بينما يترقب كثيرون افتتاح المتحف المصري الكبير يوم السبت المقبل، تتزايد التساؤلات بشأن مصير «متحف التحرير» وسط العاصمة، الذي كان لعقود أهم متاحف الآثار بمصر، وأحد أبرز المزارات السياحية في القاهرة، لا سيما بعد نقل أبرز مقتنياته؛ مجموعة الفرعون الذهبي «توت عنخ آمون» والمومياوات الملكية.
وافتتح المتحف المصري بالتحرير، في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1902، في عهد الخديو عباس حلمي الثاني، فهو «أقدم متحف أثري في الشرق الأوسط، وأول مبنى ينشأ في العالم ليكون متحفاً»، بحسب موقع وزارة السياحة والآثار. وفي أبريل (نيسان) 2021 تم ضم المتحف المصري بالتحرير للقائمة التمهيدية لمواقع التراث العالمي، التي تضعها لجنة التراث العالمي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو)، وهو الشهر نفسه الذي كان فيه المتحف محط أنظار العالم بتوديعه واحدة من أبرز مقتنياته وهي المومياوات الملكية التي تم نقلها إلى متحف الحضارة بالفسطاط.

ولعقود كان متحف التحرير مرجعاً أساسياً لكل دارسي علم المصريات والمهتمين بالحضارة المصرية، لكن تكدس الآثار به كان سبباً رئيسياً في اتجاه الحكومة المصرية لإنشاء متاحف جديدة؛ أبرزها المتحف الكبير، الذي استقبل على مدار السنوات الماضية، قطعاً أثرية من متحف التحرير أبرزها مقتنيات «توت عنخ آمون»، ليستقر الفرعون الذهبي في بيته الجديد، تاركاً فراغاً في التحرير.
ولا يعتقد الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار في مكتبة الإسكندرية، أن متحف التحرير فقد بريقه، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أنه «سيظل رمزاً خالداً للحضارة المصرية ومعلماً عالمياً فريداً من نوعه، مهما نُقلت منه مجموعات أثرية كبرى مثل كنوز الملك توت عنخ آمون والمومياوات الملكية».
وقال إن «هذا الصرح العريق هو بيت المصريات في العالم كله، والمدرسة الوطنية الكبرى التي تعلمنا فيها علم المصريات وتعلم منها العالم بأسره»، مضيفاً أن «المتحف المصري بالتحرير من المتاحف القليلة التي بُنيت بصفته متحفاً منذ البداية، وليس مبنى تم تحويله إلى متحف فيما بعد، ما يجعله في حد ذاته أثراً معمارياً تاريخياً يجسد روح العصر الذي شُيّد فيه».

واتفق معه الأمين الأسبق للمجلس الأعلى للآثار الدكتور محمد عبد المقصود، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «متحف التحرير لن يفقد دوره، باعتباره صاحب الشهرة الأوسع علمياً ووثائقياً في علم المصريات»، مشيراً إلى أن «موقعه في وسط العاصمة يجعله أقرب للمواطن المصري وحتى للسائح».
وأضاف أن «مبنى متحف التحرير في حد ذاته أثر وهو مرتبط بالناس وذاكرتهم، ولن يفقد بريقه، وسيظل أحد المعالم المهمة أثرياً وسياحياً».
وخلال السنوات الماضية، ومع تزايد التساؤلات بشأن مصير متحف التحرير كرر مسؤولون مصريون التأكيد على استمراره في أداء مهمته المتحفية صرحاً ثقافياً وتعليمياً وحضارياً، معولين على مشروع تطويره بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي وتحالف من خمس متاحف عالمية.
في عام 2019 أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية عن مشروع لتطوير المتحف، لـ«مواكبة التغييرات التي سيشهدها المتحف بعد نقل العديد من مقتنياته الأثرية إلى متاحف أخرى»، والمشروع بتمويل من الاتحاد الأوروبي ويتعاون في تنفيذه آثاريون مصريون مع نظرائهم الأوروبيين من المتحف المصري في تورين، والمتحف البريطاني، ومتحف اللوفر، والمتحف الوطني للآثار في ليدن والمتحف المصري في برلين، حيث يجري تطوير سيناريو العرض المتحفي «ليركز على القطع الأثرية التي تحكي تاريخ الفن المصري القديم».

وأشار عبد البصير إلى أن «المتحف يشهد حالياً عملية تطوير شاملة، تشمل تحديث أساليب العرض المتحفي والإضاءة ووضع القطع الأثرية في سياقات علمية وجمالية جديدة تعكس روح الفن المصري القديم وتُبرز عبقرية الفنان المصري عبر العصور».
وقال: «سيُعاد توظيف المتحف ليُخصص لعرض روائع الفن المصري القديم، بما في ذلك التماثيل النادرة، والمنحوتات الدقيقة، والمجموعات التي تعكس الجمال والإنسانية في الفكر المصري القديم، ليظل مزاراً سياحياً وثقافياً لا يمكن الاستغناء عنه».
وبحسب الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية المصرية، فإن «المرحلة الأولى من أعمال التطوير تكلفت 23.41 مليون جنيه مصري، (الدولار الأميركي يعادل نحو 47 جنيهاً مصرياً) وشملت شخاشيخ أسطح المتحف، والجمالون أعلى البركة، والقبة أعلى المدخل الرئيسي، والمسطحات الزجاجية بالقاعات الجانبية، إضافة إلى تغيير كل زجاج المتحف بنوعية زجاج تربليكس، واستكمال العمل في الأرضيات والجدران والأسقف، وإعادة طلاء الحوائط باللون الأصلي».
وفي عام 2022 اختارت وزارة السياحة والآثار، المتحف المصري بالتحرير، مكاناً للاحتفاء بحضارتها ومرور مائتي عام على نشأة علم المصريات، مؤكدة أن «متحف التحرير هو مقر الحضارة المصرية»، بحسب تصريحات المسؤولين آنذاك.

ويتكون المتحف من طابقين بهما مجموعات متنوعة من الآثار من عصر ما قبل الأسرات وحتى العصرين اليوناني والروماني، من بينها لوحة الملك «نعرمر» التي توثق توحيد مصر العليا والسفلى تحت حكم ملك واحد، ومجموعة من التماثيل والقطع الأثرية لملوك عصر بناة الأهرامات، والمجموعة الجنائزية لـ«يويا وتويا»، إضافة إلى آثار تانيس (صان الحجر)، وهي عبارة عن 2500 قطعة من آثار ملوك الأسرتين 21 و22، اكتشفها عالم الآثار الفرنسي بيير مونتيه أثناء الحرب العالمية الثانية.
كما يضم المتحف مجموعة كبيرة من مومياوات الحيوانات، وورق البردي والتوابيت والحلي من مختلف العصور المصرية.
وأكد عبد البصير أن «متحف التحرير ليس مجرد مبنى أثري أو مخزن للآثار، بل هو ذاكرة مصر الحضارية وروحها المتجددة في قلب القاهرة، وسيبقى منارة علمية وثقافية خالدة تُضيء طريق الباحثين والزائرين من جميع أنحاء العالم».







