في مدينة جدة التي اعتادت أن تُنصت للفكر كما تُنصت لموج البحر، وتجمع الحكايات لا لتُروى فحسب، بل لتُعاد صياغتها على مهل في فضاءات المعرفة والجمال، أقامت جمعية أدبي جدة، أمسية استثنائية في «رواق السرد» التقي فيها ضوء الفكر مع وميض الحرف، لمناقشة جملة من المواضيع تحت عنوان «رحلة السرد من التراث إلى الحداثة».

واحتُفِي في هذه الأمسية الثقافية بالدكتور حسن النعمي، أحد أبرز الأصوات النقدية في المشهد الأدبي السعودي والعربي، الذي قدم قراءة في ذاكرة السرد العربي، وسار عبر الزمن من بواكير الحكاية في الجاهلية إلى تجليات الرواية الحديثة، متتبعاً التحولات التي رافقت النص السردي، وهو يعبر عصوراً من اللغة والهوية.
ولفت النعمي، للتأثير البالغ للقرآن الكريم في هندسة السرد العربي، وكيف شكل حضور النص القرآني مرجعاً في بناء القص والتخيُّل والمعنى، ثم تناول العلاقة الجدلية بين الشعر والسرد، بوصفها جدلاً لم يُحسم بعد، فكل منهما ظل مرآة للآخر في الوجدان العربي، مشيراً إلى أن عوامل الانتصار والهزيمة في التاريخ العربي كانت محركات خفية أعادت تشكيل أشكال السرد ومساراته، لتولد من رحم التحولات أنواع سردية حديثة أكثر تعبيراً عن الواقع والذات.

ويُعدّ السرد الأدبي فن رواية الحكاية ونقل الأحداث وتسلسلها بلغة تحمل بُعداً جمالياً وتأملياً، كونه بناء فنياً يحيك الزمن والمكان والشخصيات، ويجعل القارئ يعيش التجربة، معتمداً في ذلك على جملة من العناصر المحورية التي تشمل «الحدث»، وهو العمود الفقري للسرد، كذلك «الشخصيات» التي تمثل أدوات الحكي وتحمل الدلالات النفسية والاجتماعية، مع وجود الزمن والمكان، واللغة والأسلوب، وهي الوعاء الذي يُعبر ويتغيّر بانطلاق العمل السردي.
وينطلق السرد العربي من جذور عميقة من الحكايات والمقامات، مروراً بتأثير النص القرآني في البناء السردي العربي، فيما ظهر في العصور الحديثة الشكل الروائي والقصة القصيرة، التي اتسمت بتكثيف لغوي وتقنيات سردية مستحدثة، وقد شغلت النقدية المعاصرة موضوعات، مثل بنية الشخصية في السرد، باعتبارها مفتاحاً لفهم النص والنسق السردي.
وعلى المستوى المحلي، سجل الأدب السعودي رحلة طويلة من السرد تتنقل بين الحكاية الشعبية والخطاب التاريخي والنص الروائي المعاصر، بخلاف ما كانت عليه البدايات التي كانت تعتمد على الشعر بشقيه العام والفصيح والحكايات الشفوية لنقل حدث هنا أو هناك أو توثيق ملاحم وبطولات، وكان ذلك بمثابة توثيق للذاكرة الجمعية للمجتمع.
ومع ظهور أدوات مساندة للنشر والانتشار والحفظ متمثلة في «الصحف... والطباعة»، شهد الأدب السعودي تحولاً نوعياً، وفتح المجال لنشر القصص القصيرة والروايات مع بروز الرواية السعودية المعاصرة التي تتناول موضوعات متعددة، من التحولات الاجتماعية والاقتصادية، إلى القضايا الإنسانية والعاطفية، معتمداً على لغة سردية حديثة.

وتأتي جمالية السرد في كونه تلك التفاصيل التي يبحث عنها المتلقي، ويسمعها بصوت الراوي الذي يعرض الحكاية بأسلوب سردي ديناميكي فيه كثير من الربط والتشويق، وهي عوامل في دفع الأدب السعودي للانتشار؛ كونه يمثل رحلة مستمرة بين التراث والتجديد، كذلك قدرته على ملامسة الوعي المجتمعي من خلال رؤى يسعى أصحابها إلى ترجمتها بلغة فنية.
وبالعودة إلى أمسية جدة السردية، فقبل أن تتخذ الأمسية مداها النقدي، سبقها احتفاء بالفن التشكيلي افتتحه «منتدى الفنون البصرية»، تحت إشراف خير الله زربان، بمعرضٍ حمل عنوان «رسائل سماوية» للفنانة عبير مصيري، إذ كانت الأعمال المعروضة بمثابة مناجاة بصرية تستدرج المتلقي نحو عالم من التأمل والدهشة، وتنسج لوحاتها بين الروح واللون مساراً نحو المعنى، التي كانت مدخلاً روحياً لتجليات السرد المقبلة.
وفي ختام الأمسية، كرم نادي جدة الأدبي الفنانة عبير مصيري، بدرعٍ تقديرية نظير مشاركتها بمعرض «رسائل سماوية»، كما كرم الدكتور حسن النعمي تقديراً لعطائه الأكاديمي ومسيرته النقدية الثرية، وقدّم الدرع واللوحة الفنية محمد علي قدس عضو مجلس الإدارة، بمشاركة عبد العزيز الشريف رئيس اللجان العاملة وعضو المجلس، في لحظة جسّدت رسالة أدبي جدة كمنارة فكرية رائدة تجمع بين الفنون والآداب، وتُعيد إلى الساحة الثقافية وهجها الإنساني الأصيل.







