عبد الوهاب أبو زيد: اخترتُ شعر الحب حين أصبحت الرومانسية تهمة

الشاعر السعودي يقول إنه يهرب للخيال من قبح الواقع

عبد الوهاب أبو زيد
عبد الوهاب أبو زيد
TT

عبد الوهاب أبو زيد: اخترتُ شعر الحب حين أصبحت الرومانسية تهمة

عبد الوهاب أبو زيد
عبد الوهاب أبو زيد

كرس الشاعر السعودي عبد الوهاب أبو زيد تجربة شعرية ناضجة، بدأها بالشعر الحديث، لكن سرعان ما عاد نحو كتابة «الشعر الرومانسي». وهو كاتب ومترجم أيضاً، صدرت له مجموعتان شعريتان: «لي ما أشاء» 2008، «ولا قبلها من نساء ولا بعدها من أحد» 2013، وكتابان مترجمان: «خزانة الشعر السنسكريتي» 2012، عن مشروع كلمة، و«لست زائراً عابراً لهذا العالم»، عن دار سما الكويتية، عام 2015.
التقينا به في الظهران، شرق السعودية، حيث يعمل في شركة أرامكو النفطية، وأجرينا هذا اللقاء:

- لماذا تأخرت ولادة ديوانك الأول «لي ما أشاء»؟
- تأخرت في نشر كتابي الأول «لي ما أشاء»، عام 2007، بسبب ترددي وتوجسي وقد تناقض موقفي حيال ما أكتبه من شعر. غير أنني حين استجمعت شجاعتي لنشر الكتاب (بدفع وإلحاح من صديقي الشاعر جاسم الصحيح)، اخترتُ أن أنشر ما كان يمثل تجربتي حينها من النصوص، وأرجأت نشر نصوصي السابقة لتلك التجربة، التي يغلب عليها الطابع الرومانسي وشعر الحب، لأنها كانت أقرب للتقليدية. وبعد ستة أعوام (2013)، نشرت ديواني الثاني الذي كان خالصاً لوجه الحب، وضم قصائد جديدة (زمنياً)، وما استبقيت عليها من قصائدي القديمة. وبفعلي هذا، ربما أكون قد خالفت ما يفعله الشعراء عادة، من نشر تجاربهم الأولى أولاً، ولعل تلك كانت ضريبة التأخر في النشر، ولكن هكذا كان.

- عادة يبدأ بالقصيدة التقليدية، أنت بدأت تكتب الشعر الحديث ثم عدتَ للأولى... كيف حدث ذلك؟
- حين كنتُ أصغر سناً وأقل وعياً، نفرتُ من كتابة القصيدة التقليدية، واتجهت لكتابة قصيدة التفعيلة الحديثة (أو هكذا أزعم وأظن)، انسياقاً مع ما كنت أتابعه وأعجب به من شعر الحداثة، ببعديها المحلي والعربي. ولكن نقطة التحول التي دفعت بي إلى الرجوع مرة أخرى لكتابة القصيدة التقليدية بين الحين والآخر، ربما كانت هي تعرفي وتعمقي في الاطلاع على تجربة الشاعر الكوني فيرناندوا بيسوا، هذا الشاعر الفريد والمتفرد في كل ثقافات وآداب العالم، فهذا الشاعر الذي نعرف الآن أنه كان يكتب بأسماء مختلفة، وبأساليب شعرية متفاوتة تتراوح ما بين الشكلين الكلاسيكي والحداثي، لم يجد غضاضة في أن يجمع في ذاته بين عدد من الشعراء، أو أن يكون شعراء عدة في آن واحد، حتى وإن بدا أحدهم مناقضاً للآخر فنياً. قد يرى بعضهم فيما أكتبه نكوصاً وتراجعاً في مسار التجربة، غير أنني أرى في ذلك غنى وتوافقاً وتعايشاً وتسامحاً مع الذات، ومع العالم.

- هل تعتبر نفسك شاعراً رومانسياً؟
- لا أدري إن كنتُ شاعراً رومانسياً أم لا، ولا يهمني أن أدري، رغم أن الرومانسية أصبحت أشبه بالتهمة الانتقاصية في زمن المد الحداثي. وحقيقة الأمر أن الشعر الرومانسي (أفضل أن أسميه شعر الحب) يحتل مساحة كبيرة من شعري، إلا أنه لا يمثل مجمل تجربتي الشعرية المتواضعة، أو لنقل إنني أزعم (أو ربما أتوهم) أن هناك مساحات وأبعاداً أخرى في شعري بعيدة عن شعر الحب.

- من هو «مثلك الأعلى» في شعر الحب؟
- ليس لي مثلٌ أعلى في شعر الحب، أو في الشعر إجمالاً، هناك شعراء أحب شعرهم كثيراً، ولكن أن يكون أحدهم مثلاً أعلى لي، فذلك يعني أن أترسم خطاه وأقلده، وأكون نسخة مكررة منه. لا أريد أن أكون تكراراً لأحد؛ أريد أن أكون ذاتي قبل وبعد كل شيء. هذا ما أتمنى وآمل وأطمح لتحقيقه.

- يبدو أن هناك «أنثى افتراضية» «لا قبلها من نساء ولا بعدها من أحد» (اسم المجموعة)... رغم أنك خضتَ «ثلاث محاولات فاشلة لوصفها» (عنوان القصيدة)؟
- لا أدري لماذا افترضت أنها أنثى افتراضية، رغم أنها أنثى واقعية، من لحم ودم، حتى وإن كنتُ قد كتبتُ قصائدَ لها / عنها قبل لقائي بها. ولكن بالطبع ليس للشاعر أن يقسر القارئ على قراءة محددة لنصوصه، فباب التأويل والتلقي سيبقى مفتوحاً، وليس لأحدٍ الحق (بما في ذلك الشاعر نفسه) في إغلاقه.
المرأة تستوطن شعرك لحد أنك تقول: (ولا قبلها من نساءٍ ولا بعدها من أحد، كأن الجمال اصطفاها له وحده، فاستوت مثل فينوس فوق سرير الزبد / تسامتْ / فما من شريكٍ لها في الجمال، بعينين مخضرتين اخضرار الجنانِ وثغرٍ تعتق فيه البرد / وخصرٍ كأن نحتته الرياح).
- المرأة تحتل مكانة واسعة من شعري، سواء أكان ذلك قبل أن أجد امرأتي التي كنت أبحث عنها، وأتخيلها وأتوهمها (سميتها «ابنة الوهم» ذات قصيدة قديمة)، أم بعد عثوري عليها، واكتفائي بها ممثلة ومجسدة لكل ما كنت أحلم بأن أجده في المرأة / الحلم.
- خيال جامح يهيمن على قصيدتك: «سأرسم باباً وأدخل / سأرسم بئراً وأنزل فيها / وأرسم نافذة وأطل على الغيبِ منها / وأرسم طائرة وأحلق عني بعيداً، وعنها / سأرسم نبعاً وأغرفُ منه / وأرسم ناياً وأنفخُ فيه / وأرسم صدراً وأبكي عليه / سأرسمُ وجهاً غريباً أحدقُ في مقلتيه».
- الخيال مملكة الشاعر ومأواه وملجؤه وجنته (وأحياناً جحيمه)، الخيال يهرب إليه الشاعر من قبح واقعه وقيوده وأغلاله، الخيال لا يكون الشعر شعراً من دونه في أغلب الأحوال، الخيال تغدو الحياة معه متعددة الأبعاد والأطياف والألوان، والخيال تكون الحياة من دونه كهفاً لا كوة فيه ولا منفذ للخروج منه.
- كثيراً ما نراك تبحر في العيون والأحداق... عن ماذا تفتش هناك؟ تقول: «عيونك كل ما ملكت يداي.. وكل ما أهوى»، وتقول: «ثملت بخمرة الأحداق»، وتقول: «أنا المنفي في عينيكِ منذ البدء لم أزل.. كفرت بكل دربِ هوى إلى عينيك لم يصلِ»، و«أتعبتني المسافةُ.. تمتد بين عيني وعينيكِ».
- يُقال إن العيون مرآة للروح، ولا أجد وصفاً أدق وأعمق من ذلك، رغم قدمه وتقليديته. العيون هي تلك النوافذ التي نطل منها على الآخرين، ويطلون علينا منها، وهي المرايا التي نبحث فيها عن ذواتنا الضائعة وأرواحنا الشريدة. العيون لغة أخرى أغنى وأعمق غوراً من أي لغة، أو لنقل إن العيون هي أبجدية الروح.

- تقول في قصيدة: «الحبُّ لكي يصبحُ حبّاً / يحتاجُ إلى قلبين والقُبلّة»... ولكنك في قصيدة أخرى، تقول: «أحبّكِ ليسَ الحبُّ لفظاً على فمي / ولكنه السّرُ المسافرُ في دمي»... أي أنواع الحبّ يشعلك؟
- الحب جوهر واحد، وإن تعددت صوره، وإن بدا أن هناك تناقضاً بين تمثلاته وتمظهراته في الواقع وفي الحياة. لذلك، لا أستطيع أن أتحدث عن نوع بعينه من الحب، يشعل ناري ويوقد لهبي. هناك حب الروح للروح، وحب القلب للقلب، وحب العقل للعقل، وحب الجسد للجسد، وأسمى أنواع الحب ما تتداخل فيه وتتماهى وتتمازج كل أنواع الحب هذه في آن واحد، فلا يعود بوسع المرء أن يفرق بينها، أو يرسم الحدود والفواصل فيما بينها.

- تقول: «يا صاحبي ما لهذا القلب من وطنٍ / سوى الجمال، سوى إيماءة الوترِ»... متى كان الجمال وطناً؟
- الجمال والفن هما وطن الإنسان الذي يلبي احتياجاته الإنسانية الأصيلة المتجذرة في تربة روحه منذ الأزل، وهما السماء التي لا تكفهر ولا ترسل صواعقها لتحرقه، أو ريحها لتجتثه من جذوره.

- حدثنا عن تجربتك مع الترجمة؟ هل يمكن للشعر أن تحمله وسائط الترجمة؟
- تجربتي مع الترجمة، إن صح الحديث عن وجود تجربة تستحق الحديث عنها، كانت ولا تزال رديفة لتجربتي في كتابة الشعر، وقد سبق لي القول إنني كنت ألجأ للترجمة كثيراً حين تجف بئر الشعر وينضب ماؤها، فكانت الترجمة بمثابة التعويض المؤقت لكتابة الشعر. وأشير هنا إلى نقطة ربما لم أتحدث عنها من قبل، وهي أنني أميل لترجمة قصيدة النثر أكثر من غيرها (ولعلي أميل لترجمة الشعر نثراً بشكل عام، وهذا حديث آخر قد يطول)، قد يكون تعبيراً عن حبي لقصيدة النثر، وتعويضاً عن فشلي في كتابتها، وأنا هنا أسجل اختلافي مع من يقولون بسهولة كتابتها، وأؤكد أنها أكثر صعوبة من القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة؛ طبعاً حين تكتب بشكل جيد.

- أنت أيضاً تكتب الشعر الشعبي... هل يمنحك هذا النوع من الشعر فضاءً أكثر حرية؟
- هذا صحيح، وقد لا يعرف كثير من القراء أنني أكتب النص الشعبي أيضاً، أو قصيدة اللهجة المحكية، ولي فيها تجارب، نشرت عدداً لا بأس به منها في صفحتي في «فيسبوك»، ولاقت صدى طيباً عند متذوقيها، كما أن لي محاولات خجولة، وقد لا تستحق الذكر في كتابة الشعر باللغة الإنجليزية.
ما الذي يحدد لغة القصيدة وشكلها لدي؟ الجواب هو: لا أعلم، لأن سؤال «من أين تأتي القصيدة؟» سيظل مفتوحاً، ولن نجد إجابة مقنعة ووافية له، مهما حاولنا، وكثرت مزاعمنا.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».