يتحدّى الفنّ الحدود بين الخيال والواقع، ويقود المُشاهد إلى التواصل مع عقله اللاواعي واكتشاف الذات. لكن منحوتات الفنان المصري أيمن أبو خزيم لا تكتفي بتحقيق ذلك، بل تحاول أن تحفّزه أيضاً على إعادة استكشاف الكون وفهم الحياة، عبر استحضار ظاهرة «الباريدوليا» في أعماله.
و«الباريدوليا» مصطلح علمي يُشير إلى قدرة العقل على إدراك أنماط وأشكال مألوفة أو وجوهاً بشرية في محفّزات عشوائية أو غامضة. وتُفسّر هذه الظاهرة سبب رؤيتنا للوجوه في السحب، والحيوانات في التكوينات الصخرية، أو الأشكال البشرية في التصاميم المجرَّدة والظلال.
وتنشأ «الباريدوليا» من ميل الدماغ البشري للبحث عن المعنى، واستكشاف المجهول على هيئة آلية للبقاء، والإسهام في تطوّرنا الاجتماعي. وهنا تتجلّى العلاقة بين هذه الظاهرة والفنّ.

والعمل الإبداعي ليس تنقيحاً للقديم، بل اكتشاف للجديد. ولذلك سجّلت «الباريدوليا» حضوراً في الفنّ وأثّرت بعمق عليه، من السريالية إلى التعبيرية التجريدية، مؤكدة الرغبة الفطرية في إيجاد المعنى وصوغ السرد حول المجهول.
وفي معرضه المُقام في «غاليري مصر» بعنوان «الباريدوليا»، لا يقدّم أبو خزيم منحوتات تقليدية، ولا يستطيع المتلقّي أمامها تحديد هيئتها أو طبيعتها؛ إذ يجد نفسه أمام أشكال مُتداخلة تجمع بين الجسد البشري والحيواني، ولا مانع من بعض الخضراوات أيضاً!
منحوتات أبو خزيم بلا ملامح مُكتملة أو أشكال معروفة؛ إذ يسأل زائر المعرض نفسه: هل ما يراه بالفعل أشياء حقيقية أم أنه يتوهَّم ما يراه؟ فقد تُفاجئه خضراوات أو فاكهة تظهر مثل كائن مُتكامل بـ4 أرجل وعيون وفم؛ فتّتخذ الكوسا مثلاً رأس التمساح، أو تزدان ثمرة موز بوجه دجاجة، أو يرى إنساناً بأطراف ورأس طائر الهدهد.
من خلال نحو 30 عملاً نحتياً يصوّر الفنان مَشاهد سريالية، داعياً المُشاهدين إلى اكتشاف الأشكال والقصص الخفية. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «كلّ منحوتة بمنزلة فرصة لتحدّي الحدود بين الخيال والواقع، ما يُحفّز على التأويل الشخصي وإعادة تأمُّل الكون».

لذلك يراهن أبو خزيم على تفاعل المتلقّي مع منحوتاته بقوة، متأثراً بجاذبية فنّ الأشياء المكتشفة، فتحتفي أعماله بقدرة البشر على إضفاء دلالة على ما يبدو اعتباطياً، مُحوّلاً الفوضى إلى معنى، والأشياء المنسيّة إلى عناصر حاضرة تُحفّزنا على التواصل معها من جديد.
وبدلاً من الاكتفاء بإضافة سمات جمالية لخلق مظهر يشبه الإنسان أو الحيوان، دمج الفنان بين أشكال وتركيبات تستحضر أشكالاً غير مألوفة، ليشرك المشاهدين على المستوى الحدسي، ويُثير تفاعلهم وفضولهم.

ويتوافق هذا النهج مع شغف فنّ العثور على الأشياء، ما يدعو المتلقّي أيضاً إلى اكتشاف أنماط خفيّة في الكون، وإقامة روابط قوية بينها، انطلاقاً من أنّ هذه الروابط قد تكون مُتجذّرة في الأصل، لكننا لا نراها أو لا نلتفت إليها.
ويعدُّ الفنان المصري تجربته بمثابة سرد معاصر عن التفاعل بين الأكوان؛ إذ يتلاحم النبات مع الحيوان والإنسان والأسطورة في أعمال تروي قصة تكامل الحياة، وتعكس قوة الفنّ في إعادة تشكيل واقعنا اليومي وفهمنا للارتباط اللامتناهي بين الإنسان والطبيعة.

ويقول أبو خزيم: «ثمة تناغم وتواصل مستمرّ بين الطبيعة والإنسان، بل هناك تلاحم بين مختلف أشكال الحياة. ويكتمل الإحساس بالجمال الكامن حين نستشعر الروابط الخفيّة بينها، وكأنه تدريب للعقل على رؤية الجمال من حولنا... الواضح منه والخفيّ. وذلك ما تسعى إلى إظهاره منحوتاتي؛ فهي تعمل على الكشف عن التواصل الفريد بين المكوّنات الطبيعية والروحانية، والواقع والأساطير؛ ما يُعزّز التفكير التخيلي».

وأسهم استخدام الفنان للخشب في أعماله النحتية في منحها قدرة على إثارة المشاعر وتحدّي التصوّرات؛ كأنه يعيد، عبر تطويع الخشب وتلوينه، تأكيد اهتمامه بنقاط التقاء الإنسان والطبيعة من جديد.

ويؤكد الفنان التشكيلي المصري: «الخشب ليس مجرّد مادة، بل كائن عضوي يحمل حياة سابقة بين أليافه. كلّ عقدة في جذعه أو كلّ شقّ صغير، هو جزء من حكايات عاشتها الشجرة، وانتقل الإحساس بها إلى يد الفنان؛ لذلك تخرج المنحوتات الخشبية أكثر دفئاً، وأكثر صدقاً، وأكثر ارتباطاً بالمشاعر البشرية أيضاً».


