على رأسه قبّعة الـ«كاوبوي» الخاصة بسكّان تكساس الأصليين، وعلى كتفه الكوفيّة الفلسطينية. لا بدّ أنه «مو» أو محمد عامر، أشهر فلسطيني بين الأميركيين وأشهر أميركي بين الفلسطينيين.
يعود الممثل الكوميدي الفلسطيني الأميركي إلى شاشة نتفليكس في موسمٍ ثانٍ من سلسلة «Mo»، حيث من المفترض أن يكون الأخير وفق المنصة العالمية. إلا أنّ عامر لم يؤكّد المعلومة، على اعتبار أنّه ما زال لديه الكثير ليقوله، وفق تصريحٍ لمجلة «Variety». وهذا ما أوحى به الجزء الجديد من السلسلة، الذي تفوّق على سابقِه عمقاً إنسانياً وبُعداً اجتماعياً ووطنياً.
هذا لا يعني أنّ الضحكة التي ميّزت الموسم الأول من Mo غابت عن الثاني، إلّا أنّ الدموع التي يثيرها فائض الفكاهة تمتزج هنا بدموع التأثّر، ليستحقّ المسلسل عن جدارة الدخول ضمن خانة الدراما الكوميديّة.
بعد أن اختُتم الموسم الأول قبل سنتَين ونصف السنة، باختطاف محمد عن طريق الخطأ إلى المكسيك، يُفتتح الموسم الثاني والرجل ما زال عالقاً في مكانه. يتجوّل نهاراً في عربة خشبية صغيرة يبيع عليها وصفته المبتكرة من «التاكو» بالفلافل، ويتنقّل مساءً بين حلبات المصارعة الحرة وجولات «المارياتشي» الموسيقية، جامعاً بعض النقود وحالماً بالعبور مجدّداً إلى الأراضي الأميركية.
بين سيرة محمد عامر الحقيقية، وقصة Mo التي ترويها السلسلة، نقاطٌ مشتركة كثيرة. فهو يسرد تجربته الخاصة في الولايات المتحدة، مضيفاً إليها بعض العناصر المتخيّلة التي تُثري العمل. يقف هذه المرة وراء عدسة المخرج، ويتعاون كتابة مع رامي يوسف كما في الموسم السابق، ويتولّى البطولة إلى جانب عددٍ من الممثلين ومعظمهم فلسطينيون وعرب.
أمضى محمد أكثر من 20 عاماً في هيوستن تكساس، حيث لجأت عائلته هرباً من حرب الخليج، بعد أن كانت قد استقرّت في الكويت عقب الخروج من فلسطين بعد النكبة. عقدان من الزمن لم تحصل خلالها العائلة على اللجوء الشرعي، ما اضطرّه إلى تدبّر أمره بممارسة أعمالٍ عشوائية وغير قانونية، مثل بَيع السلع المقلّدة التي يكدّسها في صندوق سيارته.
يكافح محمد من أجل أن يصبح مواطناً شرعياً وصالحاً، لكنّ سوء الحظّ يقف دائماً في المرصاد. وعندما غامر بالعودة خلسة من المكسيك إلى الولايات المتحدة، انتهى به الأمر خلف القضبان في مركزٍ لاحتجاز المهاجرين غير الشرعيين. هذه أوّل معاناة يسلّط عليها المسلسل الضوء، فيصوّر باقتضابٍ هادِف الكابوس الذي يعيشه العابرون من المكسيك إلى الأراضي الأميركية.
تتزامن تلك السرديّة مع قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب المتشدّدة حيال المهاجرين، لكنها لا تنقلب إلى بُكائيّة، فحتى السجن يتحوّل على يد محمد إلى ملعبٍ لكرة السلّة!
لعلّه من أكثر المسلسلات الجديدة سلاسة على مستوى المشاهَدة، فكلٌ من الحلقات الـ8 لا تتعدّى النصف ساعة. وهي مدعّمة بأحداثٍ متسارعة وبخطٍ درامي تصاعديّ، يثريه أداءٌ مميّز للممثلين كافة على رأسهم محمد عامر الذي يؤدّي شخصيته الحقيقية، والممثل المصري الأميركي ذات الموهبة المذهلة عمر إلبا بدَور «سمير» شقيق محمد والمصاب باضطراب طيف التوحّد، إضافة إلى الوالدة «يُسرى» التي تجسّدها ببراعة الممثلة الفلسطينية الأردنية فرح بسيسو.
يتنقّل المسلسل بين اللغات الإنجليزية والعربية والإسبانية، وفي تلك الخلطة المتعدّدة الهويات عنصرُ ثراءٍ يُضاف إلى تنوّع المواضيع والرموز؛ بدءاً بصحن «الحمّص» وصولاً إلى التغريبة الفلسطينية.
يعود محمد أخيراً إلى بيته ليكتشف أنّ الجميع تدبّر أمره في غيابه: مصنع زيت الزيتون الخاص بوالدته شقّ طريقه إلى النجاح بمساعدة شقيقه، وصديقه المفضّل ينتظر مولوداً من شريكته، أما حبيبته «ماريا» فارتبطت برجل سواه. هو الذي ظنّ أنه رجع إلى مكانه، لم يجد لنفسه مكاناً؛ ما يضاعف لديه الشعور بالغربة وعدم الانتماء.
غير أنّ الصدمة تبلغ ذروتها عندما يكتشف أنّ الرجل الذي تواعدُه ماريا إسرائيلي أميركيّ. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ إذ إنّ «غاي» الإسرائيلي طاهٍ ناجح، ويملك مطعماً يقدّم وصفاتٍ مأخوذة عن المطبخ الفلسطيني، على رأسها الحمّص بالطحينة. وهنا، تتصاعد مظاهر النزاع الثقافي والآيديولوجي، من دون أن يخسر المسلسل عنصر الفكاهة.
على طريقته، ومن خلال حكاية محمد وعائلته، يرفع مسلسل Mo لواء القضية الفلسطينية. يرفض تسمية ما يجري «صراعاً» بل يؤكّد أنه «احتلال»، كما يصوّر الحسرة على الأرض الدامية في عيون الأمّ يسرى، ويُكثر من رموز الحنين إلى الوطن البعيد، من زيت الزيتون إلى المأكولات الفلسطينية، مروراً بالبطّيخة، وليس انتهاءً بمفتاح العودة.
لكن لماذا غيّب عامر حرب غزة عن القصة؟
في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، جلس فريق Mo حول الطاولة وباشرَ بكتابة الموسم الثاني. ما هي إلّا أيام حتى اندلعت الحرب. يقول عامر في حديث مع صحيفة «إندبندنت» إن النقاشات احتدمت على إثر ذلك، خصوصاً أنّ الفريق مؤلّف من مسلمين ويهود ومسيحيين.
بعد أن هدأت النفوس والسجالات، ارتأى مؤلّف العمل ألّا يتطرّق إلى ما يحصل في غزة. وهو يوضح في حوارٍ آخر مع صحيفة الـ«غارديان» أنه «كان من الضروري أن تنتهي أحداث المسلسل قبل السابع من أكتوبر، ليس تجاهلاً للأحداث الآنيّة، وإنما حرصاً على القصة التي عُرف بها المسلسل والتي تجسّد بدَورها معاناة الفلسطينيين الممتدّة منذ 8 عقود».
تسلك القصة خطاً تصاعدياً يبلغ ذروته في الحلقة الأخيرة. تحطّ العائلة في فلسطين حيث يتداخل الحنين والمشاعر بواقع الاحتلال المؤلم. جرى تصوير تلك الحلقة، المقتبسة عن حياة عامر الحقيقية، في جزيرة مالطا، بما أنّ الأراضي الفلسطينية كانت تحت النيران الإسرائيلية خلال التصوير. غير أن اختلاف الموقع الجغرافي لم يخدش روح الحلقة التي أتت بمثابة تتويجٍ للمسلسل.