غسان أبو ستة... لن تسكُت الحقيقة

وثائقي «حالة عشق» لكارول منصور يُشارك ذاكرتَه مع العالم

كلّما أُلقي عليه ضوء صوَّب غسان أبو ستة النظر نحو فلسطين (حساب كارول منصور في «فيسبوك»)
كلّما أُلقي عليه ضوء صوَّب غسان أبو ستة النظر نحو فلسطين (حساب كارول منصور في «فيسبوك»)
TT

غسان أبو ستة... لن تسكُت الحقيقة

كلّما أُلقي عليه ضوء صوَّب غسان أبو ستة النظر نحو فلسطين (حساب كارول منصور في «فيسبوك»)
كلّما أُلقي عليه ضوء صوَّب غسان أبو ستة النظر نحو فلسطين (حساب كارول منصور في «فيسبوك»)

الرجل الذي أعطى كثيراً، يُكمل من خلال السينما ما بدأه. يتوجّه إلى العالم ليُخبره أنه رأى الفظاعة وظلّ متماسكاً من أجل المتألّمين. أبٌ مثلاً خسر عائلته ونجت له ابنةٌ نازفة. استغاث وهو ينظر إليه سائلاً إنقاذها من اللحاق بالمُغادرين. لا ينسى رجفة الصوت. ولكم عذَّبه أن يُفاضل بين حياةٍ وأخرى وإرجاء جراحات إلى يوم مقبل لم يأتِ. عطاءُ طبيب التجميل الفلسطيني المقيم في بريطانيا، غسان أبو ستة، حوَّله بطلاً في غزة.

فيلم «حالة عشق» يوثّق خيار التطوُّع رغم النار (حساب كارول منصور في «فيسبوك»)

يطلّ على هيئة جبال تتشبَّت بثباتها وتُعاند الارتماء. ولعلّه لم يشعر باكتماله المهني وجدواه الإنساني قبل بذل المهنة للموجوعين. فالتجميل الذي يمتهن أساليبه ويتفرّد ببعض تقنياته، لم يُشبع داخله المثقل. لملمة جراح غزة، فعل. تُلاحقه كاميرا المخرجة اللبنانية كارول منصور ليُشارك ذاكرته. فيلمها «حالة عشق» (عرضته سينما «متروبوليس» في بيروت)، يوثّق خيار التطوُّع رغم النار. لا بدّ من دمع يزور عينيه لفَرْط ما شهد على القسوة وفرض على النفس التحمُّل.

يعيد الفيلم تعريف العدالة والإنسانية، فيسأل بطله عما كان ليحدُث لو قُتل آلاف الأطفال الفرنسيين أو الأميركيين أو البريطانيين مثلاً. بطرحه إشكالية الجلّاد والضحية، وهل يتضاءل وَقْع الجريمة إن غُطّيَ الفاعل بقوى تتواطأ، يُبيّن وحشية عالم رخو المعايير، مُتلوّن، متعدّد الوجه.

تُلاحقه كاميرا المخرجة اللبنانية كارول منصور ليُشارك ذاكرته (حسابها في «فيسبوك»)

كلّما أُلقي عليه ضوء، صوَّب غسان أبو ستة النظر نحو فلسطين. مع ذلك، ظلَّ بطل الحكاية ومُحرّكها؛ والفيلم تحية له. فالمُخرجة مع مساعدتها منى خالدي، تُظهر الوفاء لتضحياته، ولا تكتفي بتعقّبه في المستشفيات والمؤتمرات، وإنما في غرف منزله وأوقاته الخاصة. تمتنّ لِما قدَّم، وتشاء شُكره نيابة عن كثيرين رأوا فيه النخوة الإنسانية والعطاء الصادق. بالنبش في ذاكرته، ومَنْحه فرصة أخرى لرَفْع الصوت، تشعُر بأنها تُسدِّد «دَيناً» لمَن عالج ورمَّم، لا الأجساد فحسب، وإنما الأرواح والنفوس.

تتداخل حياته الشخصية بمساره المهني، فنراه في ثوب النوم وفي رداء المستشفى؛ ومستلقياً على كنبة البيت ومرتمياً على أرض غرفة الطوارئ لغلبة التعب. يُريد الفيلم إظهار الجانب الخفي لرجل تحت الضوء. هو طبيب مشهور، لكنه أبٌ أيضاً. وبطل في غُرف العمليات وأقسام الطوارئ المزدحمة بالصراخ والدماء والويلات البشرية، لكنّه يستيقظ باكراً، يحضّر الفطور لأولاده، يكوي قمصان المدرسة، ويرتشف القهوة مع زوجته التي تُشكّل له الأمان الحقيقي. ويُخبر أنه دائم الاستجابة لنداء المعدة في أوقات الجَمعة العائلية، فلا يردُّ لذائذ الطعام، خصوصاً ما تعدّه حماته. الجانب الشخصي يمنح العمل حميمية، فيُهدّئ قسوة مَشاهده، وكونه فقط شهادات فلسطيني في الحرب، رغم أهمّيتها.

عطاء غسان أبو ستة حوَّله بطلاً في غزة (حساب كارول منصور في «فيسبوك»)

تعلو صرخته ضدّ تمادي ارتكاب العنف في غزة خلال سرد مُشاهداته. وهي ليست بالضرورة صرخة الحنجرة، وإنما الضمير. إنْ هَمَس، ظلَّت صرخة. وإنْ تكلّم بنبرة متماسكة، حافظت الصرخة على هدفها واتّجاهها، وهما قول الحقيقة والضمير العالمي. وبحديثه عن «عدم إسكات» هذه الحقيقة، يُصوِّب المسار نحو الاعتراف بها لتحقيق العدالة. وأمام انسياب الصور العالقة في ذاكرته، منها المريع مثل المقابر الجماعية لجثث مجهولة وأشلاء أطفال، ومنها إرغام فلسطينيين على التعرّي بتهديد السلاح، والسير معصّبي العيون في مشهدية الذلّ الإنساني، يشعر الشاهد على الإبادة بقوة لم يسبق أن أدركها، وبحرّية الخيار. فالأولى منبعها اكتشافه نفسه في الأوقات الصعبة، والثانية مردُّها العلاقة بالمكان المُلقى باللهب، وهي تصبح خلاصاً إنسانياً وملاذاً للشفاء، وإن توافرت احتمالات أخرى تتيح الأمان والرفاهية.

آلمه إحساسٌ بالعجز أمضى حياته يفرّ منه. رؤية الظلم البشري مُجسَّداً في بقعة جغرافية، عمَّق شعوره باستحالة الاكتفاء مهما أعطى. فالرجل بتر أطراف أطفال، وأجرى جراحات بغياب المُخدّر، وشمَّ رائحة جثث، وشهد على مجازر، وودَّع أحبّة؛ وإنما العجز ظلَّ يُباغته. ولعلّه بسرد الحكاية، يحيل بعض الأعماق على الاستراحة، فيجعلها تتقبَّل وضعية أخرى، غيرها التقلُّب في الجمر ورقص المذبوح من الألم.

يطلّ على هيئة جبال تتشبَّت بثباتها وتُعاند الارتماء (حساب كارول منصور في «فيسبوك»)

والدته وزوجته، امرأتا العُمر، تُخفّفان الأنّات وتُهدّئان الروح. تطلّان أمام كاميرا كارول منصور بدورَي بطولة. لا يهمّ عدد مَشاهدهما، ما دام وَقْعهما مدوّياً في حياته. الأم اختزال الحبّ والخوف، تدرك معدن الابن وتخشى أن يُكلّفه غالياً. والزوجة رفيقة الأيام وحلاوتها، والأم لـ3 أبناء، لم يتصوَّر له أحدهم نهاية مأساوية؛ لإحساسهم بأنّ العناية الإلهية تحوطه وتردّ كلَّ شرّ.

لكنّ غسان أبو ستة لمح الموت مرات، وراح يبعث برسائل صوتية للعائلة، لعلّها تُشكّل الرابط الأخير بين وجوده وغيابه. يروي كلّ هذا. وفعل السرد هنا يملك سُلطة المجاهَرة، ويستهدف العالم بأسره، ليُخبر عن الظلم والحقّ بالعدالة، وأنّ الضحايا ليسوا أرقاماً، وعدّاد الموت ينبغي أن يتوقّف. «حالة عشق»، هي فلسطينه. بأنفاسها ينجو من الاختناق.


مقالات ذات صلة

المخرج عمرو سلامة يجدد أزمة انتقاد رموز الفن المصري

يوميات الشرق إسماعيل ياسين ونجله الراحل ياسين (الشرق الأوسط)

المخرج عمرو سلامة يجدد أزمة انتقاد رموز الفن المصري

جدّد حديث المخرج المصري عمرو سلامة عن الفنان المصري الراحل إسماعيل ياسين خلال حضوره ضيفاً على «ليك لوك 3» أزمة انتقاد رموز الفن المصري.

داليا ماهر (القاهرة )
سينما «طريق الريح» لترينس مالك (بابلسبيرغ بيكتشرز)

12 فيلماً جديداً برسم الدورة الـ78 لمهرجان «كان»

محظوظة السينما بأفلامها، وأفلامها محظوظة بمهرجاناتها. من «برلين» إلى «نيويورك» ومن «تورنتو» و«مونتريال» إلى «سان سيباستيان».

محمد رُضا (لندن)
سينما «المستعمرة» (ماد سوليوشن)

شاشة الناقد: المستعمرة

بعد بداية تُثير القلق حول مستوى الفيلم، تتبدَّى الخيوط على نحوٍ أوضح يقود المخرج الجديد محمد رشاد فيلمه صوب نتائج فنية ملائمة لما يريد الحديث فيه وكيف.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق لدى المسلسل ما يقوله وسط الكلام المُكرَّر وما يُصوِّره خارج المشهد الجاهز (البوستر الرسمي)

«ليالي روكسي»... حكايةُ ولادة أول فيلم سينمائي سوري

للمسلسل مزاجه، وقد يراه البعض بطيئاً ومملاً. لا تتسارع الأحداث ولا تتزاحم المفاجآت، بقدر ما يتمهَّل برسم ملامح زمن ساحر تلفحه ذكريات الأوقات الحلوة...

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق إيفان فوند خلال تسلمه الجائزة على المسرح في برلين (إدارة المهرجان)

المخرج الأرجنتيني إيفان فوند: السينما مساحة للتجربة والدهشة

وصف المخرج الأرجنتيني، إيفان فوند، «السينما بأنها مساحة للتجربة والدهشة تعيدنا إلى الطفولة».

أحمد عدلي (القاهرة)

رحيل أيقونة المسرح اللبناني أنطوان كرباج

الممثل اللبناني الراحل أنطوان كرباج (أ.ف.ب)
الممثل اللبناني الراحل أنطوان كرباج (أ.ف.ب)
TT

رحيل أيقونة المسرح اللبناني أنطوان كرباج

الممثل اللبناني الراحل أنطوان كرباج (أ.ف.ب)
الممثل اللبناني الراحل أنطوان كرباج (أ.ف.ب)

توفي الممثل اللبناني أنطوان كرباج، اليوم (الأحد)، عن عمر ناهز 90 عاماً بعد أن أمضى سنواته الأخيرة في أحد مستشفيات بيروت فاقداً للذاكرة بفعل مرض ألزهايمر.

وقالت نقابة ممثلي المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون في لبنان في بيان: «غادرنا عظيم من بلادنا. بدأ حياته ملكاً وبقي كذلك طيلة مسيرته الفنية. قامة مسرحية ودرامية أغنت المكتبة الإبداعية بالعديد من الأعمال العظيمة خاصة على المسرح الجاد والاستعراضي مع العمالقة الأخوين الرحباني والأيقونة اللبنانية السيدة فيروز».

ولد كرباج عام 1935 في قرية زبوغا بمحافظة جبل لبنان وبدأ مسيرته الفنية مطلع الستينات حين التحق بمعهد المسرح الحديث التابع للجنة مهرجانات بعلبك الدولية بإدارة منير أبو دبس.

أدى كرباج أدواراً بارزة في عدد من مسرحيات الأخوين رحباني وجسد شخصيات تتطلب أداء مركباً مثل «فاتك المتسلّط» في مسرحية «جبال الصوان»، و«الملك غيبون» في مسرحية «ناطورة المفاتيح»، و«الوالي» في «صح النوم»، و«القائد الروماني» في مسرحية «بترا»، و«اليوزباشي عسّاف» في «صيف 840».

أجاد أدوار الشر والخير على حد سواء في الدراما التلفزيونية منذ تجسيده شخصية «جان فلجان» في مسلسل «البؤساء» لفيكتور هوغو عام 1974.

وتوالت مسلسلاته التي تنوعت بين الشعبية والمستوحاة من الأعمال الأدبية، فقدم مسلسل «ديالا» مع الفنانة اللبنانية الراحلة هند أبي اللمع، ومسلسل «لمن تغني الطيور»، ومسلسل «أوراق الزمن المر» مع منى واصف وجوليا بطرس.

لمع في مسلسل «بربر آغا» الذي كتب له القصة والسيناريو والحوار أنطوان غندور وأخرجه باسم نصر لتلفزيون «لبنان» عام 1979.

وعلى المسرح أدى كرباج أدواراً تنقل فيها بين روايات الأدب العالمي مثل «ماكبث» للإنجليزي ويليام شكسبير، و«الذباب» للفرنسي جان بول سارتر.

تقلد منصب نقيب الممثلين في لبنان من عام 2005 إلى عام 2009.