تتعدد أساليب البناء وتتنوع ملامحه في المدن السعودية القديمة، حيث تختلف التفاصيل من منطقة إلى أخرى، مما يعكس براعة «المعلم» السعودي الذي امتلك معرفة واسعة بالهندسة، والمناخ، والجيولوجيا، ليصنع لوحات معمارية فريدة من الحجر والطين والخشب.
تتمثل قيمة العمارة التقليدية في ثلاثة عناصر رئيسة: المكان، المواد، والمعلم. وقد وصف الدكتور عدنان عداس، رئيس قسم العمارة السابق في جامعة الملك عبد العزيز، المعلم بأنه عبقري، إذ كان يقوم بدور المهندس والمعماري في آنٍ واحد. وكان الوصول إلى هذه المكانة يتطلب سنوات طويلة من العمل تبدأ بتكسير الحجر أو حمله، ثم التدرج في المهام حتى يصبح «المعلم» قائداً في موقع البناء.
وأشار عداس إلى أن المعلم كان يمتلك معرفة متكاملة بطرق الإنشاء وتوزيع الأحمال، ويقوم بتصميم الفراغات الداخلية حسب احتياجات صاحب المنزل، بالإضافة إلى تنفيذ الزخارف مثل «الروشان» (المشربيات) في جدة، و«التكحيل» بالحجر الأبيض في الجنوب، لحماية الفتحات من الأمطار.

اختلافات مناخية ومعمارية بين المناطق
تناول عداس في حديثه لـ«الشرق الأوسط» طرق البناء في المدن السعودية، ففي مدينة جدة كان المعلمون يراعون اتجاهات الرياح قبل البناء، إذ كانت الواجهة الغربية هي المفضلة، لاستقبال نسيم البحر ليلاً، ما يساعد على التهوية في غياب أجهزة التكييف، موضحاً أن هذه الحسابات تختلف من منطقة إلى أخرى، ففي وسط الجزيرة، مثل الرياض، كان الفناء الداخلي عنصراً أساسياً لالتقاط الهواء البارد ليلاً، وتوزيعه على الغرف.
عن وجود الفتحات أو «النوافذ»، قال عداس إن كل مدينة تختلف في عملية البناء، ففي عسير كانت الغرف والفتحات أصغر بسبب المناخ البارد، بينما في نجد كانت الفتحات محدودة لتقليل دخول الشمس والغبار، لذلك يطلق على المباني في نجد «منازل تطل على الداخل»، وفي الحجاز «منازل تطل على الخارج».

المواد والأساليب المحلية
رغم اختلاف الأساليب، فإن جميع المناطق اعتمدت على مواد أساسية مثل الحجر، والخشب، والطين، مع اختلاف في طريقة المعالجة حسب المناخ، والمواد المتوفرة. وأوضح عداس أن هذه المنظومة شكلت الطراز المعماري الذي نعرفه اليوم.
وأضاف أن عمارة جدة التاريخية تأثرت بمكة المكرمة، ونرى انعكاس ذلك أيضاً في المدينة المنورة، والطائف، وينبع، حيث تختلف الزخارف ومساحات الروشان، وكل مدينة في منطقة مكة تختلف في هذا الجانب. فعلى سبيل المثال، تمتلك الطائف عمارة حجازية بسمات مختلفة عن باقي مدن منطقة مكة.

تنوع الطرز جنوباً وشمالاً
وأضاف عداس أنه كلما اتجهنا جنوباً من الطائف، تبدأ سمات عمارة الحصون الحجرية وبيوت الطين في الظهور، وصولاً إلى الباحة التي تتشابه مع بلاد بني شهر، وإن كانت التفاصيل تختلف. ففي أبها وقرى كاملة في بلاد «قحطان» يظهر استخدام «الركف»، وهو عنصر زخرفي أو إنشائي يُستخدم في المباني التقليدية، كما نجد طرزاً مغايرة في عسير خاصة في بيشة وتثليث.
وفي العاصمة السعودية الرياض تبرز روح العمارة النجدية خاصة في الدرعية، وتمتد هذه الروح إلى المجمعة والقصيم، مع بعض التنويعات. أما شمالاً نحو الزلفي وحائل، تستمر أنماط عمارة الطين، بينما تختلف التصاميم والارتفاعات في المنطقة الشرقية، خصوصاً في الأحساء.
أما مدن الواحات مثل تيماء، وخيبر، والعُلا، وتبوك، فتتميز بطراز معماري خاص يعكس طبيعة الواحة.
تصحيح مفاهيم خاطئة
وصحح عداس مفهوماً شائعاً حول استخدام «الحجارة البحرية» في البناء، مؤكداً أنها معلومة غير دقيقة. فالمباني القديمة لم تُشيد من المرجان أو حجارة بحرية، بل من الحجر الرسوبي المعروف محلياً باسم «الحجر المنقبي» الذي يُستخرج من مقالع قريبة من البحر. ويُعرف هذا الحجر في الخليج باسم «الكاشور»، وفي الأحساء والقطيف باسم الحجر الكلسي، أو الجيري.
كما أكد عداس أن العمارة التقليدية في السعودية لا تقتصر على البناء الإنشائي فحسب، بل تشمل أيضاً أساليب بناء الحوائط والكتل الخارجية والبوابات والنوافذ، إلى جانب الزخارف التي تتنوع من منطقة لأخرى. فزخارف الأحساء تختلف عن زخارف الرياض، كما أنها مغايرة لتلك الموجودة في الحجاز. حتى ارتفاعات المباني تتفاوت، إذ تميل بعض المناطق إلى الكثافة والعلو، خصوصاً في وسط المدن الكبرى، مثل جدة، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة.





