«قصصنا الشخصية ليست مجرّد ذكريات تتبخَّر برحيلنا، بل تستحق أن تصبح حكايات تُروى وتتناقلها الأجيال التي تأتي من بعدنا»، تقول وداد مروة وهي تشرح لـ«الشرق الأوسط» إنّ كلّ سيرة فيها من المحطات والتفاصيل وقصص الكفاح ما يجعلها جديرة بالتسجيل. وفي منطقتنا قد يصبح الأمر أكثر إلحاحاً، بسبب طبيعة الحياة المتقلّبة والتحولات التي جرّتها الحروب والاضطرابات. ثمة عائلات تشتَّتت، وأُسر تهاجر، وبات كلّ فرد منها في بلد. هناك أحفاد لا يعرفون أجدادهم، وربما نسوا أصولهم.
لذلك خطر لوداد مروة أن حفظ قصص الناس قبل رحيلهم، هو أمر يساعد العائلة على صون تاريخها من الضياع، وفهم أصولها. أطلقت مشروع «ذكرى» بهدف كتابة سِير من يرغبون في رواية قصصهم. وهؤلاء ليسوا قلّة، تقول مروة: «كثيرون يحبّون أن ينقلوا هذا الإرث ويُبقونه محفوظاً في كتاب، وهو ما نقوم به، ونُخصّص له محترفين، لأنّ الكتابة الشيّقة والمنظّمة ليست بالأمر اليسير».

جاءتها الفكرة بعد أن توفيت جدتها ومعها رحلت قصصها الجميلة التي كانت ترويها لأحفادها وتُسهم في تكوين وعيهم. تقول مروة: «رغم الفراغ الكبير الذي تركته جدّتي، فإنني لم أدرك أهمية ما ضاع بغيابها إلا بعدما نشرنا مذكّرات والدتي في كتاب، وشعرتُ أنه أعاد توطيد أواصر روابطنا العائلية». وتشرح أنها بفضل الكتاب اكتشفت أموراً كثيرة لم تكن تعرفها عن والدتها، لأنها روت للفريق الذي عمل على تسجيل مذكراتها ما لم تروه أبداً لابنتها من قبل.
«سيرة كلّ فرد هي إرث حقيقي» في رأي مروة، لكنّ الغالبية لا تجيد الكتابة بطريقة احترافية وشيّقة تُشجّع على القراءة. فأن تقوم العائلة بهذا الدور أمر صعب، وأن يعكف الشخص بنفسه على رواية سيرته فدونه عقبات، لأنه إن كان متواضعاً ظلم نفسه، أو كان فخوراً ضخّم دوره. مشروع «ذكرى» ينقل الحكاية من الفم إلى الورقة بأسلوب احترافي، وبدون تدخّل في الرواية. ثمة فريق يعمل على مختلف المراحل. فمن يسجل القصة يجب أن يعرف كيف يطرح أسئلته، وأن يكون على دراية بالبيئة التي يعيش فيها صاحب الحكاية. أمّا الكتابة فتُسنَد إلى شخص آخر غير الذي أجرى المقابلات. ثم يأتي دور المراجعة، و«نحن نحرص على تزويد السيرة بالصور، فهذا أدعى لفهم الأحداث وأقرب إلى ذائقة القارئ».

بعد 15 كتاباً، ترى وداد مروة أنّ الأشخاص لا يروون بالقدر نفسه من الأريحية والصراحة لعائلاتهم. فهم بحاجة إلى مسافة تفصلهم عمّن حولهم كي يشعروا بالحرّية.«كما أنّ الغالبية الساحقة من الذين سجّلنا سيرهم لم يرغبوا في بيعها أو طرحها في السوق. عدّوه إرثاً عائلياً خاصاً، ووزّعوا سيرتهم على العائلة والأصدقاء، وأهدوها لمَن يعنيهم الأمر».
أحد الذين دوّنت «ذكرى» سيرهم هو حاتم شريف الزعبي، الذي عمل محامياً بين الإمارات والبحرين والسعودية، كما كان وزيراً لمرات عدّة في الأردن، ورحل عام 2021. بعد صدور كتابه، أقام الزعبي حفلَي توقيع في عمّان والمنامة، نوقشت خلالهما سيرته ومراحل حياته. تصف مروة سيرة الزعبي بأنها «شيّقة ومُلهمة». فقد وُلد في فلسطين، وتلقّى تعليمه في الناصرة والقدس، ثم ذهب لدراسة القانون في لندن في أربعينات القرن الماضي، وأجبرته الظروف على البقاء خارج وطنه بسبب النكبة، واضطر إلى شق طريقه بنفسه.

بدأت نجاحاته في المملكة العربية السعودية، ثم مصرفي رفيع المستوى في الأردن، وتدرَّج في مناصب وزارية، بما في ذلك تقلده وزيراً للاقتصاد والخارجية. وعلى مستوى المحاماة، أنشأ الزعبي مكاتب له في دول عدة. كتابة سيرته وحفظها كانت أمراً مهماً له وللعائلة.
حاتم الشريف رجل مهم، ومساره خاص ومتميّز. «لكن بالبحث، نجد أن كلّ واحد منّا في حياته محطات جديرة بأن تُروى. جميعنا لنا معاركنا وانتصاراتنا وهزائمنا. لهذا كلّ إنسان تستحق حكايته أن تُكتب».
غالبية الذين طلبوا كتابة سيرتهم بلغوا سناً شعروا فيها أنهم أنجزوا مهمّتهم، وبات بمقدورهم أن يقصّوا الحكاية. آخرون مثل ليلى فوزي يُبادر أبناؤهم إلى طرح الفكرة عليهم. تشرح فوزي أنّ الكتاب كان هدية لها في عيد الأم: «عندما قال لي أولادي، سأُقابَل لكي تُكتب قصة حياتي، تردّدت وشعرت بأنّ الأمر صعب جداً. ولكن بعدما اختبرتُ التحدُّث مع المُحاوِرة الصبورة (ماي)، أقول إنها كانت أفضل هدية تلقّيتها في حياتي. سعيدة جداً بأنني أستطيع مشاركة قصصي مع أحفادي».
تسجيل المقابلات قبل البدء في الكتابة قد يحتاج في المتوسّط إلى 12 جلسة. «نُفضّل ألا نُثقل على الشخص. لقاء واحد في الأسبوع يكفي ليتمكن من استجماع أفكاره وتحضير نفسه للجلسة التي تليها. وغالباً ما يسترسل المسنّون في رواية خصوصياتهم. لهذا نحن حريصون على إطلاع صاحب الكتاب على المعلومات التي سننشرها. فقد يطلب حذف أشياء أو إضافة أخرى. كما نلتزم بالحفاظ على سرّية المعلومات الشخصية لمن نتعامل معهم. وهذا أمر أساسي جداً».

رواية السيرة تبعث الأمل في نفوس المسنّين. إذ تقول ماجدة محمد إنّ والدها كان قد بدأ يشعر باليأس والوحدة بعد وفاة والدتها، ويجد صعوبة في الاستيقاظ الصباحي. «لكن دخوله في مرحلة القصّ ساعده على التطلّع قدماً، بعدما أخذ يستمتع بالتحدُّث عن طفولته ومعاناته ونجاحاته، وعن زوجته الراحلة بشكل خاص».
وداد مروة طوَّرت عملها طوال السنوات الـ12 الماضية، وهو عمر مشروعها، وباتت مع فريقها يستطيعون إنجاز السيرة بالعربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، أو بلغتين إن طلب صاحب الكتاب ذلك. كما يمكن أن يُستعاض عن الكتاب بفيلم وثائقي، أو كتاب صوتي، أو حتى موقع إلكتروني. كلّ وسائل التوثيق ممكنة.
لكن مروة تتمنّى أن يتوسَّع مشروعها، ويخرج من نطاقه الفردي، ليوثّق سيرة قرية أو مدينة أو مؤسسة أو عائلة أو قبيلة. تقول إنّ «في جنوب لبنان قرى كثيرة تهدَّمت وذكريات بدأت تُطوى. أتمنّى لو أتمكن من كتابة سير هذه القرى وأهلها وحكاياتها». أفكار طموحة تحتاج إلى فرق عمل. لكن وداد مروة تؤمن بأنّ العمل يجرّ ما بعده، وأنّ التوثيق الفردي -كالجماعي- ضروري، في منطقة تفقد كل يوم جزءاً من ذاكرتها بفعل الخراب والتهجير والموت.

