كتاب غير حياتي: «مستقبل العقل» لميشو كاكو

أحمد فضل شبلول
أحمد فضل شبلول
TT

كتاب غير حياتي: «مستقبل العقل» لميشو كاكو

أحمد فضل شبلول
أحمد فضل شبلول

قد لا أكون خارج السياق عندما أذكر أن كتاب «مستقبل العقل» لمؤلفه الأميركي من أصل ياباني ميشو كاكو، والذي صدر حديثا عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت بترجمة سعد الدين خرفان، قد ألهمني روايتي الثالثة «زمرد» التي تعتمد في بنيتها على المعلوماتية والخيال العلمي في مقابل الخرافة والأسطورة.
إن هذا الكتاب بأسلوبه العلمي المبسط وبغوصه في بنية الدماغ وتشريحه للمخ، وما يمكن أن يحدث للإنسان وللعالم في المستقبل القريب، قد أفادني جدا، فبنيت عليه أركان رواية «زمرد»، ثم أعدت قراءته مرة أخرى من أجل البناء على تلك الأركان، وجعلت بطلة الرواية عالمة فيزياء مصرية هي الدكتورة منال عثمان (أو منال الشال فيما بعد)، وهي تقوم بحراك علمي وجدل مستقبلي مع فص الحجر الكريم «زمرد» الذي ورثته في خاتمها عن جدتها عالمة التاريخ والآثار. فبدأ زمرد يكتسب وعيا لحظيا من خلال حواره مع إصبع البنصر للدكتورة منال، ذلك الإصبع الذي يمد زمرد بوعيه وملذاته حتى صار أذكى مخلوق في العالم، ثم تتسارع الأحداث بعد ذلك ويكتشف العلماء والمستقبليون أن «زمرد» استطاع أن يغير لون شبكة الإنترنت ووصلاتها وخواصها من الأزرق إلى الأخضر الزمردي، وأن له دماغا ووعيا عظيمان استطاع بهما أن يخزن كل محتويات شبكة الإنترنت في دماغه فاكتسب الكثير والكثير من ثقافات العالم وفنونه وآدابه وعلومه، فيقرر علماء إحدى الجامعات الأميركية نسخ دماغ زمرد لتوضع النسخة في دماغ قرد ودماغ إنسان آلي، ودماغ إنسان متخلف عقليا، ودماغ إنسان سوي، ثم يدرسون تأثير هذا النسخ على الكائنات الأربعة.
أما الكتاب الثاني الذي أعجبت جدا به وأسهم في تحولي لكتابة الرواية فهو رواية «كافكا على الشاطئ» إحدى أهم روايات الكاتب الياباني هاروكي موراكامي (مواليد 1949)، فالرواية من أمتع الروايات التي قرأتها، وهي تتحدث عن الفتى «كافكا تامورا» (وهذا ليس اسمه الحقيقي، ولكنه اسم السارد الذي عرف واشتهر به في عالم الرواية) الذي قرر أن يشاور غرابه (كرو) ويهجر بيته ويفارق والده في عيد ميلاده الخامس عشر، لأسباب كثيرة توحي بها الرواية ولا تذكرها صراحة، ليواجه مصيره في الحياة، (وليكون أقوى فتى في الخامسة عشرة في العالم) فيغير اسمه وينتقل إلى بلدة جديدة لا يعرف فيها أحدا، ولا يعرفه أحد، ويعتمد على نفسه وينتقل إلى عدة أماكن إلى أن يستقر به الوضع في مكتبة أهلية صغيرة يعمل بها فراشا ومعاونا وقارئا أيضاً.
ولأنه يعشق القراءة في هذه السن الصغيرة ويواظب على الرياضة فقد استطاع أن يتواءم مع الحياة الجديدة، ويصادق أمين المكتبة (أوشيما) الذي كان يظن أنه شاب، ولكنه يكتشف فيما بعد من خلال أحد المواقف أنه يقع بين الذكر والأنثى (مخنث) ولا يغير هذا من طبيعة صداقتهما.
وتتشابك أحداث الرواية وتتعقد عندما يُقتل والد كافكا، وتبدأ الشرطة في البحث عن الابن الهارب، الذي لم يكن موجودا وقت وقوع الجريمة، قد يسهم في كشف لغز مقتل أبيه الذي كان مثَّالا أو نحاتا مشهورا، والذي تنبأ لابنه بأنه سيتزوج أمه ويضاجع أخته ويقتل أباه فيما يشبه عقدة أوديب. ونتساءل هل لهذا السبب قرر الفتى الهروب من منزله ولعنته وقدره (القدر أحيانا كعاصفة رملية صغيرة لا تنفك تغير اتجاهاتها)؟
ونكتشف من خلال السرد والأحداث أن هناك تأثيرات من رواية «العطر» لباتريك زوسكيند وبطلها جان باتيست غرنوي الذي أراد أن يصنع عطره الخاص فيركع له كل من يشم هذا العطر أو يستنشقه، فيمتلك بذلك العالم، ومن أجل هذا يقوم بقتل الفتيات الصغيرات الجميلات لأخذ رائحتهن لصناعة هذا العطر.
في «كافا على الشاطئ» نجد الأب يصطاد القطط ويقتلها أو يذبحها ويحتفظ برؤوسها في ثلاجة كبيرة، ليأخذ أرواحها بغية صناعة أطول ناي في العالم، يؤثر به على سامعيه.
لا شك أنها أفكار غريبة وعجيبة ولكنها في عالم الرواية الفانتازية لا تعد كذلك.
* شاعر وروائي مصري



«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».