«من فات قديمه تاه»... مهرجان من الإسكندرية إلى القاهرة

يصل الماضي بالحاضر ويرعى الحرف التراثية

TT

«من فات قديمه تاه»... مهرجان من الإسكندرية إلى القاهرة

في أجواء تراثية شرقية، تحتضن أرجاء بيت السناري الأثري بالسيدة زينب في القاهرة فعاليات مهرجان «من فات قديمه تاه» في دورته السابعة، بمشاركة عارضين وحرفيين من مختلف الأجيال يعرضون منتجات تجسد الهوية المصرية وتطور الفلكور المصري عبر قطع ومشغولات يدوية بخامات متنوعة.
انطلق المهرجان الذي تنظمه سنويا مكتبة الإسكندرية، يوم الجمعة الماضي، ويستمر حتى24 أغسطس (آب) الحالي، وقد استقبل المهرجان زواره بالبخور العربي في بهو المنزل. واستغل العارضون كل ركن وكل زاوية في المنزل وحتى ممراته لعرض مشغولاتهم المبهرة. فهنا تتراص المشغولات السيناوية إلى جانب مشغولات الأرابيسك والحلي والمشغولات النحاسية والخزفية وقطع الخيامية، لتشبع شغف عشاق التراث بكل روافده.
كان من اللافت وجود معروضات للدمى والعرائس ذات الملامح المصرية في الشكل والزي بألوان جذابة، حيث يقف الفنان طلعت مرزوق عارضا لمجموعة من العرائس القطنية المبتكرة التي توظف موتيفات من الحضارات التي شهدتها أرض مصر، لتجذب الكبار قبل الصغار. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «أقوم بتصميم العرائس كلها بنفسي وتساعدني أسرتي في وضع اللمسات النهائية عليها من حلي وإكسسوارات، وقد جاءت فكرة العرائس من دافع تعريف الأطفال بقيمة التراث المصري، فقدمت العروس الفرعونية، والريفية، والبدوية وكلها بخامات طبيعية». ويضيف: «أيضا صممت منها أحجاما وأشكالا مع أقلام للكتابة أو مع مناشف للوجه، وعرائس أخرى يمكن تزيين الحجرات بها».
بجواره وجدت طاولة مثيرة تتراص عليها أدوات مائدة والأواني وأكواب نحاسية ملونة ومنقوشة بكتابات طمست بعضها بفعل الزمن، فهي شاهدة على براعة الفنان العربي من قرون سحيقة، لكن الزائر للمعرض سيجد لافتة تحبطه قليلا تعلن أن هذه المعروضات «للعرض فقط». يقول جامع التحف والأنتيكات مرهف البغدادي، لـ«الشرق الأوسط»: «أقدم هنا جزءا من مقتنياتي التي لا أفرط فيها، جمعتها من مصر وسوريا وهي تعود لحقب زمنية مختلفة، وكلها أصلية ممهورة بأيدي صانعيها». يقف البغدادي وترافقه زوجته وابنته الصغيرة شارحا كل قطعة وأهميتها واستخداماتها في العصور القديمة وكانت أكثر القصص جاذبية بالنسبة لي ما رواه عن قطعة نحاسية تبدو وعليها طلاسم وكتابات عربية، يمسك بها البغدادي وتبادل الحديث مع سيدة مسنة بالفعل هي «طاسة الخضة»، هذا المسمى الذي نسمع عنه لكننا لم نعرف أبدا ماهيته! يقول البغدادي: «هذه الآنية الصغيرة تكتب عليها آيات قرآنية كثيرة، وكانت موجودة في كل البيوت لعلاج الفزع أو الخوف، حيث تترك في الشرفة لتتجمع فيها قطرات الندى، ويسقى منها المفزوع ليذهب عنه الخوف وتحل به الطمأنينة». تضم طاولة العرض أيضا أكوابا نحاسية نقش على إحداها عام 1369 هجرية، ويوضح: «جئت من سوريا وأقيم في مصر منذ عامين، وبالطبع جمعت الكثير في سوريا لكنني لم أتمكن من اصطحابه معي، وأمارس هوايتي في مصر وأسعى لتأسيس متحف للمقتنيات التراثية». وبالفعل أسس البغدادي متحفا مصغرا في منزله حيث خصص أكبر حجراته لعرض مقتنياته للأصدقاء.
في أحد أركان البيت العتيق، الذي كان مقرا للمجمع العلمي المصري في زمن الحملة الفرنسية على مصر، تلفت الانتباه المنتجات التراثية المغربية من مشغولات نسيج وأقمشة وأزياء تراثية تعكس هوية دولة المغرب، التي تحل كضيف شرف، وذلك بالتعاون مع جمعية رابطة الجالية المغربية الاجتماعية بمصر. ورغم قلة المعروضات المغربية إلا أن حضورها كان قويا وأثارت تعطش الجمهور المصري لمعرفة المزيد عن الثقافة المغربية. وقد شاركت بعض السيدات من الجالية المغربية بالقاهرة بعرض أزياء للقفطان المغربي أثار إعجاب الحضور بروعة تصميماته.
«نحن نحب أن نحافظ على تراثنا وتحرص كل فتاة على شراء المنتجات اليدوية الفلكلورية المغربية عن زواجها كأهم مقتنيات منزلها الجديد» هكذا شرحت الأستاذة زكية سحماوي، رئيسة جمعية رابطة الجالية المغربية الاجتماعية بمصر، في حديثها لـ«الشرق الأوسط» عن مفروشات منزلية للعرائس يعتبر اقتناؤها من أهم تقاليد الزواج في المغرب، مشيرة إلى ارتفاع سعر كل قطعة وحرص المغاربة على اقتنائها تقديرا للتراث والتقاليد.
التجول في المعرض متعة كبيرة لا سيما أنت تتجول في فناء بيت السناري الذي تزينه المشربيات والثريات، والذي يعود بك إلى زمن القاهرة الفاطمية، إذ يرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1209هـ - 1794م وقد أنشأه «إبراهيم كتخدا السناري» وهو من أثرياء وأعيان القاهرة آنذاك، ولا شك يحتاج لعدة زيارات لتفحص كل ما يقدمه العارضون.
يقدم المهرجان هذا العام حرفا جديدة من خزف وطرق على النحاس وخيامية وسجاد وكليم وأشغال جلود وأعمال خشبية وحفر على الخشب وباتشوورك وشموع وكروشيه ومشغولات سيناوية ونوبية وغيرهم من الأعمال المتميزة. هذا ويصاحب المهرجان مجموعة من ورشات العمل الفنية لتعليم تلك الحرف وعروض فنية حية داخل المهرجان بالإضافة إلى محاضرات وندوات علمية وحفلات فنية.
في حفل افتتاح المهرجان ألقى مدير المكتبة، دكتور مصطفى الفقي كلمة عبر فيها عن سعادته بما يقدمه المهرجان من تواصل بين الماضي العريق والحاضر، وقال: «يتمتع المصريون بذكاء اليدين» في إشارة إلى براعة أجيال الحرفيين المصريين خصوصا في القاهرة التاريخية.
وأكد الفقي في كلمة لجمهور المهرجان أن «هذا المهرجان دليل على أن مكتبة الإسكندرية لم تعد ولن تكون نخبوية تتعامل مع الخارج فقط لكنها تصل إلى كل مواطن»، مشدداً على ترحيبها بكل المبدعين من الأطياف كافة.
ويقول الدكتور خالد عزب، رئيس قطاع إدارة المشروعات الخاصة بمكتبة الإسكندرية: «المهرجان في طور النمو التطور وأصبح له طابع دولي، حيث يستضيف كل عام دولة عربية أو أجنبية كضيف شرف، ويشهد إقبالا متزايدا عاما بعد عام، وهو يحقق هدف المكتبة الرئيسي من الحفاظ على التراث والفلكلور وتعريف الأجيال الجديدة به». وتشارك في المهرجان الكثير من المؤسسات والجمعيات في المهرجان ومنهم غرفة صناعة الحرف اليدوية باتحاد الصناعات المصرية، وجمعية خير وبركة، وجمعية التراث والفنون التقليدية، وغيرها من المؤسسات والأفراد.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)