تترقب مدينة سان دييغو في الجنوب الغربي للولايات المتحدة كل عام المهرجان الموسيقي الصيفي في شهر أغسطس (آب) في ضاحيتها الجميلة الراقية لا هويا، أو اللؤلؤة بالإسبانية، وكان المهرجان الحدث الثقافي الأكبر هذه السنة مع حضور مكثف لهواة الموسيقى في كثير من الولايات وقامت جمعية لا هويا للموسيقى بتنظيم المهرجان تحت إشراف شو لينانغ لين المدير الفني للمهرجان وعازف الكمان المعروف في جامعة كاليفورنيا - سان دييغو وصالة مبنى شركة كوالكوم العملاقة للتقنية المستقبلية.
في حفلة موسيقية رائعة بعنوان «من براغ مع الحب» استمعنا إلى موسيقى رخمانينوف وسكارابين ودفورجاك وشوبان للبيانو، لكن أهم قطعة كانت «إسلامي» (أو حلم شرقي) للموسيقار الروسي ميلي بالاكيريف المتوفى عام 1910 ألفها عام 1869 والتي تعتبر أصعب قطعة لموسيقى البيانو الكلاسيكية ومقياسا لبراعة العازفين من أيام الموسيقار وعازف البيانو ليست الذي تميز ببراعة فنية فائقة. قال أحد منظمي الحفل: «نسمع أن الرئيس الفرنسي ماكرون يجيد عزف آلة البيانو وسبقه المستشار الألماني شميدت لكن كليهما لن يتمكنا من البراعة في هذه القطعة، نظراً لما تتطلبه من تركيز وانغماس في تعرجاتها المضطربة المبنية على لحن شرقي سمعه بالاكيريف في إحدى المقاطعات الإسلامية في القفقاس التي ضمت إلى روسيا في عهد القيصر». لكن عازفة البيانو أولغا كيرن صمدت أمام التحديات وعزفت القطعة بسرعة فائقة مثل زخ المطر. أذهلت الجمهور مستعرضة عضلاتها في الضرب على مفاتيح البيانو، بل بدت وكأنها مستعجلة لإتمام العزف على عكس الأسطوانة المدمجة التي سجلتها قبل سنوات وظهر فيها اللحن الرئيسي بشكل واضح. ومن أفضل تسجيلات هذه القطعة البديعة تسجيل قديم لعازف البيانو الشهير فلاديمير هورويتز، إنما لاحظنا مؤخرا أن أغلب العازفين الشباب حاليا يميلون إلى تسريع العزف أملا في انتزاع إعجاب الحضور وبرهانا على براعتهم التقنية.
كتب بالاكيريف في رسالة له أن أحد الأمراء الشركس دعاه إلى حفل سمع فيه هذا اللحن المعروف في الموسيقى الشعبية أثناء حفلات الزواج والرقص الذي يتخللها فأعجب به كثيرا واقتبسه بعد تعديل سرعته ثم أضاف إليه لحنا عاطفيا بعثه إليه أحد الممثلين الأرمن إثر سماعه من التتر في شبه جزيرة القرم. الثابت الآن أن اللحنين المتعارضين في قطعة «إسلامي» المتحررة من القيود التقليدية في التأليف الموسيقي ما زالا جزءا من الموسيقى الشعبية في القفقاس وأذربيجان يرقص على أنغامها الشباب في الأفراح والأعراس وتسمى «رقصة ليزنكا» ومنها «رقصة النسور» يقومون أثناءها بحركات وخطى ودوران في غاية السرعة وقد يفسر ذلك حب عازفي البيانو الشباب حاليا في زيادة سرعة الإيقاع خلال العزف.
الرباعي والثماني
(كوراتيت وأوكتيت)
في الحفل الثاني اختلف البرنامج واقتصر على موسيقى الغرفة التي تتألف من بضعة عازفين. سمعنا في الجزء الأول فرقتين من المجموعات الرباعية وكأن كل منهما يدير ظهره للآخر وهما يعزفان الرباعي المزدوج للموسيقار الألماني سبور للكمان والفيولا والفيولونسيل، وتلاها سيريناد للموسيقار الهنغاري كوداي أو لحن يعزفه في الشارع رجل لمعشوقته تحت نافذتها، ومثلت آلة الفيولا (أو الكمنجة) دور الرجل وآلة الفيولون (الكمان) دور المرأة وكيف يتخاصمان ثم يتصالحان ويفوز الحب في النهاية.
أما القطعة المميزة في الحفل فكانت من نصيب الموسيقار الألماني مندلسون وهي الثماني للآلات الوترية الذي ألفه عام 1825 وعمره 16 سنة. وتم الأداء بشكل بارع يلفت الأنظار بجماله وحيويته وانفعاله العاطفي وتألقت فيه عازفة الفيولون ذات الأصل الكوري يورا لي.
السيمفونية السعيدة العاصفة
اختتم مهرجان الصيف بحفلة موسيقية هائلة فكان ختامها مسكاً، كما يقولون، أحيتها مجموعة كبيرة من العازفين تألفت خصيصا لهذه المناسبة بقيادة المايسترو الأميركي الأكثر احتراما عالميا وهو ديفيد زينمان المولود عام 1936 والذي أمضى وقتا طويلا في زيوريخ بسويسرا. افتتح الحفل الموسيقي بقطعة تسمى كونشرتو دومبارتون أوكس للموسيقار الروسي سترافنسكي. يشار إلى أن دومبارتون أوكس هي قرية بديعة قرب العاصمة الأميركية واشنطن شمال جامعة جورج تاون العريقة، ويعود تاريخ تأليف القطعة إلى روبرت بليس وزوجته اللذين طلبا من سترافنسكي تأليف القطعة الحديثة في الموسيقى الكلاسيكية للاحتفال بالذكرى الثلاثين لزواجهما وعزفها لأول مرة بقيادته عام 1938 في البستان الكبير الذي يملكانه في تلك القرية. كثر يذكرون اسم القرية حين اجتمع فيها عام 1944 ممثلون عن الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والصين ووضعوا أسس ميثاق منظمة الأمم المتحدة.
وكانت آخر قطعة تم أداؤها في المهرجان السيمفونية السابعة للموسيقار الألماني الكبير لودفيغ فان بيتهوفن وكانت بالفعل ذروة المهرجان بأكمله. بلغ بيتهوفن سن الأربعين عام 1810 وبدأ سمعه يتراجع بشكل ملحوظ آنذاك لدرجة الصمم تقريباً لكنه كان في أوج نجاحه الفني وكان يتصور الموسيقى دون أن يسمعها حيث تطور أسلوبه البطولي في التأليف بشكل بدل تاريخ الموسيقى الغربية. ذكر بيتهوفن في تلك الفترة ما أصابه قائلاً: «أذني تطن ليلا نهارا مثل منشار ذو أزيز» لكن ذلك لم يثنِه عن تلحين تلك القطعة الرائعة للأوركسترا وقاد عزفها للمرة الأولى بنفسه في احتفال في فيينا للترفيه عن جنود النمسا الذين جرحوا في الحرب ضد الإمبراطور نابليون وجيشه الفرنسي، علماً بأن بيتهوفن كان معجباً في البداية بنابليون بل أهداه السيمفونية الثالثة المعروفة باسم «البطولية» ثم خاب أمله فيه حين وجده شغوفا بالسلطة لا بالحرية.
تعبر السيمفونية السابعة التي سمعناها عن شعور الفرح والسعادة والتفاؤل بإيقاع بارع يفيض بالحيوية والنشاط وألحان مفعمة بالتشابك الموحد والقوة المشرقة مع توزيع موسيقي متألق يجرف المستمع نحو الحماسة والمرح الصاخب. طريقة زينمان في قيادة الفرقة الموسيقية تجعلك تحس في الحركة الأولى من السيمفونية بالشعور الناري بينما تهدئك الحركة الثانية بأنغامها الحزينة البطيئة ثم تتعارض معها الحركة الثالثة بمرحها وإيقاعها المنضبط لكن الحركة الرابعة والأخيرة تدخلك في عرس من الانتصار والفرح العاصف وتنتهي في ذروة متدرجة من الإيقاع الراقص إلى النشاط الحاد المكثف بشكل لم يعرف إطلاقا في أية قطعة موسيقية، لدرجة أن الموسيقار كارل فيبر الذي حضر الحفل الأول عام 1813 قال إن بيتهوفن «قد أصيب بالجنون»!
انفجر الجمهور بالتصفيق وقام واقفا لتحية المايسترو زينمان على براعته في القيادة وسيطرته المحكمة على جو العزف بمزاجه المتوازن حيث حول الصخب والسرعة إلى انسجام قوي وحيوية متدفقة رغم بلوغه سن الواحد وثمانين سنة من العمر. كانت ليلة لا تنسى بكل المعايير فتخرج وكأنك تناولت منشطا يعيد لك الحيوية في آخر الليل.