لم تكن الفنانة اللبنانية شيرين كرامة تتوقَّع أن تحمل عودتها إلى السينما بعد غياب، بفيلم «كلب ساكن» المعروض في مسابقة «آفاق السينما العربية» ضمن فعاليات مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي»، هذا القدر من الدهشة والامتنان. فعندما أُبلغت بحصولها على جائزة «الأداء التمثيلي للفنانة متعدّدة التخصّصات» ضمن جوائز «جيل المستقبل» في «أيام القاهرة لصناعة السينما»، شعرت بأنّ «شيئاً يتجاوز حدود الفرح العادي يحدث لها»، وفق تعبيرها.
كانت إلى جانبها في تلك اللحظة مخرجة الفيلم سارة فرنسيس التي بكت فرحاً، والمنتجة لارا أبو سعيفان التي دمعت هي أيضاً، بينما بقيت شيرين غير قادرة على استيعاب اللحظة كاملة. تستعيد الواقعة في حديثها مع «الشرق الأوسط»، قائلة: «أشعر أنني حين أعود إلى منزلي سأبدأ حقاً في استيعاب ما حدث. لقد جئتُ فقط إلى القاهرة لأحتفي بالسينما وبالفيلم، ولم أتوقَّع قط الحصول على جائزة».

لكن وَقْع الجائزة كان أعمق من مجرّد فوز. فهو بالنسبة إليها حدث رمزي يمسّ جذوراً شخصية لا تنفصل عنها. فوالدتها مصرية من الإسكندرية، لذا لطالما حملت لبنان ومصر معاً في قلبها، وكبرت على الأفلام المصرية وأغنيات عبد الحليم وعبد الوهاب، وعلى قصص والدتها عن بلد لا تنقطع عنه العاطفة. تُضيف: «حين منحتني مصر هذه الجائزة، شعرت كأنّ أمي تناديني، وأنّ حبّي للبنان ولمصر لا ينفصل». تقولها، وهي تحبس دموعها، لا لأنها تتذكّر لحظة الفوز فحسب، بل لأنها تستعيد ما يعنيه أن يعود الفن ليجمع ما فرّقته الجغرافيا والغربة.
هذا الامتزاج بين الهويات هو جوهر مسيرة شيرين الفنية. فقبل السينما، درست الباليه الكلاسيكي والرقص الحديث والمعاصر، ثم دخلت المسرح على يد فنانين مثل روجيه عساف وسهام ناصر وجورج هاشم، ووقفت إلى جانب أنطوان كرباج. وفي الوقت نفسه، درست علم النفس في لندن ونالت الماجستير من جامعة روهامبتون، وهي عضو خريج في الجمعية البريطانية لعلم النفس.
وتقول إنها لم تتعامل يوماً مع الفنّ بوصفه مساحة يمكن حصرها في خانة واحدة: «لا أحبّ أن يضعني أحد في صندوق. كلّ ما درسته وعشته يؤثّر فيَّ وفي طريقة تمثيلي. علم النفس ساعدني على فهم الشخصية بعمق، ليس فقط في اللحظة التي أمثّلها فيها، بل في حياتها قبل ذلك وبعده».
تؤمن شيرين بأن الشخصية ليست مجموعة مَشاهد متفرّقة بل حياة كاملة، وأنّ دور الممثلة هو الحفاظ على «الخيط» الذي يمنح الشخصية اتّساقها. وتستشهد بشخصية «عايدة» التي أدّتها في فيلم «كلب ساكن»، وهي شخصية تتنقّل بين حالات متعدّدة، مما يجعل خطر السقوط في أداء غير منطقي وارداً لو لم يكن الممثل ممسكاً بخطّ داخلي واضح. وهنا يعود علم النفس ليمنحها أدوات إضافية لفَهْم دوافع الشخصية وكيف تتشكّل ردود أفعالها العاطفية.

ورغم أنّ الفيلم يروي علاقة متوتّرة ومتفككة بين زوجين، بدت المفارقة بالنسبة إليها حين قارنتها بحياتها الزوجية الهادئة والمستقرّة. فكيف استطاعت الدخول في عالم يُمثّل النقيض تماماً مما تعيشه؟ تجيب وهي تستعيد دموعاً مرّت سريعاً خلال الحديث: «حياتي هادئة وليست فيها أوجاع أو مشاكل، لكنني أتأثَّر كثيراً بغيري. فالتعاطف هو الذي ساعدني على فَهْم الشخصية وتجسيدها. كنتُ أرى قصص نساء أعرفهنّ عانين وجعاً كبيراً. وسط أوضاع اقتصادية ومادية صعبة عاشها لبنان في تلك المدّة، فهذه الأجواء ساعدتني على فهم العلاقة بين الزوجين في الفيلم، فحتى العلاقات السليمة والسوية تعاني مشكلات في ظروف صعبة مثل هذه».
ربما كان السفر الدائم جزءاً من هذا الوعي الواسع. فشيرين تعيش خارج لبنان منذ سنوات، تتنقّل مع زوجها الذي يعمل في شركات عالمية، وتنتقل الأسرة من بلد إلى آخر كلّ 3 أو 4 سنوات. تقول إنّ هذا التبدُّل المستمرّ أنهكها أحياناً، وأخذ منها وقتاً كان يمكن أن تمنحه للسينما، خصوصاً مع مسؤولية بيت كامل وطفلين كان عليها إدخالهما مدارس جديدة في كلّ بلد. لكنها تؤكد أنّ التجربة أثّرت فيها إنسانياً وفنّياً: «عشتُ بثقافات مختلفة. صرتُ أفهم الإنسان أكثر، أفهم كيف تؤثّر الثقافة في هويّتك وطريقة تعبيرك. كلّ هذا منحني حرّية وجعلني أرى العالم بطريقة مختلفة، ولغتي في التمثيل صارت مختلفة».
لم تكن شيرين كرامة مهتمّة ببناء حضور «صناعي» في الوسط الفني؛ فلا مدير أعمال، ولا تواصل نشط، وحسابها في «إنستغرام» خاص. وتقول إنها لا تروّج لنفسها ولا تبحث عن الأدوار. ومع ذلك، يأتيها مَن يُشبهها في طريقة التفكير من حين إلى آخر ويطلب التعاون معها. «المخرج يُجري اختباراً للممثّل، لكنّ الممثّل أيضاً يجري اختباراً للمخرج»، تقولها مبتسمة، قبل أن تعود إلى ذكر سارة فرنسيس بوصفها نموذجاً للمخرجة التي تحمل احتراماً وحساسية عاليتين في تعاملها مع الممثلين.
وتلفت إلى أنّ رحلتها مع الفيلم كانت تجربة إنسانية قبل أن تكون فنّية؛ عادت من خلالها إلى لبنان بعد غياب لتعمل فيه وتتذكّر أنها تنتمي إليه رغم المسافات: «كنتُ أبكي كثيراً لأنني أمثّل بلدي وأنا لا أعيش فيه، لكنني أريد أن أكون معه في كلّ لحظة». تقولها بشفافية كاملة، وكأنّ الفيلم كان وسيلتها للعودة إلى مكان يُمثّل لها مساحة رحبة من الحنين.

