مجتمعات التفكير السياسي

في ذكرى الشاعر السوري محمد الماغوط

محمد الماغوط
محمد الماغوط
TT

مجتمعات التفكير السياسي

محمد الماغوط
محمد الماغوط

«إحدى المزايا العظيمة لمجتمع محترم هي أنك لا تحتاج فيه إلى التفكير في السياسة دائماً»، هذه العبارة للمفكر الأميركي كوامي أباياه وردت ضمن إجابة له في صحيفة «نيويورك تايمز»، وسبق أن أشرت إليها ضمن تعليقي على رد أباياه على سؤال حول الموقف الذي يمكن لمواطن أن يتخذه عند مواجهة حكومة تتبع سياسات لا يقبلها ذلك المواطن، وكان المقصود الحكومة الأميركية. تلك العبارة كيف سيتفاعل معها قارئ عربي وهو يعيش أوضاعاً تختلف بكثير عن تلك التي تواجه القارئ الأميركي؟ لا أظن أحداً سيختلف معي في أن المزية التي يتحدث عنها أباياه لا تنسحب اليوم على المجتمع الأميركي نفسه في عهد ترمب، بل على عهود معظم الرؤساء الأميركيين، إن لم يكن عهود كل أولئك الرؤساء، فالأوضاع في أميركا لا تشبه أبداً الأوضاع في دول غربية عرفت بهدوء حياتها السياسية، مثل الدول الاسكندنافية أو سويسرا وربما سنغافورة، حيث لا يحتاج المواطن فعلاً إلى التفكير بالسياسة كل الوقت، بل ولا جزءاً من الوقت.
أما حين نتحول إلى المجتمعات العربية، وكثير من المجتمعات الأخرى في العالم الثالث، فالوضع لن يختلف فقط، بل سيستدعي قدراً عالياً من السخرية والتهكم، حين توضع تلك المجتمعات موضع المقارنة مع تلك التي حققت أعلى درجات السعادة في العالم. فإن كانت ثمة ميزة لما يحدث في عالمنا العربي، فإنها ليست عدم التفكير في السياسة - وهذا بطبيعة الحال لدى من ابتلوا بما يسمى شقاء الوعي، وليس أولئك السادرين في شؤون كرة القدم مثلاً. إنها ميزة السخرية التي أثرت الكوميديا العربية على مدى العقود الماضية كلها، من الريحاني إلى عادل إمام، ومن دريد لحام إلى القصبي والسدحان، مروراً بكثيرين، منهم خالد النفيسي وعبد الحسين عبد الرضا (عبد الحسين العملاق الذي فقدناه أخيراً)؛ كل هؤلاء جزء من المشهد العربي الغارق في قلق التفكير بالسياسة من ناحية، والضحك على ذلك التفكير من ناحية أخرى.
القول بعدم التفكير في السياسة سيضحك أيضاً شاعراً غادر العالم وهو يضحك ساخراً في مجال من الكتابة الإبداعية قل فيه الضحك الساخر؛ إنه السوري محمد الماغوط الذي لم يرحل قبل أن يترك لنا تراثاً من قصائد النثر المثقلة بالصور التي تستدعي الضحكات - المؤلمة طبعاً - من واقع الإنسان البسيط وهو يواجه الآلة السياسية الضخمة، وكمية الفساد المستشري في الجسد العربي. الثيمة التي تتكرر لدى الماغوط، وبلا ملل، هي علاقته بوطنه، العلاقة التي يبدو فيها الشاعر كائناً رصيفياً هشاً، إنساناً متسكعاً يحلم بالخبز والحرية، مع قدر لا بأس به من الشبق، وكم كبير من الصور الكاريكاتيرية التي تنقل تلك الثيمة أو الثيمات المتداخلة. مع ذلك الكائن، ستبدو عبارة الأميركي أباياه ليست مضحكة فحسب، وإنما مقلوبة: عدم التفكير بالسياسة ممكن ليس لأن المجتمع محترم، وإنما لأن هناك من يعاقب على ذلك التفكير أصلاً؛ إنه التفكير الذي يتحول تغييبه إلى خطاب مبطن ومثقل بالسخرية:
مع تغريد البلابل وزقزقة العصافير
أناشدك الله يا أبي:
دع جمع الحطب والمعلومات عني
وتعال لملم حطامي من الشوارع
قبل أن تطمرني الريح
أو يبعثرني الكنّاسون
هذا القلم سيقودني إلى حتفي
لم يترك سجناً إلا وقادني إليه
ولا رصيفاً إلا ومرغني عليه.
ذلك ختام قصيدته «وطني» التي يخاطب فيها وطنه وأباه، إذ يتماهيان أو يتبادلان المواقع لأن الكيان هو الكائن في علاقة أبوية أو بطريركية تستعيد كل سمات الأب العربي التقليدي بصرامته.
هنا، يفقد الوطن دلالاته الرومانسية التي شغلت شعراء سابقين في مرحلة أكثر افتتاناً بقيم الوطنية ومبادئ الانتماء إلى الشعوب، سواء كان الوطن أفضل من الخلد (شوقي) أو كان الشعب ذا الإرادة القادرة على تحقيق الحياة / الحرية (الشابي). لم يعش الماغوط ليرى ميتات أخرى «للوطن» الذي قال إنه تابوت ممدد حتى الأطلسي، وإنه لا يملك ثمن المنديل ليرثيه، لكنه لم يمت حتى رأى ما يكفي من الإذلال ليكون شعره مقدمة لما سيأتي:
على هذه الأرصفة الحنونة كأمي
أضع يدي وأقسم بليالي الشتاء الطويلة
سأنتزع علم بلادي عن ساريته
وأخيط له أكماماً وأزراراً
وأرتديه كالقميص
إذا لم أعرف
في أي خريف تسقط أسمالي

هنا عبث متعمد بالرموز المثقلة بالقداسة؛ بالعلم (رمز مجد الأمم) الذي يتساءل الماغوط عن السبب وراء تنكيسه في المصائب ليذكرنا بالتنكيس الحقيقي: «لماذا تنكيس الأعلام العربية فوق الدوائر الرسمية، والسفارات والقنصليات في الخارج، عند كل مصاب؟ إنها دائماً منكسة!».
لكن العبث بالرموز، وإثارة كل هذه السخرية حول مفاهيم مقدسة، ليس ناتجاً عن سوداوية أو عبثية، ليس نتيجة موقف عبثي أو انسحابي من العالم؛ إنه نابع من الألم الذي انحدرت إليه الأوطان، في ظل أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية أهانت الأرض والناس، قبل أن تهين الأعلام. تلك هي الأوضاع التي عاشها الماغوط وغيره في أماكن كثيرة من الوطن العربي وغير العربي، وعرفتها مجتمعات أشار إليها المفكر الأميركي الأفريقي الأصل حين تحدث عن البلاد التي عاش فيها صبياً.
الماغوط مثل زملائه في دول عربية أخرى، كالعراق ومصر: السياب، والجواهري، وصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وهم غيض من فيض، كانت كراهيته حباً، وسخريته ألماً. لكن الماغوط، مثل معظم الشعراء المصريين، وعلى عكس شعراء العراق بشكل خاص، لم يمض وقتاً طويلاً خارج الوطن الذي انتقده، بل إنه لم يكد يغادره سوى لأماكن قريبة، مثل بيروت، وكان مما سمح له بالبقاء في ذلك الوطن، رغم سخريته المرة منه، أنه تفادى التعيين أو ذكر الأسماء، لم يحدد الأماكن، تماماً مثلما فعل عبد الرحمن منيف في اكتفائه بمنطقة اسمها «شرق المتوسط»، أو «حران»، بدلاً من تحديد منطقة بعينها، علماً بأن حياة الماغوط لم تخل من الاضطهاد السياسي، فقد دخل سجن المزة الشهير، وكانت زنزانته إلى جانب زنزانة ابن وطنه الشاعر أدونيس.
لقد مر الآن ما يزيد على العشرة أعوام منذ رحل الماغوط، وإن كان شعره ليس على كل لسان، فإن الهم الذي هيمن على ذلك الشعر لا يزال على معظم الألسن في مجتمعات لم تحقق بعد مرتبة الراحة من التفكير في السياسة، ودون أن تلوح في الأفق مؤشرات على أن ذلك قريب من التحقق.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.