يرى أنطوني أدونيس، المُغنّي الرئيسي ومؤسِّس فرقة «أدونيس» اللبنانية، أنّ لمهرجان «أعياد بيروت» مكانةً خاصةً في ذاكرة الفرقة، فهو أوّل مانحيها فرصة الظهور على مسرح كبير عام 2013. 12 عاماً مرَّت، وتجدَّد اللقاء مع المهرجان ذاته، و«الجهة التي تُظهر بيروت بأحلى صورة»، وفق وصفه.
في المساحة الواقعة أمام المسرح، وعلى جانبَيْه، كان جمهورٌ غالبيته من الشباب يتدفَّق إلى المكان كأنه يلتحق بنداء داخلي. لم يتأخّروا في حجز مواقعهم وسط الزحمة، كأنَّ شيئاً ما ينتظرهم؛ يعرفونه ويخصّهم. فالحفل، الذي أحيته «أدونيس»، كان لقاء يحلو انتظاره مع الفرقة التي تُشبههم وتعزف لهم ومنهم: أنطوني أدونيس، وجوي أبو جودة على الغيتار، وجيو فيكاني على الباس، ونيكولا حكيم على الدرامز.

هؤلاء الشبان، بأدواتهم وصوتهم، يقدّمون فناً بدأ منذ 2011 يمزج البساطة بالمعنى، ويكتب تفاصيل الحياة اليومية، وهموم الحبّ والهوية والمدينة والنوستالجيا، بلغة شعرية سهلة تحمل لكثيرين كلّ ما لا يُحكى، على وَقْع ألحان بوب وروك ناعمة، وتُغنّي الإحساس بلا افتعال، لتواكب العصر من دون أن تُفقده نبرته الإنسانية.
ولأنّ «أدونيس» من الفرق القليلة التي استطاعت أن تحتفظ بخطّ موسيقي خاص بها، فلم يكن مُستَغرباً أن يردّ أنطوني على سؤال الهوية بعد أكثر من عقد على التأسيس، قائلاً: «أكثر ما يُميّز الفرقة هو طابعها اللبناني المُتجسِّد في كلمات الأغنيات وفي القصص التي نرويها. الإحساس أيضاً جزءٌ من الهوية، وهذا نُظهره أينما كنّا؛ في الألبومات والحفلات والجولات».

في كواليس المهرجان، وفي حديث مع «الشرق الأوسط» قبيل انطلاق الأمسية، تحدَّث أنطوني أدونيس عن لبنان بأنه نبض حيّ في صوت الفرقة وحضورها، حيثما حلّت. قال: «نُظهره كما نحبّ أن نراه؛ كما نحلم به ونشاء أن نبنيه». ذاك الانتماء إلى المدينة، إلى الأزقّة التي تُلهم، وإلى وجوه الناس ووجعهم وفرحهم، شكَّل جوهر التجربة الفنّية... «ليس الفنانون وحدهم، وإنما كلّ إنسان سيشعر أنه أوفر حظاً وارتياحاً في الحياة إذا امتلك حسَّاً قوياً بالانتماء إلى شيء ما. هذا الحسّ بالنسبة إلينا يتجلّى أولاً بالمدينة. هو يُغْني الفرقة سمعياً وبصرياً ويمنحها صبغة خاصة. نشاء الحفاظ على هذا الحسّ ومواصلة تطويره».

في تلك الليلة البيروتية، تراءت أغنيات «أدونيس» ترداداً جماعياً، وعند كثيرين طَقْسَ مُشاركة. لمعت عيون المراهقين كأنها تحلم، ولا تزال، بمنأى عن الخسارات الكبرى. فخيباتهم، إن وُجدت، قد لا تزال عاطفية، تُحدِثها ربما حكاية حبّ ناقصة أو غياب مُباغت. كانت الأغنيات تُحوّل ارتباكهم ورغباتهم إلى صوت واضح، وتُذكّرهم بأنّ الفنّ يمكن أن يكون العزاء حين تحلُّ الغربة.
تأكَّد تأثير الفرقة بأنها قوّة قادرة على إحياء العلاقة بين الجيل الجديد والأغنية البديلة، بعيداً، نوعاً ما، عن القوالب النمطية. تُخاطِب ذائقة الشباب بلغة شعبية؛ تُقارب أحاسيسهم بصدق، وتُعطيهم مساحة للتنفُّس داخل هذا العالم المُرتبِك.
وكانت في عينَي نيكولا حكيم حماسة لافتة وهو يُغنّي مجدّداً في بيروت. قال لـ«الشرق الأوسط» إنّ لهذا المهرجان وللقائمين عليه، وأوّلهم أمين أبي ياغي، فضلَ إعادة تعريف معنى الغناء حين يكون قريباً جداً من نبض المدينة، فيُحاكي ناسها.
إلى جانبه، وقف جوي أبو جودة الذي يرى في بيروت نقطة البداية الأولى. المدينة التي شهدت ولادة الفرقة وتحوّلاتها، تمنح الفرقة ذاكرةً كما تمنحها أجنحةً جديدة. تلك الذاكرة، كما يقول، هي ما تجعل العلاقة أقوى متانةً وعاطفية.

كلاهما يتمسَّك بهوية «أدونيس»، من دون إقصاء منطق الحياة القائم على التطوّر. نيكولا يعترف بـ«صعوبة» الحفاظ على الأصل وسط مدّ التحوّلات، وفي الوقت نفسه تقديم ما هو جديد، فيما يتحدَّث جوي عن «التجريب» وسيلةً لاكتشاف تعابير جديدة للمشاعر الإنسانية وتوسيع حدود الأغنية.
كان الجوّ في السهرة أقرب إلى لحظة شخصية لكثيرين. مَن غنّوا مع أنطوني، وصفّقوا لنيكولا وجوي وجيو، شكَّلوا جزءاً من الحكاية ومن الأغنية والصدى الذي يعود إليهم من فوق المسرح، كأنّ الفرقة مرآتهم، وهم امتداد لوجودها.
وقبل إطلالة المغنّية ماريتا الحلاني لتكون «مفاجأة الحفل»، بلغت الأضواء ذروتها، وردَّد الحضور أبرز الأغنيات، معبِّراً عن حبّه، وربما عن حاجته إلى أن يُقال له ما يعجز عن قوله.






