان، الذي نسبت الصحف إليه بعد سقوطه فظاعات ترقى لمستوى الفنتازيا، كما كتبت عن علاقاته بالأمن على مدى سنوات طويلة، كما تأتي إشارة إلى باحث أجنبي يموت في صندوق عربة القواد ويلقى به على جانب الطريق، كإحالة واضحة إلى مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني.
علامات الطريق الواقعية تجعل فنتازيا الرواية مقبولة ومقنعة، ليتفرغ الكاتب لاقتراف مكره الفني في المزاوجة بين غرائبية الأساطير القديمة وغرائبية التكنولوجيا، بعد أن صارت المسافة بين الخرافة والعلم الحديث متناهية القصر، وكلاهما: الأسطورة والعلم في خمة العنف والتفنن في اقترافه. عنف له تاريخ، في الأحداث التي تصفها الرواية، والأفكار العنيفة، حيث تلتقي أفكار النازية والمستقبلية والداعشية مع أشعار الكتائب المسلحة.
ثقل المصير تقابله خفة فنتازية تذكرنا بالحيل اللطيفة في ألف ليلة: العفريتة تتطوع بنقل الحبيب من بغداد إلى القاهرة، وحبة الرمان تتحول إلى وحش. في «عائلة جادو» سنرى كيف تتحول «زاوية النجار» إلى روما، ونرى تروتسكي جالساً على عرش من ذهب، يرتدي جلباباً أسود وعمامة مزينة بريشة ذهبية، وسيشترك عبد المولى في قتال تروتسكي، ويصعد ماركس ورزق إلى قلعة الحشاشين، وعندما يهم بعناق حسن الصباح، يكتشف أنه ليس سوى صديقه إنجلز، وقد بنى قلعة تحاكي قلعة الحشاشين.
وعبر رحلة يكابدان فيها الأخطار ومصارعة أعداء يتحولون في لحظة إلى وحوش تنبت أطرافها المبتورة في لحظة، يصلان أخيراً إلى الفردوس، وعند اجتياز البوابة يدرك رزق أنه لم يذهب إلى أي مكان، ولم يكن ما عبره إلا حديقة قصر مولانا «نخنوخ».
يمكن أن تكون «عائلة جادو» حلماً طويلاً، كابوسا إن شئنا الدقة؛ فالرعب هو الشعور الذي يمكن أن يخرج منه قارئ الرواية، وبرغبة في إيذاء الذات، أو بأمل في ألا يكون الواقع هكذا، يمكن أن يعاود القراءة مجدداً.



المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
TT

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)

في إطار التشغيل التجريبي للمتحف المصري الكبير بالجيزة (غرب القاهرة) أقيمت فعالية «تأثير الإبداع» التي تضمنت احتفاءً بالفنون التراثية والحِرف اليدوية وتاريخها الممتد في عمق الحضارة المصرية.

واستهدفت الفعالية التي نُظمت، الأحد، بالتعاون بين مؤسسة «دروسوس» وجمعية «نهضة المحروسة» تسليط الضوء على الدور الذي يلعبه الإبداع في مجالات التراث والفنون والحِرف اليدوية، في الاحتفاظ بسمات حضارية قديمة، كما تستهدف تعزيز دور الصناعات الإبداعية باعتبارها رافداً أساسياً للتنمية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك إبراز أهمية الابتكار والإبداع في مختلف المجالات.

وأكد الدكتور أحمد غنيم، الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف المصري الكبير، أن «هذه الفعالية تعزز روح التعاون والرؤية المشتركة وتشجيع التبادل الثقافي»، لافتاً في كلمة خلال الاحتفالية إلى أن «المتحف المصري الكبير ليس متحفاً تقليدياً، وإنما هو مُجمع ثقافي يحتفي بالتاريخ والثقافة المصرية ويشجِّع على الإبداع والابتكار الذي يرتكز على الماضي لينطلق نحو مستقبل أكثر إشراقاً وتطوراً».

الحِرف اليدوية تحمل طابعاً تراثياً (وزارة السياحة والآثار)

وأوضح غنيم في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «المتحف عبارة عن منارة ثقافية هدفها ليس فقط عرض الآثار، لكن أيضاً عرض التراث المصري سواء المادي أو غير المادي، وربطها بالحضارة المصرية القديمة وعبر عصور مختلفة وصولاً إلى العصر الحديث».

وتضمنت الفعالية جولة بالمتحف تمت خلالها زيارة البهو، حيث تمثال الملك رمسيس، والدَّرَج العظيم، وقاعات العرض الرئيسة، وكذلك المعرض الخاص بالفعالية، كما اختتمت فرقة «فابريكا» الفعالية، حيث قدَّمَت أوبريت «الليلة الكبيرة»، وفق بيان لوزارة السياحة والآثار.

ويضيف الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف أن «الجمعيات الأهلية أو الجهات المتخصصة والمعنية بالتراث نحاول أن نعرضها في المتحف بشكل لائق ومشجع لمن يقومون على هذه الحِرف والفنون».

جانب من فعالية «تأثير الإبداع» للفنون التراثية والحِرف اليدوية (وزارة السياحة والآثار)

وأشار إلى أن الفعالية تضمنت عرض مجموعات من الخزف وكذلك فنون على الأقمشة والأعمال الخاصة بالخشب وأعمال متنوعة في المجالات كافة.

ويعدّ المتحف المصري الكبير من أهم المتاحف المصرية المنتظر افتتاحها، ووصفه رئيس الوزراء المصري في تصريحات سابقة بأنه سيكون «هدية مصر للعالم»، ويقع المتحف على مساحة 117 فداناً، ضمن مشهد مفتوح على منطقة الأهرامات الثلاثة، وتُعوّل مصر عليه كثيراً في تنشيط الحركة السياحية، ومن المنتظر أن يشهد عرض المجموعة الكاملة لآثار الفرعون الذهبي توت عنخ آمون التي يتجاوز عددها 5 آلاف قطعة لدى افتتاحه الرسمي بشكل كامل.

وتضمنت الفعالية التي شهدها المتحف رحلة عبر الزمن اصطحبتهم من الماضي حيث الحضارة الخالدة، مروراً بالحاضر ورموزه الفنية، نحو صورة لمستقبل أكثر ابتكاراً وإبداعاً.

وتعدّ فعالية «تأثير الإبداع» إحدى الفعاليات المتنوعة التي يستضيفها المتحف المصري الكبير في إطار التشغيل التجريبي الذي يشهده ويتيح لزائريه زيارة منطقة المسلة المعلقة، والبهو العظيم والبهو الزجاجي، والمنطقة التجارية، بالإضافة إلى قاعات العرض الرئيسة التي تم افتتاحها جزئياً.