بين لوحات تستحضر رائحة البحر وألوان تنبض بذاكرة الأزقة القديمة، يجد الزائر نفسه في رحلة بصرية تُعيد رسم ملامح جدة من جديد. في القاعة، تتجاور أعمال فنية تعكس تنوع المدينة وثراءها: مجسمات تجريدية تحاكي مباني جدة التاريخية (البلد) وميدان النورس، ولوحات توثق لحظة انبثاق نافورة الملك فهد في الأفق، وأخرى تُعيد الحياة إلى الرواشين الخشبية المزخرفة بوهجها المعتق. حتى المكحلة وأدوات الزينة القديمة حضرت بوصفها رموزاً للذاكرة الاجتماعية، في حين بدت الأزياء الحجازية القديمة في اللوحات كأنها تهمس بحكايات النساء وطقوس الزمن الجميل. المعرض بدا كأنه مرآة تعكس جدة في صورتين متداخلتين؛ مدينة تحتفظ بروحها، وتستمر في التجدد عبر ريشة الفنانين.

معرض «جدة بريشتنا»، الذي افتتحته الجمعية السعودية للفنون التشكيلية (جسفت جدة) في نسخته الثالثة، واستضافته الصالة الكبرى بمركز أدهم للفنون، ويضم أعمال أكثر من 35 فناناً وفنانة، جاء ليحتفي بعروس البحر الأحمر عبر أعمال فنية متباينة، تراوحت بين الرسم والتصوير والنحت والمجسمات، عاكسةً جماليات المدينة ومكانتها الرمزية.

المعرض لم يكتفِ بتوثيق معالم جدة الشهيرة، مثل دوار النورس الذي أنشئ مطلع الثمانينات بتصميم الفنان المصري مصطفى سنبل، ويعد من أكبر التماثيل التجريدية في العالم بارتفاع 55 متراً، أو نافورة الملك فهد، التي سُجلت في موسوعة «غينيس» بوصفها أعلى نافورة من نوعها في العالم، بل تجاوز ذلك إلى استدعاء التفاصيل الصغيرة التي تكوّن ذاكرة المكان: الرواشين الخشبية بألوانها وزخارفها الدقيقة، والأزياء التقليدية النسائية، وأدوات الزينة التي شكّلت جزءاً من الطقوس الاجتماعية اليومية.

الفنانة أمل جمل الليل، على سبيل المثال، استلهمت في عملها إحدى بوابات جدة التاريخية التي شيدت في عهد الملك عبد العزيز عام 1937، لتقدمها في لوحة يتداخل فيها التراث مع رؤية معاصرة.
تقول: «أردت أن أجعل البوابة ذهبية، تعبيراً عن استمرار التراث بروح متجددة، فالمدينة تمنح الفنان دوماً زوايا للإلهام، وهي حاضرة في وجدان كل من يعيشها».

أما الفنان ممدوح عبد الرحمن باناجة، فقدَّم مجسماً مستوحى من الرواشين، مشيراً إلى أن تعلقه بهذا العنصر المعماري جاء من طفولته.
وقال لـ«الشرق الأوسط»: «عشت سنوات طويلة في بيت قديم تُحيطه الرواشين. هي بالنسبة لي حياة كاملة، ليست مجرد فن معماري. ما يُبهرك فيها أن من صنعوها لم يكونوا مهندسين أكاديميين، بل فنانون بالفطرة، أبدعوا تفاصيل هندسية وزخرفية ما زالت عصية على التقليد حتى اليوم».

هذه الرؤى الفنية التقت مع ما أوضحه الفنانون المشاركون، الذين شددوا على أن معرض «جدة بريشتنا» لا يقتصر على عرض المعالم والرموز البصرية للمدينة، بل يسعى أيضاً إلى إحياء الارتباط العاطفي معها، فهم يريدون أن يخرج الزائر وهو يشعر بأن جدة ليست مكاناً فقط، بل ذاكرة متحركة تحيا في الفن كما تحيا في القلوب.

الزائر للمعرض يلمس تنوعاً في الأساليب والاتجاهات؛ فمن الأعمال الواقعية التي تستعيد ملامح الأسواق الشعبية وأزقة جدة التاريخية، إلى تجارب تجريدية تستلهم البحر وفضاءاته اللامتناهية. وفي جميعها، ثمة خيط مشترك يجمع الماضي بالحاضر، ويجعل من الفن وسيلة لحفظ ما قد يتلاشى أمام تسارع العمران.
ومع ختام الجولة البصرية، يخرج المتلقي بانطباع أن جدة ليست مجرد مدينة ساحلية تنمو وتتمدد بوتيرة سريعة، بل ذاكرة حية تُستعاد عبر الألوان والخطوط والمجسمات. فالمعارض من هذا النوع لا تكتفي بتوثيق التاريخ، بل تمنحه حياة جديدة، وتؤكد أن الهوية الثقافية قادرة على التجدّد مثلما البحر قادر على تجديد أمواجه كل يوم.






