يُقدّم الفيلم الفرنسي القصير «فتاة الماء» تجربة فنّية مؤثرة، تمزج بين البساطة والتأمل، من دون الاكتفاء بسرد حكاية تقليدية؛ بل يغوص في أعماق النفس والذاكرة والزمان، من خلال صور شاعرية تنبض بالماء والحياة، عبر قصة «ميا»، المرأة التي تمضي عمرها في الغوص الحرّ بين الأمواج، تبحث في أعماق البحر عن نفسها، في حين يترك الزمن بصماته على وجهها وجسدها وذكرياتها.
اختارت المخرجة ساندرا ديمازيير أن تروي هذه الرحلة من دون كلمات، مُستخدمة أسلوب التحريك التقليدي المرسوم بالألوان المائية، لتصنع عالماً بصرياً رقيقاً ومضيئاً، تتحرّك فيه البطلة بين سطح البحر المُضيء وأعماقه الغامضة؛ بين الماضي الذي يلاحقها والمستقبل الذي لا يأتي، في لوحة تجمع بين الواقع والحلم، وبين حضور الجسد وغيابه.
الفيلم الذي بدأ رحلته بمهرجان «كان السينمائي» في دورته الماضية، وصولاً إلى «الجونة السينمائي» في دورته الأخيرة التي حصد فيها جائزة «نجمة الجونة البرونزية» لأفضل فيلم قصير، نال إشادات نقدية واسعة.
تقول المخرجة ساندرا ديمازيير لـ«الشرق الأوسط»، إنّ «فكرة الفيلم وُلدت من لحظة شخصية مؤثّرة، حين عادت جدّتها في المستشفى فرأت جسدها الصغير الضعيف، وتذكّرت طفولتها معها»، مشيرة إلى أنها في تلك المرحلة كانت تحاول الإنجاب من دون جدوى، وهو ما جعلها تتأمّل فكرة الاستمرار والانقطاع، والأمومة والغياب، والحياة بلا أبناء.

وأضافت: «بعد أيام، شاهدت وثائقياً عن نساء يغصن في أعماق البحر لصيد الأسماك، بينهن فتيات صغيرات وعجائز طاعنات في السنّ. صورة أجسادهن التي تستعيد خفّتها في الماء رغم ثقلها على اليابسة شكّلت الشرارة الأولى لولادة فيلمي»، موضحة أنها رأت في هؤلاء النساء مرآة لجدّتها ولنفسها: «فالماء بالنسبة إليّ لم يكن مجرد فضاء بصري؛ بل حالة وجودية تُعبّر عن الغوص في الذات بحثاً عن المعنى والسكينة، كما أنه يحمل رمزية مزدوجة؛ فهو يمنح الحياة ويبتلعها، يطهّر ويؤلم، مما جعل البحر يتحول في الفيلم إلى مركز بصري وروحي تتقاطع فيه مشاعر البطلة مع تلاطم الموجات وتبدُّل الضوء».
وأكدت أن الإيقاع البصري والزمني كان أحد التحدّيات الأساسية في بناء العمل؛ إذ أرادت أن تُظهر مرور السنوات عبر الغوصات المتكرّرة للبطلة «ميا»؛ فكلّ مرة تصعد فيها إلى السطح تكون الحياة قد تقدَّمت، والعمر قد انقضى، والذكريات تراكمت مثل حُبيبات الرمل في قاع الوعي، موضحة أنها اعتمدت على تقنيات التحريك الكلاسيكي لرسم الانتقالات الزمنية والوجدانية في لقطة واحدة، مُستخدمة حركة الكاميرا الجانبية والتحوّلات اللونية والموسيقية، لتجسيد مرور الوقت وتبدُّل الإحساس.
ولفتت إلى أن «الماء في الفيلم ليس مجرّد خلفية طبيعية؛ بل رمز للمرايا الداخلية؛ فكلّ غوص يُمثّل رحلة في داخل الذات، وكلّ عودة إلى السطح لحظة مواجهة مع ما تبقّى من الحياة»، مشيرة إلى أنها لم تفكر في الرمزية خلال الكتابة بقدر ما شعرت بأنه المكان الوحيد القادر على احتضان الصمت والتأمل: «لأنّ البحر يُشبه الذاكرة؛ هادئ في الظاهر، مضطرب في الأعماق، لا يُفصح عمّا يخفيه إلا لمَن يتجرأ على الغوص فيه».
وأضافت أنّ اختيارها الرسوم التقليدية كان قراراً فنّياً وجمالياً؛ لأنها أرادت أن تخلق تواصلاً عضوياً بين الرسم والمشاعر: «فالرسم اليدوي يمنح الصورة هشاشة إنسانية لا يمكن للوسائل الرقمية وحدها تحقيقها»، موضحة أنها استخدمت الألوان المائية «لأنها تحمل شفافية تُشبه الماء نفسه، ولقدرتها على تجسيد التحوّلات العاطفية الدقيقة من دون حواجز».
وتحدَّثت المخرجة الفرنسية عن الصعوبات التقنية والعاطفية، قائلة إنّ «التحدّي الأكبر كان في نقل الإحساس من دون كلمات، وفي جَعْل النظرات واللمسات بين (ميا) وزوجها قادرة على رواية ما لا يُقال»، مؤكدة أن ضغط الوقت ومدّة الفيلم المحدودة في 15 دقيقة جعلها تسعى إلى تكثيف عمر كامل في مَشاهد قليلة، تعتمد على الإيحاء أكثر من السرد المباشر.

وأوضحت أنّ الذاكرة في الفيلم تعمل «مثل رحلة قطار تمرُّ فيها المَشاهد والوجوه والمناظر؛ تدخل وتغيب وتعود»، مشيرة إلى أنّ الشخصيات الثانوية على غرار الأم والزوج والحوت «لم تكن شخصيات واقعية فحسب؛ بل رموز لعلاقاتها المتبدلة مع الحياة والموت والحلم».
وحرصت المخرجة على أن «يكون الصوت جزءاً من الصورة، لا مجرّد خلفية لها»، مؤكدة أنها كتبت المَشاهد وهي تتخيّل أصوات البحر والرياح والحشرات، ولافتة إلى أنّ فريق الصوت عمل على خلق حالة يختلط فيها الواقع بالخيال، فلا يُميّز المشاهد بين ما هو فوق الماء وما هو تحته، في إحساس مقصود يجعل المتفرّج يعيش داخل ذهن «ميا» وذكرياتها.
وأضافت أنّ الموسيقى رافقت التحوّلات الزمنية والعاطفية، وظهرت في لحظات محدّدة لتجسّد الرغبة أو الحنين أو الانطفاء، قبل أن تترك المجال في النهاية لأصوات الطبيعة، كي تختم الرحلة بالصمت والسكينة.
وختمت قائلة إنّ الفيلم بالنسبة إليها «ليس فقط عن (ميا)؛ بل عن كلّ إنسان يقف أمام مرآة حياته مُتأملاً ما مضى وما تبقّى»، مشيرة إلى أنها أرادت أن تمنح الجمهور مساحة للتأمُّل الذاتي: «ليغوص كلّ مُتفرّج في تجربته الخاصة، كما تغوص البطلة في الماء».

