بداية من «المتاحف المفتوحة» التي أتاحتها الحضارة المصرية القديمة قبل آلاف السنين عبر المعابد والمقابر، حتى عصر المتاحف الحديثة، التي يأتي في مقدمتها راهناً «المتحف المصري الكبير» المقرر افتتاحه بعد أيام قليلة، عرفت مصر المتاحف بمختلف صورها، إذ تطورت من شكلها التقليدي كحراس للتاريخ والتراث إلى مفهومها الحديث، الذي أصبحت في ظلّه تمثل مساحات نابضة بالحياة، تدعو إلى استكشاف أفكار جديدة، ما يساعد على فهم العالم بشكل أفضل.

وتمثل متاحف مصر تجربة معرفية شاملة للزوار من مختلف الاهتمامات، فهي تضم أكثر من 80 متحفاً في مجالات الفنون والآثار، وفق إحصاءات رسمية، من بينها «المتحف القومي للحضارة المصرية» الذي يتيح لزائريه فرصة للإبحار في رحلة عبر التاريخ للتعرف على الحضارات المصرية المتعاقبة.
كما يستطيع زائر «متحف الفن المعاصر» التعرف على إرث فني عظيم ومتفرد، يمتد إلى ما يزيد على قرن من الزمان، حيث يعكس إبداع الفنان المصري بالخط واللون والكتلة والنحت من مختلف المدارس والأجيال والمذاهب الفنية والفكرية المتباينة.
كما يعد «متحف الفن الإسلامي» في القاهرة أكبر المتاحف المتخصصة في الفن الإسلامي في العالم، ويحتوي على أكثر من 100 ألف تحفة، تشمل جميع فروع الفن الإسلامي بمختلف العصور.
متاحف مصر القديمة
«ولدت فكرة المتحف في مصر القديمة، قبل أن تعرف الكلمة نفسها بآلاف السنين؛ فيمكن اعتبار المعابد والمقابر في مصر القديمة أول شكل للمتحف في التاريخ الإنساني»، وفق عالم المصريات الدكتور حسين عبد البصير.

ويتابع في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «كان المصريون القدماء أول من سعوا لتوثيق تاريخهم وتخليد إنجازاتهم عبر العمارة والنحت والنقوش، فكانوا يضعون المسلات والتماثيل أمام المعابد والقصور، ليس للزينة أو العبادة فقط، بل كوسيلة للتذكير بالبطولات وإظهار عظمة الملوك والآلهة».
موضحاً أن «تلك التماثيل كانت تحمل نقوشاً توثق الأحداث والانتصارات، أي أنها كانت أشبه بـ(معارض مفتوحة) للهوية والتاريخ».
متحف بولاق
ويضيف: «كما كانت مصر من أوائل الدول التي أدركت قيمة المتاحف في حفظ الذاكرة الإنسانية، إذ كان أول متحف مصري في العصر الحديث هو متحف (بولاق) الذي أُنشئ عام 1858 في عهد الخديو سعيد باشا على يد العالم الفرنسي أوغست مارييت، مؤسس مصلحة الآثار المصرية».

مؤكداً أن هذا المتحف ضم وقتها أهم الكنوز الأثرية المكتشفة في تلك الفترة، قبل أن تنتقل مجموعاته لاحقاً إلى «متحف الجيزة»، ثم إلى «المتحف المصري» بالتحرير، الذي افتُتح عام 1902م، والذي يُعد حتى اليوم «أحد أقدم المتاحف في العالم المخصصة لحضارة واحدة»، وفق عبد البصير.
واستفادت متاحف مصرية من التطور التكنولوجي، حيث تجمع بين التراث وأحدث تقنيات العرض المتحفي، فإذا قررت خوض تجربة السياحة الثقافية في مصر، وجعلت المتاحف إحدى مراحلها فعليك بزيارة بعض المتاحف التي تجعلك جزءاً من التجربة المتحفية عبر تقنيات «الهولوغرام»، إلى جانب التطبيقات الذكية التي تتيح للزائر التجول عبر هاتفه ومعرفة معلومات دقيقة عن القطع الأثرية باللغات المختلفة.
تنوع لافت
ويؤكد الدكتور أشرف أبو اليزيد، رئيس الإدارة المركزية للمتاحف النوعية بقطاع المتاحف في وزارة السياحة والآثار المصرية، أن «التنوع سمة أساسية في خريطة المتاحف المصرية»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه المتاحف لا تقتصر على الآثار فقط؛ حيث لدينا كذلك ثروة من متاحف الفنون الجميلة، والزراعة، والسكك الحديدية، والري، والجيولوجيا، والعملات، والموسيقى، والتراث، وهي موزعة على جميع المحافظات من الإسكندرية إلى أسوان، مروراً بالدلتا وسيناء والصعيد، وهذا التنوع يجعل المتاحف المصرية تجربة معرفية شاملة تربط الماضي بالحاضر».

ويؤكد أبو اليزيد أن «هذا التنوع يساهم في تقديم تجربة متكاملة للزوار، ويؤكد على ثراء المحتوى الثقافي والعلمي في المؤسسات المتحفية المصرية».
ويلفت أبو اليزيد إلى «تنامى اهتمام مصر بالمتاحف كماً وكيفاً، خصوصاً خلال العشرين سنة الأخيرة، فأنشأت العديد من المتاحف، ما بين متاحف وزارة الثقافة والآثار أو وزارة الزراعة أو الري، أو التربية والتعليم والتعليم العالي والاتصالات والثروة المعدنية والحرف اليدوية»، وفق قوله.

ويرى أن «مصر تعتبر هي الدولة الأهم والأعظم في مجال التراث ومقتنيات المتاحف، فلدينا مجموعات متميزة ومتفردة على المستوى العالمي، سواء مجموعات مثل (مجموعة توت عنخ آمون) في (المتحف الكبير)، أو مجموعة المومياوات الملكية في (متحف الحضارة)».

ويضيف: «ذلك فضلاً عن مجموعات التماثيل الرائعة والفنون المصرية بكافة أشكالها في المتحف المصري بالتحرير، كما يُعد المتحف القبطي أكبر متحف للآثار القبطية في العالم، وأيضاً هناك مقتنيات (المتحف الجيولوجي) الذي يضم عينة من صخور القمر، بالإضافة إلى أنواع الصخور المختلفة، والعناصر التي تظهر كيفية تكون الأرض المصرية، وجريان ونشأة النيل».
مشروع القرن
«تتطلع مصر لإدهاش العالم بحدثٍ يُضاهي موكب نقل المومياوات الملكية وإعادة افتتاح طريق الكباش بالأقصر»، وفق الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، الذي يضيف في مقال له نشر بالوكالة الرسمية المصرية (أ.ش.أ): «القول بأن المتحف المصري الكبير هو هدية مصر للعالم، ليس من قبيل المُبالغة، إذ إن إرث الحضارة المصرية القديمة يُمثل تراثاً عالمياً، وفق محددات منظمة اليونسكو لتوصيف التراث العالمي الثقافي والطبيعي».

ويؤكد عبد البصير أن «مصر والعالم كله في انتظار افتتاح المتحف المصري الكبير، فهو مشروع القرن الثقافي؛ ويؤسس لمرحلة جديدة من التفاعل بين الإنسان والموروث الإنساني باستخدام أحدث تقنيات العرض المتحفي في العالم».
وتعول مصر على متحفها الكبير في زيادة معدلات اجتذاب السائحين خلال الفترة المقبلة، وتعمل على زيادة مدة بقاء السائحين في العاصمة المصرية القاهرة لأكثر من ليلة من خلال التوسع في إنشاء المتاحف خلال العقدين الماضيين على غرار متحف العاصمة ومتحف المطار ومتحف الحضارة والمتحف الكبير.
وتجري مصر راهناً استعدادات مكثفة لافتتاح المتحف الكبير عبر حفل ضخم، من المقرر أن يحضره زعماء العالم في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وتبلغ مساحة المتحف الذي يجاور أهرامات الجيزة الشهيرة نحو 500 ألف متر مربع، ويضم أكثر من 50 ألف قطعة أثرية، أبرزها المجموعة الكاملة لآثار الملك توت عنخ آمون.
ووفقاً لبيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، الذي أصدره في مايو (أيار) الماضي، بمناسبة «اليوم العالمي للمتاحف»، فإن إجمالي عدد المتاحف التي زاولت النشاط بمصر خلال عام 2023 بلغ 83 متحفاً، من بينها 73 متحفاً للفن والتاريخ، و10 متاحف للعلوم الطبيعية والبحوث التطبيقية.

