أميركا بين المواجهات الآنية ومخاوف الاحتراب المستقبلي

الأصولية والعنصرية والقومية

مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
TT

أميركا بين المواجهات الآنية ومخاوف الاحتراب المستقبلي

مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)

والثابت أنه أخيراً نَحَتْ العنصرية الأميركية طريقاً مغايراً تجاه غير البيض والمهاجرين، كما نمت باطراد الجماعاتُ اليمينية العنصرية، لا سيما ذات التوجهات النازية منها، وجاءت رئاسة دونالد ترمب لتفتح الباب واسعاً أمام طروحات «أميركا أولاً»، التي اعتبرها الكثيرون داخل أميركا وخارجها رجع صدى لـ«ألمانيا فوق الجميع». في ظل هذه الخلفية المبسطة هل يمكن للمرء أن يفهم أبعاد ما جرى في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا؟
صباح السبت الثاني عشر من أغسطس (آب) الحالي. المكان حديقة عامة في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا، حيث يقبع هناك نصب تذكاري للجنرال روبرت لي، أحد أبرز دعاة انفصال ولايات الجنوب عن اتحاد الولايات الأميركية، خلال الحرب الأهلية قبل نحو قرنين من الزمان.
هنا كان البعض من سكان المدينة قد قرروا إزالة نصب الجنرال انطلاقاً من أنه يُذكِّر بفترة تاريخية مؤلمة في التاريخ الأميركي؛ زمن عبودية السود، وقد امتلك هؤلاء قناعة بأن بقاء النصب على هذا الحال يوجه إهانة لأميركا الحرة، حيث الجميع متساوون أمام القانون، السود والبيض، المولود على الأرض والمتجنِّس بجنسيتها، لكن يبدو أن هذه حقائق مبتورة.
من ولايات بعيدة مثل أوهايو وميشيغان وويسكنن، جاءت جماعات عنصرية يمينية مدججة بالأسلحة المرخصة شرعيّاً، مطلقين شعاراتهم التقليدية الرافضة للسود واليهود، الأجانب والمهاجرين، ليحدث الصدام المتوقع، ثم فجأة تدهس سيارة أحدهم بعضاً من المتظاهرين، ويتحول حرم جامعة فيرجينيا التاريخية، التي أسسها أحد أكبر وأهم الرؤساء التاريخ الأميركي، توماس جيفرسون، إلى ساحة حرب ومصابين، في استعلان للتعصب العرقي والكراهية، وعودة جماعات اليمين المتطرف كما النازي الأميركي و«الكو كلوكس كلان»، و«الآرية البيضاء»، و«التحالف الوطني»، وغيرها الكثير.
وتستدعي تطورات المشهد الأصولي والعنصري الأميركي طرح علامة استفهام مثيرة: «هل هناك منهجية مؤسسية حتى الساعة داخل البلاد ضد السود؟»... في مؤلفه الشيق «العنصرية... مقدمة قصيرة» يحدثنا البروفسور علي راتانسي أستاذ علم الاجتماع الزائر في جامعة سيتي – لندن، عن التمييز العنصرى الصارخ داخل أميركا، وعن أشكال اللامساواة في الولايات المتحدة الأميركية؛ فعلى سبيل المثال، في عام 2001 كان الدخل المتوسط الحقيقي للأسر السوداء 62 في المائة فقط من دخل الأسر البيضاء، وهو رقم يهبط إلى 58 في المائة إذا تم استبعاد الإسبان.
وتبلغ نسبة الأطفال الأميركيين السود الذين ينشأون في الفقر، بحسب التعريف الرسمي للدولة، ثلاثة أضعاف النسبة بين الأطفال البيض، فيما ظلت معدلات البطالة بالنسبة إلى الرجال السود ثابتة بكل صلابة عند مستوى ضعفين على الأقل مقارنة بكل الرجال البيض لفترة طويلة. ويظل الأميركيون الأفارقة أكبر جماعة مفصولة سكنيّاً عن غيرها في الولايات المتحدة، ويرجع هذا جزئيّاً إلى رفض الأميركيين البيض العيش في مناطق يعيش فيها أكثر من 20 في المائة من السود. والاختلافات في معدلات وفاة الرضع مؤشر واضح على صحة السكان، وهي كبيرة بدرجة خطيرة، وتبلغ معدلات وفيات الرضع السود ضعف مثيلاتها بين البيض. ويكمل نحو 75 في المائة من الأميركيين الأفارقة الآن دبلومة المدرسة الثانوية، لكن 14 في المائة فقط يحصلون على درجة جامعية... هل كان ما حدث إذن في تشارلوتسفيل أمراً غريباً أو مثيراً؟
من أين جاء مثيرو الشغب في أميركا خلال الأحداث الأخيرة؟ لا يعرف الكثيرون أن هناك حزباً نازياً أميركياً تأسس عام 1958 في مدينة أرلينحيتون بولاية فيرجينيا عينها، بواسطة جورج روكويل، الذي خطَّط لحكم أميركا في سبعينات القرن الماضي، لكن اغتياله قطع عليه الطريق، إذ قتله منشقّ عن الحزب، وقد كانت أفكاره وبالاً على الأميركيين، ومستمَدَّة من عمق الطروحات الهتلرية النازية، فقد كانت خريطته الفكرية إذا وصل لرئاسة أميركا تبدأ بالقضاء على اليهود بطرق هتلر ذاتها، عطفاً على ترحيل الأميركيين من أصول أفريقية، وإعادة بناء الدستور بأصل نازي.
عطفاً على ذلك كانت وما زالت حركة «الكو كلوكس كلان» واحدة من أعنف تلك الحركات، وقد قامت كثيراً بحوادث عنف وإحراق منازل وأراضٍ، واختطاف للسود وللأجانب.
أما التحالف الوطني الذي تأسس سنة 1974 على يد بروفسور الفيزياء ويليام لوثر بيرس فيعد أخطر جناح نازي جديد، في أميركا، ويحفل بقتلة ومفجرين وسارقي بنوك... ويكفي الإشارة إلى أن تيموثي ماكفاي مفجِّر مبنى الاتحاد الفيدرالي في أوكلاهوما عام 1995، كان ينتمي إلى هذا الجناح النازي المتشدد.
غير أن المشهد لا يتوقف عند الجماعات النازية أو اليمينية العنصرية الأميركية على هذا النحو التقليدي؛ فبحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، فإن جيلاً جديداً من اليمين المتطرف بدأ يترسخ حضوره أخيراً في الولايات المتحدة... لماذا وكيف؟
الجواب ولا شك يأخذنا في طريقين؛ الأول مادي، والثاني ذهني، أي أن الأول متصل بالأوضاع الاقتصادية والمالية في البلاد، والثاني بالحالة السياسية في العقد الماضي والعامين الأخيرين تحديداً.
لتكن البداية مع الشق الأول المادي، ومدخلنا إليه هو أن المتظاهرين الذين ملأوا الدنيا شغباً في فيرجينيا، إنما جاءوا من ولايات ومناطق يطلق عليها حزام «الصدأ» للدلالة على تدهور الأوضاع الاقتصادية.
في هذا السياق يتذكر المرء ما قاله المؤرخ الأميركي الأشهر هوارد زين في مؤلفة العمدة «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة»، وتحديداً في الفصل الرابع والعشرين من الجزء الثاني، الذي يجيء تحت عنوان «الثورة القادمة لحراس النظام».
أما حراس النظام، فهم جماهير الشعب الأميركي التي بدأت تشعر بحالة من السخط والغضب على الطغمة الأوليجاركية في البلاد، التي تتحكم في الثروات في غير عدالة.
يشير زين إلى أن نسبة واحد في المائة فقط من الشعب يملكون ثلث الثروة، وباقي الثروة موزع على التسعة والتسعين في المائة الباقية بطريقة تجعلهم في صراع دائم، مثل الصراع بين أصحاب الأملاك الصغيرة ضد من لا يملكون، والسود ضد البيض، والسكان الأصليين ضد الوافدين، والمثقفين والمهاجرين ضد الأمير. والشاهد أن هوارد زين يحذر وينذر الأميركيين، لا سيما القيادات الرسمية، من أن ما جرى في العشرينات عندما قُدِّر لجماعة «الكو كلوكس كلان» العنصرية أن تستقطب ملايين الأعضاء، يمكن أن يتكرر ما دام بقي ملايين الأميركيين يتطلعون لحلول للمشكلات الخطيرة التي تضرب أميركا اقتصادياً واجتماعياً أسرياً وأخلاقياً، تلك التي تجعل منهم عاجزين، وحيدين، محبطين، ما أدى إلى عزلتهم عن بقية الناس، وعزلتهم عن العالم وعن عملهم وعن أنفسهم، فراحوا يعتنقون مذاهب يمينية متطرفة.
يبقى الطريق التحليلي والتفسيري الثاني لتصاعد المد القومي الأميركي عند بعض المحللين السياسيين داخل أميركا وخارجها، مرتبطاً ارتباطاً كبيراً بفوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالرئاسة، وما صاحب حملته من شعارات كانت واضحة وكافية لإطلاق وحش العنصرية من القمقم.
هنا يمكن الإشارة إلى أن تلك الصحوة الأصولية قد بدأ ازدهارها من جديد خلال سنوات حكم باراك أوباما، وهو ما أشارت إليه صحيفة «لاكروا» الفرنسية في تقرير أخير لها، معتبرة أن الأمر كان رد فعل طبيعياً رافضاً لأن يصل رئيس من أصول أفريقية لمقعد الرئاسة، وقد جاء ترمب ليوقظ أشباح أميركا العنصرية.
جعل ترمب تركيزه على الداخل الأميركي خلال حملته الانتخابية الرئاسية، واستعار كثيراً من الصور التمثيلية والتشبيهية التي لعب من خلالها الحكم النازي على مشاعر الألمان، وقد نجح ترمب بالفعل في الحصول على أصوات اليمين المتطرف، الذي عزف بدوره على التدهور الديموغرافي للرجل الأبيض، وللفرص الاقتصادية الضائعة التي يتمتع بها اليوم السود واللاتين والمهاجرون، ولا ينكر أحد أن ترمب قد روج بالفعل لطروحات اليمين البديل «الت رايت» المناهضة للهجرة، وكارثية هذا البديل هي أنه استطاع تقديم ثقافة بديلة في شكلها الظاهر مغاير للجماعات العنصرية التقليدية، لكنها في الباطن قد تكون أشد خطراً وهولاً، ما دعا البروفسور جورج مايكل الأستاذ المتخصص في حركات اليمين المتطرف في جامعة «وستفيلد ستايت» لأن يجزم بأن هذه الحركة مرشحة للامتداد».
لا يمكن للمتابع للشأن الأميركي أن يوجه اتهامات رسمية أو مباشرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب بوصفه «راعي العنصرية» الأميركية في طبعاتها الجديدة، لكن ضمناً يمكن للمرء بأن يقطع بأن السياقات الأولى لحكمه والطغمة التي تحيط به تدفع دفعاً مباشراً الولايات المتحدة في طريق العنصرية والتزمت، قبل أن ينعطف المسار نحو العنف ولاحقاً إلى الاحتراب الطائفي والعرقي، وصولاً إلى ما يخشاه البعض ويتوقعه البعض الآخر، أي الحرب الأهلية بين الأميركيين. خذ إليك بعضاً من الأسماء التي أحاطت بترمب خلال حملته الانتخابية وبعضها سار معه ولازمه حتى الساعة.
بداية مع ديفيد ديوك القومي المتطرف، الداعي لتفوق الجنس الأبيض ورئيس حركة «الكو كلوكس كلان» السابق، الذي أعلن دعمه الصريح لدونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الماضية، وقد قال ذات مرة: «أشعر بفرح غامر عندما أرى أن ترمب يتبنى معظم القضايا التي دافعت عنها... شعاري سيظل أميركا أولاً».
ولا يزال ديوك بمثابة المرشد الروحي لتلك الجماعة العنصرية، التي يقول مكتب المباحث الاتحادية أن عددها يتزايد بشكل كبير، لا سيما أنهم يعزفون على أوتار الوظائف والفرص التشغيلية، حيث كثير من البيض لا يجدون فرص عمل في الوقت الذي يعتبرون فيه السود والمهاجرين يقتنصون تلك الفرص اقتناصاً.
الشخصية الأخرى الأقرب مباشرة إلى ترمب، ريتشارد سبنسر برتراند، رئيس معهد الأمن القومي الأميركي، الذي عمل طويلاً في الخفاء لتعزيز الانتماء إلى الهوية البيضاء وإنشاء دولة عرقية من شأنها أن تبعد الأقليات. وفي قراءة موسعة عبر موقع «تقرير واشنطن» نجد ربطاً واضحاً بين سبنسر البالغ من العمر 38 عاماً، وحركة اليمين البديل التي تعمل على جمع القوميين البيض من شمال البلاد إلى جنوبها، وفي احتفالية بفوز ترمب، وبحسب ما نقلته صحيفة «واشنطن بوست» قال سبنسر: «دعونا نحتفل مثل عام 1939، في إسقاط لا تخطئه أذهان الحضور عن العام الذي تم فيه اختيار أدولف هتلر مستشاراً لألمانيا، وشرع فيه النازيون في خلق دولتهم العرقية.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.