«ماكينة الخياطة» تستعيد مكانتها المفقودة في البيوت المصرية بسبب الغلاء الفاحش

الفتيات يرينها نعمة والمصممون نقمة في يد كل خياط يطلق على نفسه لقب مصمم أزياء

«ماكينة الخياطة» تستعيد مكانتها المفقودة في البيوت المصرية بسبب الغلاء الفاحش
TT

«ماكينة الخياطة» تستعيد مكانتها المفقودة في البيوت المصرية بسبب الغلاء الفاحش

«ماكينة الخياطة» تستعيد مكانتها المفقودة في البيوت المصرية بسبب الغلاء الفاحش

كانت ميار حلمي الشابة العشرينية تستيقظ يوميا على صوت ضجيج لا تعرف ماهيته نابع من منزل جارتها في الطابق العلوي. مع الوقت اكتشفت أن جارتها، سبب الضجيج، تستعمل ماكينة خياطة وجدت أنها الحل لكي تتغلب على أسعار الملابس الجاهزة التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني. أعجبت ميار بالفكرة، وذهبت إلى شارع الرويعي بالعتبة، وسط القاهرة، لكي تشتري هي الأخرى ماكينة حياكة. ففي جولة من جولاتها التسوقية أنفقت ما لا يقل عن 500 جنيها على بنطلون و600 جنيه على قميص جينز رغم أنهما كانا من محال عادية وليسا من ماركات عالمية. تتذكر كيف عادت من تلك الجولة وهي تتحسر على عدم قدرتها شراء بنطلون رياضي أعجبها لأن سعره كان نحو 2000 جنيه إسترليني. تقول ميار: «حين اقترحت على والدتي أن نشتري الماكينة رحبت باقتراحي، وتذكرت كيف باعت ماكينة خاصة بها في عام 1985 بسبب انشغالها برعاية إخوتي الأكبر مني من جهة، ولأن الملابس الجاهزة كانت أوفر من الخياطة وبذل المجهود حينها، من جهة ثانية. لكن الآن انقلب الوضع وأصبح التفصيل والخياطة أوفر من شراء الملابس الجاهزة».
فمنذ نحو أكثر من 35 عاما شهدت تجارة ماكينات الخياطة ركودا حادا في ظل تطور صناعة الملابس الجاهزة في مصر، ولا سيما في عصر الانفتاح الذي عاشته منذ عهد الرئيس السادات. كانت عبارة «أنا رايحة للخياطة» من الجمل المعتادة، ومهنة الخياطة من أهم المهن التي مهر فيها اليونانيون تحديدا. كما كانت ماكينة الخياطة جزءا أساسيا من جهاز كل عروس مصرية في وقت من الأوقات، تماما كما كانت مجلات «بوردا» و«فوج» و«حواء» في كل بيت. فهي لم تكن للقراءة وتتبع أخبار الآخرين فحسب، بل أيضا للاستفادة من الباترونات المرفقة معها. مرت السنوات، وتراجعت الخياطة مهنة وهواية على سواء. اختفت الماكينات والمجلات من البيوت المصرية، كما أغلقت الكثير من المشاغل لتفتح الأبواب للماركات العالمية والمحال الكبيرة. لكن بعد تعويم سعر الدولار ووصوله إلى أكثر من 17 جنيها تقريبا، أصبح شراء الملابس الجاهزة من هذه المحال يحتاج إلى ميزانية كبيرة لا تقدر عليها الأسر ممن لهم أكثر من طفلين أو شباب في مرحلة جامعية. وميار ليست وحدها التي انضمت إلى القافلة، بعد أن أصبحت ماكينات الخياطة الحل المثالي بالنسبة لعدد كبير من الشابات اللواتي لا تسمح لهن إمكاناتهن بشراء كل ما تتوق إليه أنفسهن من أزياء.
يجد المهندس علي سالم، صاحب مركز لبيع ماكينات الخياطة بالعتبة، أن «إقبال الفتيات أنعش تجارة الماكينات. يقول: كانت لماكينات الخياطة مكانتها في البيت المصري، حيث كان لها مكتب خشبي توضع فيه وغطاء خاص بها. فقد كانت أساسية بالنسبة للأم كي تفصّل ملابسها وملابس أطفالها المدرسية». وتابع: «كانت ماكينة (سينجر) السوداء تُباع بنحو 200 جنيه مقارنة بسعرها الحالي الذي يقدر بنحو 2000 جنيه، بل تصل أحيانا إلى 30 ألف جنيه، حسب تنوع وظائفها. فبعضها خاص بتركيب الأزرار، وأخرى لتنفيذ غرز معينة كالكروشيه، بينما يعمل بعضها بواسطة الكمبيوتر، مثل ماكينات «فارمتورة أتوماتيك» التي يمكنها رسم أشكال يتم اختيارها من الشاشة باللمس».
ويرى سالم أن ظاهرة العودة لماكينات الخياطة إيجابية أنعشت تجارته رغم سوء الحالة الاقتصادية التي يشهدها البلد. «أصبحنا نبيع بمعدل 5 إلى 10 ماكينات يوميا، وهو ما كنا نبيعه في أشهر عدة»، مشيرا إلى أن الانتعاش امتد إلى أسواق الأقمشة. في الموسكي والحسين أيضا افتتحت دكاكين الخياطين وزادت حركتها. فمن تحيك ملابسها في المنزل تحتاج أحيانا لتقفيل الرداء، أو إلى تطريز وتركيب أزرار أو (عروة) أو (سرفلة) وربما تحتاج أيضا إلى (المكوجي) لتظهر القطعة بشكل أنيق ومتكامل». بالنسبة لسالم وأمثاله من التجار، فقد بدأوا في تنظيم دورات للتدريب على الماكينات الحديثة. أما بالنسبة للمُبتدئات، فينخرطن في مراكز تعليم الخياطة والتفصيل، التي تشهد بدورها إقبالا تاريخيا غير مسبوق.
بالإيقاع نفسه، تشهد مواقع التسوق الإلكترونية تزايد عدد الطلبات على شراء ماكينات الخياطة «كما يشهد القسم المخصص لها أكبر عدد من الزوار» بحسب شادي بكر، مسؤول مبيعات بأحد المواقع الإلكترونية للتسوق، والذي يقول: «نشهد إقبالا غير مسبوق على ماكينات الخياطة منذ نهاية العام الماضي. كما تصلنا يوميا آلاف الاستفسارات عن أنواع الماكينات وأسعارها، وأغلب الطلبيات تكون على الماكينات المخصصة للمبتدئين. فقد أصبحت جهازا مهما في الكثير من البيوت المصرية».
ويتزامن مع هذه الظاهرة ازدهار دورات التفصيل وتعلم تصميم الأزياء؛ إذ افتتحت مئات المراكز التي تعرض على مواقع التواصل الاجتماعي تحقيق حلم «أن تكون مصمم أزياء» وكأنه أمر سهل يمكن أن يحققه كل من يتعلم فن الخياطة. وهذا ما فتح جدلا في أوساط الموضة المتخصصة.
مصمم الأزياء المصري محمد طه، مثلا يرى أن الإقبال بهذا الشكل على تعلم التفصيل «كارثة من كوارث الزمن». ويضيف: «هناك فرق كبير بين تعلم الخياطة وتصميم الأزياء يمكن تشبيهه بالفرق بين الشجرة والزهرة. فالاثنان يُزرعان في التربة نفسها، لكن النتيجة تكون مختلفة. المشكلة الآن أن كل من يعمل بمهنة الخياطة يطلق على نفسه (مصمم أزياء) في إطار السعي للربح. أنا لا أنكر أن لمهنة الخياطة مكانة لا ينبغي التقليل منها، لكن لا بد أن نعرف أن التصميم يستغرق سنوات لتعلمه، إضافة إلى الموهبة والرؤية والقدرة على الابتكار». ويلفت طه إلى أن في الماضي وقبل عصر التواصل الاجتماعي «كانت مصر تحتضن خياطين يونانيين وفرنسيين وإيطاليين مهرة. وهم من أعطى مهنة الخياطة هذه المكانة، في حين لم نكن نسمع عن مصمم أزياء مصري». ويتفق طه أن التفصيل وخياطة الأزياء في المنزل أرخص وبالنسبة لشريحة كبيرة من الناس تعتبر حلا مثاليا، لكن «المشكلة أن كل من تعلم تفصيل الباترون أطلق على نفسه مصمم أزياء، وهو ما يضر بصناعة وفن تصميم الأزياء في مصر».
وكان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في تأجيج هذه الظاهرة. فرغم أنها نعمة بالنسبة للبعض ممن يتمتعون بالموهبة والقدرة على الابتكار لكن يفتقدون إلى الإمكانات للترويج لأنفسهم في المجلات والتلفزيونات، فإنها نقمة عندما تتحول إلى أداة في يد كل يريد أن يطلق على نفسه لقب مصمم أزياء.


مقالات ذات صلة

5 قطع لن تخسري إذا استثمرتِ فيها حالياً

لمسات الموضة الجينز لا يزال يتصدر منصات الموضة العالمية مثل عرض «ليبرتين» خلال أسبوع نيويورك الأخير (إ.ب.أ)

5 قطع لن تخسري إذا استثمرتِ فيها حالياً

مهما تغيرت المواسم والأذواق، هناك قطع من الموضة تتحدى الزمن وتعتبر بمثابة استثمار سعره فيه.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

في أحدث مجموعاته لموسم خريف وشتاء 2025، يعيد المصمم فؤاد سركيس رسم هوية جديدة لمعنى الجرأة في الموضة. جرأة اعتمد فيها على تفاصيل الجسم وتضاريسه. تتبعها من دون…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)

علياء السالمي... تحمل تقاليد الماضي إلى الحاضر

من قلب المملكة العربية السعودية؛ حيث تتلاقى الأصالة والحداثة، تبرز مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي واحدةً من ألمع الأسماء في عالم تصميم الأزياء.

أسماء الغابري (جدة)
لمسات الموضة كانت روح ماريا تحوم في قصر غارنييه بكل تجلياتها (ستيفان رولان)

من عاشقة موضة إلى مُلهمة

كل مصمم رآها بإحساس وعيون مختلفة، لكن أغلبهم افتُتنوا بالجانب الدرامي، وذلك التجاذب بين «الشخصية والشخص» الذي أثَّر على حياتها.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)

«لورو بيانا»... تحتفل بمئويتها بفخامة تستهدف أصحاب الذوق الرفيع

لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يقودها ويحدد اتجاهاتها... فشخصيتها واضحة، كما أنها تمتلك نجماً ساطعاً يتمثل في أليافها وصوفها الملكي.

جميلة حلفيشي (لندن)

غادر هادي سليمان «سيلين» وهي تعبق بالدفء والجمال

توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)
توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)
TT

غادر هادي سليمان «سيلين» وهي تعبق بالدفء والجمال

توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)
توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)

بعد عدة أشهر من المفاوضات الشائكة، انتهى الأمر بفض الشراكة بين المصمم هادي سليمان ودار «سيلين». طوال هذه الأشهر انتشرت الكثير من التكهنات والشائعات حول مصيره ومستقبله. ولحد الآن لا يُحدد المصمم هذا المستقبل. لكن المؤكد أنه ضاعف مبيعات «سيلين» خلال الست سنوات التي قضاها فيها مديراً إبداعياً. غادرها وهي قوية ومخلفاً إرثاً لا يستهان به، يتمثل في تأسيسه قسماً جديداً للعطور ومستحضرات التجميل. فهو لم يكن يعتبر نفسه مسؤولاً عن ابتكار الأزياء والإكسسوارات فحسب، بل مسؤولاً على تجميل صورتها من كل الزوايا، ومن ثم تحسين أدائها.

العطور ومستحضرات التجميل جزء من الحياة ولا يمكن تجاهلهما وفق هادي سليمان (سيلين)

نجح وفق تقديرات المحللين في رفع إيراداتها من 850 مليون دولار حين تسلمها في عام 2018، إلى ما يقرب من 3.27 مليار دولار عندما غادرها. الفضل يعود إلى أسلوبه الرشيق المتراقص على نغمات الروك أند رول من جهة، وإدخاله تغييرات مهمة على «لوغو» الدار وإكسسواراتها من جهة أخرى. هذا عدا عن اقتحامه مجالات أخرى باتت جزءاً لا يتجزأ من الحياة المترفة تعكس روح «سيلين» الباريسية، مثل التجميل واللياقة البدنية.

اجتهد في رسم جمال الدار في عام 2023 وكأنه كان يعرف أن الوقت من ذهب (سيلين)

بعد عام تقريباً من تسلمه مقاليد «سيلين» بدأ يفكر في التوسع لعالم الجمال. طرح فعلاً مجموعة من العطور المتخصصة استوحاها من تجاربه الخاصة والأماكن التي عاش أو عمل فيها. استعمل فيها مكونات مترفة، ما ساهم في نجاحها. هذا النجاح شجعه على تقديم المزيد من المنتجات الأخرى، منها ما يتعلق برياضة الـ«بيلاتيس» زينها بـ«لوغو» الدار.

يعمل هادي سليمان على إرساء أسلوب حياة يحمل بصماته ونظرته للجمال (سيلين)

مستحضرات التجميل كان لها جُزء كبير في خطته. كان لا بد بالنسبة له أن ترافق عطوره منتجات للعناية بالبشرة والجسم تُعزز رائحتها وتأثيرها. هنا أيضاً حرص أن تشمل كل جزئية في هذا المجال، من صابون معطر يحمل رائحة الدار وكريمات ترطيب وتغذية إلى بخاخ عطري للشعر وهلم جرا.

في عام 2019 طرح مجموعة عطور متخصصة أتبعها بمنتجات للعناية بالبشرة والجسم (سيلين)

كانت هذه المنتجات البداية فقط بالنسبة له، لأنه سرعان ما أتبعها بمستحضرات ماكياج وكأنه كان يعرف أن وقته في الدار قصير. كان أول الغيث منها أحمر شفاه، قدمته الدار خلال أسبوع باريس الأخير. من بين ميزاته أنه أحمر شفاه يرطب ويلون لساعات من دون أن يتزحزح من مكانه. فهو هنا يراعي ظروف امرأة لها نشاطات متعددة وليس لديها الوقت الكافي لتجدده في كل ساعة.

بدأ بأحمر شفاه واحد حتى يجس نبض الشعر ويُتقن باقي الألوان لتليق باسم «سيلين» (سيلين)

حتى يأتي بالجودة المطلوبة، لم تتسرع الدار في طرح كل الألوان مرة واحدة. اكتفت بواحد هو Rouge Triomphe «روج تريومف» على أن تُتبعه بـ15 درجات ألوان أخرى تناسب كل البشرات بحلول 2025 إضافة إلى ماسكارا وأقلام كحل وبودرة وظلال خدود وغيرها. السؤال الآن هو هل ستبقى الصورة التي رسمها هادي سليمان لامرأة «سيلين» وأرسى بها أسلوب حياة متكامل يحمل نظرته للجمال، ستبقى راسخة أم أن خليفته، مايكل رايدر، سيعمل على تغييرها لكي يضع بصمته الخاصة. في كل الأحوال فإن الأسس موجودة ولن يصعب عليه ذلك.