الرقابة الذاتية... لجم للسان مقابل البقاء على قيد الحياة

الصحافة. مهنة نقل الحقائق وتوثيق الأنباء. إن كانت من خلال عدسة الجوال أثناء مظاهرة في إحدى دول الربيع العربي أو بتحقيق استقصائي موسع يكشف فسادا في بنوك أوروبية أو في مدونة تخاطب معاناة بلدة صغيرة جائعة في القارة السمراء.
مهنة صعبة أينما كانت. محفوفة بالمخاطر والخطوط الحمراء والتحديات. تضحيات جمة يقدمها الصحافي مقابل نشر الكلمة. سطور قد تعرض عائلته للخطر وتنهي حياته.
ضاقت مساحة حرية الصحافة اليوم وتعددت وجوه الرقابة. اختلفت من منطقة إلى أخرى، لكنها قيدت النشر وضاعفت الانتهاكات. بتنا نتلقى الأخبار بكل ارتياحية من خلال بحث سريع على «غوغل» أو جولة خاطفة على «تويتر». لكن لو وقفنا لوهلة وفكرنا بجيش المراسلين... أولئك الصحافيون تحت القصف أو وراء القضبان... أينما كانوا... من يوثق مسيرتهم؟ ومن يدافع عن حقوقهم؟ ومن سيعيد لهم صوتهم المخطوف؟

- وجوه للرقابة
حاولت البحث عن إجابات لتساؤلاتي. ولم أتصور أن أجد معظمها في الجادة السابعة بحي مانهاتن الشهير وسط نيويورك. هناك في ناطحة سحاب، الطابق الحادي عشر بالتحديد، يقبع مقر «لجنة حماية الصحافيين» المعروفة باختصارها العالمي «CPJ». أسسها مجموعة من الصحافيين في 1981 لحماية زملائهم. اللجنة من أبرز المناشدين لحرية الصحافة عالمياً. تبذل جهوداً من أجل عالم، يعمل الصحافيون فيه من دون مخاوف وتهديدات في شتى بقاع الأرض. أهداف نبيلة وقد تكون مستحيلة في يومنا هذا، إلا أن أهم مخرجات اللجنة كتاب سنوي عنوانه «الاعتداءات على الصحافة». يرصد الكتاب أبرز التحديات التي واجهت الصحافيين خلال العام. طبعة عام 2017 ركزت بفصولها المتنوعة على «وجه الرقابة الجديد».
«اخترنا إبراز وجوه الرقابة الجديدة في إصدار هذا العام لأنها قضية جادة، ففي مختلف مناطق العالم نشهد تراجعا في حرية الصحافة خصوصا في دول كانت معروفة بحرية صحافتها مثل كندا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكينيا ودول أخرى»، هكذا بدأت مسؤولة العلاقات لدى اللجنة كيري بيترسون ردها على أسئلتي خلال احتسائنا للقهوة في مكتبها بعيدا عن ضجيج الشارع.
بيترسون تحدثت لـ«الشرق الأوسط» عن تغيير مفهوم الرقابة. ترى أن المصطلح تشعبت معانيه بابتعاده عن وضوحه السابق؛ «تهديد الصحف بسحب الإعلانات منها في كينيا يعتبر رقابة، وحجب مواقع من قبل حكومات نوع من الرقابة أيضاً، وتهديد الصحافيين نوع آخر». لكن أكثر أنواع الرقابة المثيرة للقلق، بحسب بيترسون هي «الرقابة الذاتية». حيث تقول: «قد يضطر الصحافيون ممارسة نوع من الرقابة على أنفسهم خوفاً على حياتهم الأمر الذي يقيد العمل الصحافي».

- تعريف جديد للصحافي
المناخ السياسي المتقلب في معظم مناطق العالم أجبر الصحافيين على العمل في ظروف محفوفة بالمخاطر، خصوصا في مناطق النزاع. تكشف بيترسون أن 88 في المائة من الصحافيين الذين لقوا حتفهم أثناء العمل الميداني خلال عام كانوا محليين وليسوا مراسلين أجانب.
يقول المسح السنوي للجنة إن 36 صحافيا فقدوا حياتهم في ميادين الحروب منذ مطلع العام الحالي. وبحسب اللجنة فقد قتل 48 صحافيا حول العالم في 2016 بينما دخل 259 إلى السجن. الإحصائية ذاتها تذكر بقائمة الصحافيين الضحايا منهم 72 صحافيا قتلوا في 2015 و61 آخرين في 2014.
اتساع نطاق النزاعات في الشرق الأوسط وأهمية نشر المعلومة وتنوع المصادر، بدوره خلل مفهوم الصحافة والصحافي. في هذا الشأن، تقول بيترسون: «أصبحنا مرنين في تعريفنا للصحافي». ثم توضح أن اللجنة قررت أن تعتمد تعريفا واسعا لمن تعده صحافيا وتقول: «على سبيل المثال المراسل الذي يمارس عملا صحافيا دقيقا ومستقلا لكن منبره الوحيد هو نشره على صفحته على (فيسبوك) جراء القيود في بلاده نعتبره صحافيا».
ومن أقرب الأمثلة لقلبها، صحافي كان يعمل في إذاعة بالكونغو، وعندما أقفلت أبوابها، قرر أن يحمل مذياعا ويمضي في شوارع بلدته لنشر الأخبار ولقي حتفه أثناء عمله.
لجنة حماية الصحافيين منظمة بحثية توفر خدمات للصحافيين، بشتى معاني المصطلح، الذين بحاجة لدعم مالي أو طبي أو قضائي أو حتى بحاجة للهروب من منطقة نزاع بعد تلقي تهديدات لكن شرط توفير الدعم، وفق بيترسون هو أن تكون تلك الاحتياجات نتيجة العمل الصحافي.
حاولت الاستفسار عن حالات معينة في منطقة الشرق الأوسط، فحولتني بيترسون إلى زميلها شريف منصور.

- نظرة داخل الشرق الأوسط
رقابة ذاتية ناجمة عن الخوف. خوف من عقاب الحكومات، وذعر من تهديدات القتل التي يتلقاها الصحافي من تنظيمات متطرفة في منطقة الشرق الأوسط اليوم من «داعش» وأخواتها. رقابة غير مباشرة تجبر المراسل أن يشل قلمه خوفا على حياته.
في الشرق الأوسط وتحديدا بعد انطلاق الربيع العربي، شهدت المنطقة لأول مرة انفتاحا لمجالات كثيرة لتبادل الأخبار والمعلومات في المنطقة، وفي دول الربيع اتخذ مواطنون قرار المخاطرة ونشر آرائهم وما يرونه وما يسمعونه حول القضايا التي أشعلت ثوراتهم». هكذا عاد بي شريف منصور، منسق برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى لجنة حماية الصحافيين، إلى عام 2011، واصفا المناخ آنذاك.
ويوضح شريف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن «الثورة أدت إلى ولادة الصحافي المواطن، والناشط الإعلامي. هؤلاء لم يحصلوا على أية دعم أو تدريب احترافي لكي يقوموا بمهنة الصحافة ولكن الكثير منهم قام بالمخاطرة، والبعض دفع الثمن».
ووفق منصور، لقي أكثر من 110 صحافي في سوريا أغلبهم من شريحة الشباب حتفه أثناء تغطيتهم للمظاهرات أو أحداث النزاع المسلح منذ بدء الحرب في البلاد. ويضيف: «بالإمكان قول الشيء ذاته عن العراق واليمن وليبيا. الكثير من الناشطين والصحافيين الذين قتلوا كانوا يعملون في وسائل إعلام كانت تبث على الإنترنت وتعتمد على متطوعين لم يحصلوا على أية تدريب سابق أو كانت لهم خبرة في تغطية الحروب».

- «طوق نجاة»
لجنة حماية الصحافيين لا توفر دورات تدريبية، بيد أنها تحاول، رغم شح الموارد والكوادر دعم الصحافيين خاصة من هم في مأزق، وتعمل على إنقاذ حياتهم. تتدخل اللجنة حتى عندما لا تنفع الأساليب التقليدية، خصوصا عند التعامل مع جهات غير حكومية كفصائل مسلحة. وبرنامج الإغاثة في الشرق الأوسط يركز على أكثر من بعد. في توضيح ذلك يقول منصور: «نعمل على مساعدة الصحافيين الذين يتعرضون للتهديد سواء بتقديم دعم مالي لهم لكي يخرجوا من مناطق النزاع أو تغطية أي نوع من المساعدة الطبية والقانونية للمستهدفين والملاحقين قضائيا». مضيفاً أن «بعض الدعم قد يكون تسهيلات للحصول على إقامة للذين يضطرون إلى الهجرة سواء لأميركا أو أوروبا حتى يقوموا بمتابعة عملهم الصحافي في بلاد المنفى». ولا يختصر دعم اللجنة على حفظ أرواح الصحافيين وأمنهم في العالم الحقيقي إذ يشمل حماية كيان الصحافي في عالم المجازي والإنترنت. يلفت منصور إلى أنه في حال تعرض الصحافيين لانتهاك أو قرصنة أو إبطال أو إيقاف مواقعهم أو اختراق صفحاتهم على مواقع التواصل، تقوم اللجنة بتوثيق ذلك والعمل مع شركات الإعلام الجديد لتعديله.
أما في مجال السلامة الصحافية، فإن اللجنة على سبيل المثال، بصدد إطلاق نشرة يومية لتغطية عملية تحرير الرقة. ويوضح منصور: «سنعمل على توعية وتنبيهات خاصة بالسلامة ومناطق الخطر التي يجب أن يتجنبها الصحافيون وأنواع السلامة المطلوبة التي يحتاجونها لو قاموا بتغطية هذه المنطقة، وتوفير معلومات عن أقرب مستشفى أو أقرب طريق لإجلاء من يتعرض للإصابة يتم استهدافه أو يكون تحت خطر حتى لا يتم اختطافه أو ما هو أسوأ». وقد استطاعت اللجنة مساعدة أكثر من 120 صحافياً سورياً اضطروا للهجرة للخروج من البلاد والتأقلم مع مقرهم الجديد.
- فقدان الأمن والإحباط
تلك التحديات قد تحبط صحافيا، مهما كان مؤمنا برسالته. والقضية لها تبعات نفسية أيضاً. حيث يقول منصور إن «الكثير من الصحافيين خصوصا من قام بتغطية مناطق النزاع يشتكون من اضطراب ما بعد الصدمات (PTSD) وغيره من الأمراض النفسية الناجمة عن عملهم وسط العنف». ويوضح: «الكثير من الصحافيين أجبر على الخروج من دولته أو السكوت بالتهديد فقد مصادره وفقد أمانه الشخصي والعائلي».
ويربط ذلك بتجربته الخاصة، «كنت في إقليم كردستان العراق وقابلت الكثير من الصحافيين الذين كانوا يغطون معارك الموصل وشرحوا لي كيف أن الصحافيين قضوا سنين في بيوتهم أو خارج بيوتهم هاربين من (داعش) وبعد ذلك فقدوا عملهم أغلب الصحافيين أصبحوا عاطلين عن العمل».
رغم التحديات، لا تزال ظاهرة الصحافي المواطن علامة ميزت دول الربيع. قد يختار صحافي اسما مستعارا، أو قد تختار ناشطة التدوين بحذر خوفا من خسارة كل شيء، لكنهم ماضون.