الفنانة السعودية تارا الدغيثر... حارسة الصوت وناسجة الذاكرة

تقول لـ«الشرق الأوسط»: أحمل قصص الجدّات وأنفخ فيها الحياة

تارا الدغيثر كمَن تُمسك بمصباح صغير في دهليز واسع (صور الفنانة)
تارا الدغيثر كمَن تُمسك بمصباح صغير في دهليز واسع (صور الفنانة)
TT

الفنانة السعودية تارا الدغيثر... حارسة الصوت وناسجة الذاكرة

تارا الدغيثر كمَن تُمسك بمصباح صغير في دهليز واسع (صور الفنانة)
تارا الدغيثر كمَن تُمسك بمصباح صغير في دهليز واسع (صور الفنانة)

في عتمات الذاكرة الجماعية، حيث تُنسَى الحكايات الهامسة وتُطمَس الأصوات التي لم تكتبها الكتب، تقف الفنانة السعودية تارا الدغيثر كمَن تُمسك بمصباح صغير في دهليز واسع. لا تدَّعي امتلاك الحقيقة، لكنها تصغي إليها؛ تفتّش عنها فيما تبقّى من الأغنيات الشعبية، وفي حكايات الجدّات، وفي أصوات نساء عَبَرن الزمن من دون أن تُخلِّدهن السجلات.

تقول لـ«الشرق الأوسط» خلال حضورها النسخة الأخيرة من برنامج «مفكرة أبريل» المُقام في الشارقة: «أنا امرأة تسير بخفّة الذاكرة؛ تحمل بين يديها قصص الجدّات وتنفخ فيها الحياة». بهذا التصوُّر، تغدو الفنانة مؤرِّخة روحية، ومُنصتة لِما لم يُقل، ومُجسِّدة لصوتٍ يتردَّد في أروقة الماضي ويطلُب العودة.

نشأت تارا الدغيثر ضمن الجيل الذي وُلد في كنف التحوُّل، حيث تعيد «رؤية السعودية 2030» تشكيل المشهد الثقافي والاجتماعي. هذا الجيل، المتأرجح بين الطموح والتأمُّل، يسعى إلى أن يصنع لغته الخاصة ويكتب تاريخه بوصفه محادثة حيّة أكثر من كونه امتداداً لما كان. تارا لا تنفصل عن هذه الديناميكية، لكنها أيضاً لا تذوب تماماً فيها. هي التي تمشي على خيط رفيع يربط بين مَهمّتين: العمل القيمي في تنسيق المعارض وتطوير مناهج السرد، والغناء بوصفه فعلاً حميمياً أو نوعاً من الرجاء الذي يُعيد ترميم الذاكرة.

هي ابنة حكايات تتوق للعودة وأرواح لم تُنسَ (صور الفنانة)

ومع ذلك، لا ترى هذا الانقسام على شكل ثنائية متنافرة، وإنما «رحلة واحدة ذات قلبَيْن»، تسعى مع مرور الوقت إلى توحيدهما تحت مَهمّة كبرى سمّتها «ذاكرة الصوت». تتابع: «إنْ كان لا بدَّ من اختصار، فأنا ابنةُ حكايات تتوق للعودة، وأرواح لم تُنسَ، وأغنيات لا تزال تبحث عن أذن تصغي وقلب يحتضن».

كان عام 2018 لحظة مفصلية في مشوارها، حين وجدت نفسها في مدينة بوسطن، تُشارك في «ملتقى الموسيقى العربية» الذي نظّمه الموسيقار الفلسطيني سيمون شاهين. هناك، التقت كاي هاردي كامبل؛ الكاتبة وعازفة العود التي أقامت في السعودية خلال السبعينات، والتي روَت لتارا عن مغنّياتٍ التقتهن في جدة؛ نساء كنَّ أصوات زمن لم تُدوَّن تفاصيله، لكنه كان حيّاً على نحو يكاد يُسمَع فيه نبض الدفوف.

تارا الدغيثر امرأة تسير بخفّة الذاكرة (صور الفنانة)

تقول عن هذا اللقاء: «كان الأمر أشبه بفَتْح نافذة على زمن غابر، حيث الأصوات تهمس بالحكايات، والذكريات تتراقص على ألحان العود»، كأنها أمسكت طرف خيط من نسيج سحريّ يسبق وجودها، لكنها تعرفه وتحنُّ إليه.

هكذا وُلد مشروعها الأثير «صوت الصورة». إنه أرشيف بديل، تحاول من خلاله أن تردّ المكانة لذاكرة الهامش، وتعيد رسم ملامح ما غُيّب من المشهد الفنّي، لا سيما ما يخصّ أصوات النساء. من خلال هذه المنصة -وبينما تُوثّق- تعيد صياغة سؤال الهوية، وتحفر في معنى «الانتماء الفنّي ضمن سياقات غير غربية، في محاولة صريحة لتفكيك النماذج المكرّسة». تتابع: «من الضروري ألا نغفل عن التقاليد والأساطير التي حفظتها الأجيال، لأنها جوهر هويتنا. والفنّ، ليكون حقيقياً، ليس بحاجة إلى أن يُشبه غيره. يكفي أن يُشبهنا»؛ تقولها كأنها تؤسِّس بياناً فنّياً ذا بُعد فلسفي.

تفتّش تارا الدغيثر عمَّا تبقّى من الأغنيات الشعبية وحكايات الجدّات (صور الفنانة)

ليست مَهمّتها في «صوت الصورة» نظريةً أو بحثيةً فحسب، بل هي نتاج تجربة شخصية عميقة لامرأة تنقّلت بين المدن الخليجية: من مسقط إلى جدة، فالرياض، وأخيراً العودة إلى الظهران. تُخبر عن هذه التجربة: «كل مدينة منها حملت طابعاً ثقافياً مختلفاً، لكنها جميعاً كانت مراكز شكَّلت وعيي الفنّي وقدرتي على الإصغاء للبيئة المحلّية بكونها منجماً للإبداع». أما إمارة الشارقة، فكانت المحطّة الأولى التي احتضنتها فنّياً، حين تدرَّبت في «مؤسّسة الشارقة للفنون» عام 2013، واختبرت للمرة الأولى إمكان أن يتحوّل الشغف إلى ممارسة احترافية.

لكنْ ما من سيرة فنّية بلا منعطفات. عام 2017، في متحف «تيت مودرن» اللندني، وقفت تغنّي «بلوز» أمام جمهور غربي، لتلتقي الفنانة الفلسطينية ريم الكيلاني. لم يكن لقاؤهما عابراً؛ فريم خاطبتها بعد الأداء، ومنحتها كلمات دعم أضاءت زاوية خافتة في روحها: «لا أستطيع وصف أثر تلك اللحظة. حين يمنحك فنانٌ مرَّ بالتجربة نظرة إيمان، فإنك ترى نفسك بمنظار جديد. تلك اللحظات هي ما شكّلتني».

وفي رحلتها الطويلة، لاحظت دائماً كيف أنّ النساء، رغم الموهبة، يُواجهن تحدّيات مُضاعَفة، خصوصاً في مجالات الموسيقى التي لا تزال تفتقر إلى بنى تنظيمية تحتضن المرأة. بخلاف الفنون البصرية، حيث للنساء حضور بارز، كانت الموسيقى بالنسبة إلى تارا الدغيثر ساحة تحتاج إلى مَن يُدافع عن حضور الأنثى فيها، بكونها صوتاً أصيلاً لطالما كان هناك، وليس على الإطلاق بصفتها عنصراً غريباً.

ترى اليوم أنَّ الوقت قد حان لتلك الأصوات أن تعود إلى الواجهة عبر الفنّ في ذاته. ذلك الفنّ وهو يتراءى وسيطاً للعدالة الجمالية. ومع «صوت الصورة»، تحلم أن تكون هذه العودة جزءاً من التحوُّل الأوسع الذي تعيشه المملكة، وأن تترافق النهضة مع تذكُّر ما كان منسياً، وأن يكون للفنّ الخليجي مكانه الخاص، المتفرِّد، الذي لا يُشبه إلا نفسه.


مقالات ذات صلة

«عسل الشفاء» توقّع مذكرة تفاهم مع جمعية النحالين بالباحة

عالم الاعمال «عسل الشفاء» توقّع مذكرة تفاهم مع جمعية النحالين بالباحة

«عسل الشفاء» توقّع مذكرة تفاهم مع جمعية النحالين بالباحة

وقّعت «عسل الشفاء»، التابعة لمجموعة «السنبلة» الرائدة في صناعة الأغذية بالسعودية، مذكرة تفاهم مع جمعية النحالين بالباحة تحت رعاية وزارة البيئة والمياه والزراعة.

الخليج تمكن الاحترافية العالية للقدرات الوطنية الاستباقية في السعودية من توقع التداعيات الإشعاعية مبكراً (هيئة الرقابة النووية)

السعودية تؤكد سلامة بيئتها من أي تسربات إشعاعية

أكدت «هيئة الرقابة النووية» السعودية سلامة بيئة البلاد من أي تسربات إشعاعية قد تكون ناتجة من التطورات الإقليمية في المنطقة.

عالم الاعمال «stc» شريكاً ومؤسساً لكأس العالم للرياضات الإلكترونية لـ3 أعوام مقبلة

«stc» شريكاً ومؤسساً لكأس العالم للرياضات الإلكترونية لـ3 أعوام مقبلة

أعلنت مجموعة «stc (إس تي سي)» عن تجديد شراكتها الاستراتيجية مع «مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
عالم الاعمال «الجزيرة» يتعاون مع «فيزا» و«هارودز» لتقديم مزايا حصرية لعملائه في لندن

«الجزيرة» يتعاون مع «فيزا» و«هارودز» لتقديم مزايا حصرية لعملائه في لندن

أعلن بنك الجزيرة عن شراكة جديدة مع شركة «فيزا» العالمية ومتجر «هارودز» البريطاني.

الاقتصاد جناح المملكة في معرض «إكسبو 2020 دبي» (واس)

«السيادي السعودي» يطلق شركة لبناء مرافق «إكسبو 2030 الرياض» وتشغيلها

أعلن «صندوق الاستثمارات العامة» تأسيس شركة «إكسبو 2030 الرياض»، المملوكة له بالكامل، والتي ستتولى مهمة تطوير مرافق معرض «إكسبو 2030» وتشغيلها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

معرض فنّي يستلهم الحضارة المصرية القديمة في مراسم بني حسن

بورتريهات لأشخاص وأماكن من الحضارة المصرية (هيئة قصور الثقافة)
بورتريهات لأشخاص وأماكن من الحضارة المصرية (هيئة قصور الثقافة)
TT

معرض فنّي يستلهم الحضارة المصرية القديمة في مراسم بني حسن

بورتريهات لأشخاص وأماكن من الحضارة المصرية (هيئة قصور الثقافة)
بورتريهات لأشخاص وأماكن من الحضارة المصرية (هيئة قصور الثقافة)

مَشاهد مستوحاة من الحضارة المصرية القديمة، حيث مقابر بني حسن بمحافظة المنيا (268 كيلومتراً جنوب القاهرة)، وتل العمارنة والسراديب والمعابد التي تضم عدداً من العادات والتقاليد المتوارثة، نقلها 16 فناناً في معرض «ملتقى مراسم بني حسن للرسم والتصوير» الذي افتُتح، الخميس، بمركز الهناجر في دار الأوبرا المصرية، ويستمرّ 5 أيام.

المعرض، الذي ضمَّ أكثر من 40 عملاً، أُقيم بعد معايشة الفنانين للمكان لأيام تعرَّفوا خلالها على طبيعة الموقع وآثاره المتنوّعة، من «تونة الجبل» إلى معبد «حتشبسوت» و«جبل الطير» و«تل العمارنة» وعدد من المعالم الأخرى، في محاولة لربط ما تتضمّنه الآثار القديمة بمظاهر الحياة الحديثة.

أحد الأعمال المُشاركة (مفوّض المعرض)

ويأتي المعرض والمُلتقى الذي نظَّمته الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة بوزارة الثقافة المصرية، في إطار سعيها إلى تطوير الحراك الفنّي في مصر، من خلال اختيار بيئات متنوّعة، وانتقاء مجموعة من الفنانين التشكيليين لمعايشة أهالي هذه البيئات.

ويقول مفوّض المعرض والملتقى، الفنان شادي أديب سلامة، إنّ الحدث يعكس مُعايشة الفنانين لمدة 10 أيام في مناطق متنوّعة بمحافظة المنيا بجنوب مصر، وما تتضمّنه من أماكن ثرية حضارياً على مرّ العصور؛ من القديمة إلى العصرَيْن القبطي والإسلامي.

الطبيعة تجلَّت في أكثر من عمل بالمعرض (هيئة قصور الثقافة)

ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «أكثر من 40 عملاً تضمّنها المعرض تعكس رؤية الفنانين لما عايشوه، لكن كل فنان قدَّم هذه الرؤية بأسلوبه الخاص، مع مراعاة التنوّع بين الأجيال المختلفة التي شاركت في مراسم بني حسن التابعة لهيئة قصور الثقافة، وكذلك مراعاة اختلاف المرجعيات الفنّية؛ فمنهم فنانون أكاديميون متخصّصون وآخرون مستقلّون».

وافتتح نقيب الفنانين التشكيليين طارق الكومي المعرض، وكرَّم الفنانين المشاركين، وتناولت الأعمال موضوعات شتى، بين الرموز المصرية القديمة والخامات المتنوّعة، مثل دمج ورق البردي في اللوحات، وبين البورتريهات التي تستدعي ملامح المصري القديم وأزياءه، أو الشخصيات المعاصرة والربط بينها وبين الرموز الموجودة في المواقع الأثرية.

نقيب الفنانين التشكيليين يفتتح الحدث (مفوّض المعرض)

ويشير مفوّض الملتقى والمعرض إلى أنّ كلّ فنان شارك في المراسم قدَّم عملاً فنّياً خلال وجوده بالموقع، وإنما بعض الفنانين قدَّموا أكثر من عمل بعد ذلك، وقد ضُمَّت إلى المعرض، إذ تُعبّر الأعمال عن لقطات ومَشاهد من واقع زياراتهم أو تأثيرها فيهم، وفق أسلوب كلّ منهم واتّجاهه.

ويوضح: «قدَّم بعض الفنانين أعمالاً مباشرة مُستلهمة من الحضارة المصرية القديمة بمكوّناتها المختلفة، في حين قدَّم البعض الآخر لوحات رمزية تضمّ رموزاً أو ثيمات من الحضارة القديمة، لكنها ترتبط أو تتداخل مع مَشاهد واقعية؛ وهناك مَن اعتمد على الرموز من خلال رسم الطبيعة أو الطيور أو الحيوانات».

رموز متنوّعة تضمّنتها أعمال الفنانين (مفوّض المعرض)

ويضمّ المعرض والملتقى 16 فناناً، هم: المفوّض العام الدكتور شادي أديب سلامة، والفنانون أحمد عبد الجواد، محمد إبراهيم عارف، دينا صموئيل، هالة خليل، جوزيف الدويري، مروة إسماعيل، محمد وهبة، منى مهيمن، نورا مصطفى، علا أشرف، عمر رأفت، شنودة عصمت، وليد طارق، ولاء أبو العينين، ونفين ياقوت.

وتضمّ محافظة المنيا عدداً من المواقع الأثرية العائدة إلى العصور القديمة، من بينها مدينة هيرموبوليس التي لم يتبقَ منها سوى القليل، ومقبرة بيتوسيرس من عصر البطالمة، ومنطقة تونة الجبل التي تضم مقابر قردة «البابون»، ومنطقة بني حسن.

لوحات ترصد مظاهر الحياة في مصر القديمة (هيئة قصور الثقافة)

بدوره، يعدُّ شادي أديب سلامة المعرض الذي أُقيم لفناني المراسم «نقطة تحوّل في مشوارهم، ويمكن أن يكون نقلة في أعمالهم الفنّية لاحقاً، نتيجة المخزون البصري الذي ألهمهم، وقد يُشكّل ركيزة لأعمال أخرى، بعيدة عن مرحلة المراسم».