عُرض فيلم «غصة» في ختام «مهرجان طرابلس للأفلام»، وهو ما يقارب الساعة من الغصص المتوالية التي تنقلها المخرجة هانيا خوري على ألسن أولئك الشبان الذين تركوا لبنان، منتَزعين من بيوتهم وأرضهم، إلى بلاد الله في بحث عن طمأنينة افتقدوها في وطنهم.
بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، خرجت موجة عارمة من الهجرة الشابة من لبنان، ليس لسبب اقتصادي هذه المرة، وإنما نفسي، وحال أقرب إلى الذعر وفقدان الأمل، منها إلى أي شيء آخر.
أين أصبح هؤلاء الشبان؟ بماذا يشعرون؟ كيف يعيشون؟ وما الذي حلّ بهم؟ وكيف تحيا عائلاتهم التجربة المريرة التي فُرضت عليها؟ يخلط الفيلم للإجابة عن هذه الأسئلة بين الوثائقي والروائي، مع الحفاظ على الجانب العفوي الذي يمنحه مسحته الطريفة التي تخفف من وطأة الألم.
أخذت فكرة الفيلم تراود المخرجة هانيا خوري مع بدء الانتفاضة عام 2019. قالت: «أحسست برغبة في ترك لبنان مع كثير من التردد، لكن بعد انفجار المرفأ، رأيت الموت بعيني، وشعرت بأنني لا بد أن أرحل. مشاعري كانت متناقضة، مع قهر كبير». لم يكن أمراً عادياً بالنسبة لها أن يُقتلع الإنسان من جذوره ومن بين أهله، «خصوصاً أنني شخص متعلق بعائلتي، وأحب بلدي، وعملي كان ممتازاً».
تبلورت فكرة الفيلم بعد وصولها إلى فرنسا. رأت بعض من سبقوها لا ينظرون خلفهم بالحنين نفسه. «هذا ما زاد من غضبي»، تقول خوري لـ«الشرق الأوسط»: «شعرت بوحدة قاهرة، وأحببت أن أظهر مشاعري. لست موهوبة في الرسم ولا الكتابة، ومعرفتي المهنية أقرب إلى السينما».
الشخصيات كانت لا تزال غامضة. لكن الفيلم واضح في ذهنها. «وجدت أن أسيل عبد الهادي يمكنها أن تمثلني، كشخص يعيش تجربتي، خصوصاً أنني لا أحب الظهور أمام الكاميرا. ويمكن أن تكون لسان أي أحد آخر من اللبنانيين الذين يعيشون هذه التجربة في باريس حيث يجري التصوير، وهكذا كان».
بعد نداء على «إنستغرام» حُدِّد أصحاب الشهادات. اختارت هانيا وجوهاً لشبان مختلفين في تجاربهم، خاتشيك الذي تعرفت عليه نهار التصوير، ومايا وجوانا وعلي وتالا.
من خلال الفيلم نفهم أنهم حزموا أمتعتهم تحت وقع الانفجار، يتحدثون عن تجربة غنية في فرنسا، لكنها مشوبة بالوحدة والأرق والحنين، كلٌ منهم يحتفظ على رفوف منزله الصغير، بتذكارات من لبنان، على الجدران صور العائلة، وفي المطبخ الزعتر والكبة، والمكدوس، وكل ما خفّ حمله من أيدي الوالدة. مع الحوارات تمتزج الضحكات بدموع مخبأة، تسيل وكأنها تغدر بأصحابها.
تقول المخرجة: «كانوا يبكون وأنا أبكي معهم من وراء الكاميرا. مؤثر كم وثقوا بي وفتحوا قلوبهم. كأنني عشت كل هذه التجارب مرة واحدة. كل هذا مؤثر ومؤلم، لكنه كان شافياً لي».
وتضيف: «أراحني الفيلم. كأنني صورته لأُخرج مشاعري، وأعثر على إجابات عن أسئلتي. فهمت أنني لست وحدي. حين صورت فيلمي مع الذين تركوا بعد الانفجار ورأيت تعلقهم الذي يشبه مشاعري، فهمت من أين تأتي هذه اللهفة للبنان؟».
عرِفت أن الانتفاضة، والنزول اليومي الجماعي للاحتجاج في الشارع، والإحساس بالإمكانيات الكبيرة التي يختزنها البلد، ولّدت تعلقاً مختلفاً لجيل كامل في بلده. «تعرفنا على لبنان كما نحبه أن يكون. ولكننا بعد ذلك طُردنا منه... حرفياً طُردنا».

لا جواب عند صاحبة الفيلم، إن كان الشبان سيعودون. هو سؤال يومي لا يزال معلقاً. سؤال كل يوم.
لكننا في نهاية الفيلم نرى أسيل عبد الهادي تحاول تعليق كيس من قماش فوق المغسلة، لتصفي مياهه، وتحصل على اللبنة اللبنانية في بيتها الباريسي. وهو استكمال للمشهد الأول الذي نراها فيه في السوبر ماركت تبحث عن اللبن المطلوب.
فيلم من القلب، أكثر ما أثر في الجمهور أهل الشبان المهاجرين، وهم يعبرون عن مشاعرهم بحرقة بعد غياب أولادهم، وبينهم أهل المخرجة أنفسهم.
وهنا تقول هانيا خوري: «هي فكرة أعمل عليها لفيلم ثانٍ. كثيراً ما نتحدث عن حياة الشباب الذين هاجروا، لكن نادراً، ما نسأل ماذا يحلّ بالعائلة في الوطن؟ أي فراغ يعيشه الوالدان، أي انتظار؟ وأي حزن؟ هذا ما سأحاول معالجته في فيلمي الجديد».
هو الفيلم الثاني لهانيا خوري بعد كتابته مع ربى قائد بيه. أما الفيلم الأول «أرض المنفى»، فيستكشف الواقع الحضري والاجتماعي في الأوزاعي، إحدى أفقر ضواحي بيروت.
جدير بالذكر أن «مهرجان طرابلس للأفلام» اختُتم بالإعلان عن الأفلام الفائزة. ومنح «أصل العالم» الإيطالي لروسيلا أنجليز، جائزة أفضل فيلم طويل. وجائزة أفضل فيلم قصير ذهبت إلى «جينيولوجيا العنف» الفرنسي للمخرج محمد بورويسا.
أما فيلم «غصة» فقد عُرض في فرنسا في كل من باريس ومونتروي وتولوز، وضمن «مهرجان باريس للسينما»، وسيعرض في «مهرجان تونس للسينما»، ويحطّ في «رواق» بيروت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل بحضور المخرجة.






