قلّة التقدير لنِعَم نتمتّع بها، والاستخفاف بخبرات الآخرين، وتجاربهم، موضوعات تُشكّل أول نقطة بارزة في مسرحية «ليلى من عمر». ومن ثمّ تتوالى الرسائل التي تحملها بشكلٍ متصاعد، وتأخذ مُشاهدها في رحلة مؤلّفة من طبقات. وما أن يحاول تفكيك عقدة، حتى تظهر أمامه أخرى، وهكذا، حتى وصول النصف الأخير من العمل؛ عندها تصبح الأمور أكثر وضوحاً، والمحتوى أكثر عمقاً، فتترك أثرها عليه لحَمْله زوّادة إنسانية ترسم في ذهنه تساؤلات كثيرة.
المسرحية (مسرح المونو في بيروت)، من إخراج غبريال يمّين، وتأليف عبير صيّاح التي تؤدّي بطولتها إلى جانب جينا أبو زيد، وبيو شيحان، ومنير شليطا. ويَحلّ فيها ضيوف شرف افتراضيون عبر شاشة تلفزيون عملاقة، فتطلّ الممثلة كارمن لبّس، والممثل نقولا دانيال، ونسمع صوت الفنان جورج خباز من دون أن نرى صورته.
نلمس نكهة يمّين الإخراجية بصورة لا شعورية. فهو يغرف من الواقع قصصاً متسلسلة، ثم يغمرها في بحر الفنّ المسرحي المُشبّع بالحنكة، فتولد مثل شريط سينمائي غير مملّ، يرتكز على الحركة والأكشن، ويتلوّن بمشهدية بصرية.

وفي «ليلى من عمر»، يفرض يمّين على الحضور التفاعل مع العمل بصورة مباشرة. فالموضوع يدور في استوديو برنامج تلفزيوني، وتُقدّمه إحدى الإعلاميات بإشراف منتجة عصبية. ويكتمل المشهد مع الحضور، ليتحوّل إلى شريك مباشر في العمل، تماماً كما «الجمهور الحيّ» الذي تعتمده هذه البرامج، يتلقّى أوامر مدير المسرح بكل طيب خاطر. وهي المهمّة التي تتسلّمها جينا أبو زيد في العمل، فيُصفّق بحرارة تارة، ويتفاعل مع المقدّمة بتعليق أو ابتسامة تارة أخرى. أمّا الفرق بين جمهور «ليلى من عمر» و«الجمهور الحي»، فهو أنّ الأول يدفع تكلفة البطاقة لرؤية العمل، فيما الثاني يُدفع له مبلغ رمزي يجذبه للقيام بهذه المغامرة.
شاشتان عملاقتان على يمين المسرح ويساره، بالإضافة إلى كاميرا متحرّكة يحملها الـ«كاميرا مان»، تُشكّل أدوات الديكور. وبلعبة إضاءة مدروسة، يكسر يمّين مشهدية استوديو رمادي، وقد ثبّت على الخشبة «بروجكتورات» مُسلّطة أضواؤها على المذيعة، تُشغّل تلقائياً عندما تلفظ منتجة العمل كلمة «توب كاميرا».
المذيعة تُدعى «ليلى» (عبير صيّاح)، وهي نموذج حيّ عن زميلات كثيرات لها. قلقة ومتردّدة، تحاول من خلال برنامج ترفيهي أن تنجح في مهمّتها. تطرح الأسئلة وتتلقّى الاتصالات المباشرة للإجابة عنها. ويغتنم يمّين الفرصة، من خلال طبيعة البرنامج، ليُقدّم ملاحظاته على مهنة المذيعة التلفزيونية، وكذلك على شكلها الخارجي، وسلوكها، وقدرتها على جذب المُشاهد. ويستخدم المتّصلين لتمرير هذه الملاحظات، وهو ما ينعكس ارتباكاً على المذيعة. وهنا يأتي دور المنتجة (جينا أبو زيد) لتقوّي من عزيمتها.
تُقدّم صيّاح أداءً تمثيلياً صادقاً وعفوياً. وفي أحد المشاهد، تنهمر دموعها تلقائياً بسبب كلام يوجّهه إليها والدها (نقولا دانيال) عبر اتصال هاتفي. ويأتي حضور دانيال وأداؤه المحترف ليُعزّز هذه الفقرة.
أما جينا أبو زيد، التي تُجسّد شخصية المنتجة القلقة والعصبية، فتُسهم في تلوين العمل بالفكاهة، وتطبعه بنكهة «لايت» ضمن أداء متحرّك لا يهدأ، وتُشكّل بذلك «دينامو» المسرحية من دون منازع.

ويوظّف غبريال يمّين إطلالتَي بيو شيحان ومنير شليطا لتصبّا في خدمة العمل. مرّة من ناحية رومانسية بحتة يُجسّدها شيحان بشخصية الحبيب، وأخرى بهلوانية تتطلّب خفّة حركة رجل الكاميرا؛ شليطا.
وتتبدّل وجهة المسرحية تماماً عند انتهاء القسم الأول منها، فخاتمته تفتح الباب أمام فصل آخر يمكن عنونته بـ«المحاسبة». ويتقمّص الممثل جوزيف ساسين شخصية «هو»، فتترك عند متابعها علامات استفهام كثيرة. فـ«هو» يمثّل الضمير الذي سيُحاسب الجميع في النهاية، ويأتي على حين غرّة إلى استوديو البرنامج، تماماً كما يأتي الموت من دون إنذار ليسرق روحاً تنبض.
ويشهد الحضور في هذا الجزء من العمل عملية مُساءلة ومُحاسبة تضع النقاط على الحروف. فتنتقد حالة التذمّر والتشتّت والقلق والتعب والإحباط عند الإنسان، رغم نِعَم كثيرة يتمتّع بها ولا يُقدّرها. فتواجه شخصيات العمل مُحاسبة حول مسؤوليات عبثت بها، وقناعات عمّرتها من الفراغ، ونِعَم زوّدها بها الله فأهملتها وسحقتها بلا مبالاة. فهي، حتى عندما تتحقّق أمنياتها، لا تتوانى عن التخلّي عنها بدل التمسّك بها. فبماذا ستُجيب تلك الشخصيات «المُحقّق» في يوم الحساب؟







