في قسم «البداية» ببينالي الفنون الإسلامية... من السماء للأرض وما بينهما

أعمال لفنانين من الشرق والغرب تخاطب الإنسان المعاصر بلغة المقدس

TT

في قسم «البداية» ببينالي الفنون الإسلامية... من السماء للأرض وما بينهما

معروضات جناح «البداية» (ماركو كابيليتي - مؤسسة بينالي الدرعية)
معروضات جناح «البداية» (ماركو كابيليتي - مؤسسة بينالي الدرعية)

التجول عبر قاعات بينالي الفنون الإسلامية يمكن للزائر رؤية الكثير وبالطريقة التي يريدها، ولكن لمن يريد التجول في الأقسام الداخلية أولا عبر القاعات الخمس، وهي البداية، المدار، المقتني، المكرمة والمنورة، فالأفضل الانطلاق من القاعة الأولى، وهي «البداية».

ننطلق في هذه القاعة من لوحة تعريفية ضخمة مكتوب عليها الآية الكريمة: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، تأخذ بيد الزائر لفهم عنوان البينالي وهو «وما بينهما». ما بين السماء التي تمثل المقدس والأرض التي يقطنها الإنسان هناك المساحة الوسطى «وما بينهما».

«البداية» يتفرع إلى ثلاثة أقسام رئيسة، يعرض الأول مقتنيات ترتبط باثنين من أعظم المقدسات لدى المسلمين، القرآن والكعبة، كلام الله وبيت الله الحرام. ثم تعرض الأقسام التالية أعمالاً تركيبية ضخمة تعكس أحاسيس الهيبة على مستوى الفرد والجماعة، وينتهي العرض في القاعة بأعمال معاصرة تتأمل في النور الإلهي الذي يتجاوز الإدراك.

«نفس» للفنان السعودي سعيد جبعان (الشرق الأوسط)

لننطلق إذن مع أول المعروضات، وهو للحق يعتمد على خطف البصر أولاً بحجمها الضخم ثم بقيمتها التاريخية والمعنوية.

مصحف أثري صنع في الهند وأوقف على المسجد النبوي (الشرق الأوسط)

تبدأ القاعة بعرض سلم خشبي أو مدرج ضخم كان يستخدم للوصول للكعبة المشرفة في أوقات الزيارة وتغيير الكسوة. صنع المدرج في الهند ثم شحن على جدة في عام 1826 ميلادية، وقد استخدمه الملك عبد العزيز في أثناء مراسم تغير الكسوة بحسب صورة تاريخية مرفقة.

يجاور المدرج مصحف ضخم الحجم أحدث وجوده نوعاً من التوازن في القاعة إلى جانب المدرج الخشبي التاريخي. نعرف أنه نسخ في الهند، وأوقف على المسجد النبوي الشريف، ولا يعرف اسم الواقف حتى الآن، وبحساب بطاقة التعريف فقد تميزت هذه النسخة بغلاف مرصع بالجواهر، وقد أرسلت من الهند للمدينة، ورُكِّبت في عام 1834 - 35. تضم القاعة أيضاً عدداً من المصاحف التاريخية التي أوقفت كلها على كيانات دينية في المدينة المنورة وكثير منها أوقف على المسجد النبوي.

نمر من القاعة للمساحة التالية، ونلاحظ ميزاب الكعبة الذهبي معلقاً عالياً، القطعة ومكان تعليقها الذي يماثل ارتفاع الكعبة يحرك لدى الزوار مشاعر يختلط فيها الإجلال والانبهار. المعروف أن زوار الكعبة المشرفة كانوا يتبركون بمياه الأمطار التي كان الميزاب يصرفها للأرض، وبشكل ما يحس الزائر بأنه في مثل الموقف، وهو يمر أسفل الميزاب، وكأنها ينتظر تساقط قطرات الماء التي تباركت بالمرور على سطح الكعبة.

كسوة الكعبة في قاعة «البداية» (ماركو كابيليتي - مؤسسة بينالي الدرعية)

 

الكسوة والمفتاح

الغرفة التالية تحمل عنوان «ذو الجلال والإكرام» ربما أكثر ما تحدث عنه زوار البينالي حتى الآن، فهنا تعرض الكسوة الكاملة للكعبة الشريفة للمرة الأولى. معلقة أجزائها في منتصف القاعة بالتوازي بدلاً من شكلها المعتاد، تسيطر هيبة وبهاء الكسوة على كل من مر بالقاعة، وكأنما تجسد معنى عنوان البينالي وهو «وما بينهما». تمتص كل الطاقة الروحانية والأحاسيس الإيمانية للزوار، وتصبح هي المنطقة الوسطى التي تربط الزائر بالمقدس. يكتمل العرض بإضافة نسخة من مفتاح الكعبة، وهو الوحيد الذي لا يزال ضمن مجموعة خاصة، ويعود تاريخه إلى فترة تمتد ما بين أربعينيات القرن السابع وأربعينات القرن الثامن الهجري.

 

من التاريخي للمعاصر

في القاعة التالية، نرى بعض القطع المعاصرة التي تكمل السردية الفنية للعرض، فنرى عمل الفنانة الليبية نورة جعودة المعنون «قبل السماء الأخيرة»، ويتكون من ثلاث منسوجات ضخمة الحجم موضوعة باتجاه مكة المكرمة في تعبير عن هيئات الصلاة من الوقوف والركوع والسجود. تعبر المنسوجات عن أثر سجادات الصلاة المتنقلة، وفي تحويل البقعة العادية التي تغطيها إلى مساحة مقدسة لتصبح بمكانة جسر يصل بين العالمين المادي والروحي.

 

بوابات ناعمة

نعبر لممر مبطن بلفافات القماش الملون الناعم الملمس، وهو للفنانة السعودية حياة أسامة بعنوان «بوابات ناعمة». نمر عبر الممر الملون نلمس الأقمشة الملونة الزاهية بينما نستمع لشرح الفنانة التي تقول لـ«الشرق الأوسط» إنها تعبّر بعملها عن مجتمع مصغر عاشت فيه لـ16 عاماً «هو مجتمع يتكون من جنسيات مختلفة، ولكنهم مجتمعون في تكوين هوية خالصة لهم». وتستطرد: «دأب سكان الحي على إضفاء لمسة ناعمة على منازلهم، وعلى الجدران للتخفيف من حدتها، وأيضاً لتكوين هوية خاصة لمجتمعهم تتميز بالألوان الحية والملمس الناعم». تقول إن أهم ما يميز المنطقة هو المناسبات والأفراح، حيث يحرص أهل المنطقة على إضافة الألوان التي تعبر عنهم عبر إسدال الأقمشة الملونة على الجدران والأبواب والنوافذ. تشير إلى شرائط بارزة على الأعمدة، وتقول إنَّها قطع أخذتها من سيدات الحي لتضيفها لعملها، وكأنها تحرص على وجودهن معها في هذا العمل.

«بوابات ناعمة» للفنانة السعودية حياة أسامة وفي الخلفية عمل الفنانة الليبية نورة جعودة المعنون «قبل السماء الأخيرة» (ماركو كابيليتي - مؤسسة بينالي الدرعية)

من السماء للأرض

نمر من بوابات حياة أسامة الناعمة حاملين معنا ترددات من مجتمع صغير مترابط لنصل لغرفة ضخمة تأخذنا لمفاهيم وأجواء أوسع. الغرفة ثنائية الألوان، الأبيض يحتل الخلفية، ويتداخل مع الأسود الذي يسيطر على الأعمال والقطع المعروضة التي تنوعت في أحجامها ما بين الضخم جداً والصغير. يلفتنا العمل الجداري الضخم للفنان عبد القادر بن شامة «بين كل سماء»، حيث الرسوم المنفَّذة على الجدار، وكأنما تمثل حركة دائبة في رحاب واسع، هل هي السموات تتشكل في بداية الخلق؟ يعتمد الفنان على الحركة عبر إسقاطات ضوئية تتحرك على الجدارية.

تنتظم سبعة أعمدة أثرية أمام الجدارية، وكأنما تحيط بمشهد السماء، وترفعها عن الأرض. تكتسب الأعمدة بهاء خاصاً؛ إذ إنَّها كانت موجودة في الحرم المكي قبل التوسعة الأخيرة.

«بين كل سماء» للفنان عبد القادر بن شامة (الشرق الأوسط)

كيف يمكن لمشهد مهيب محلق مثل هذا أن ينزل على الأرض مرة أخرى؟ هذا ما نجح العمل الضخم على الجدار المقابل في تحقيقه وهو تحت عنوان «ذاكرة التحول»، هنا نرى قرصاً من اللون الأسود، دائم الدوران والذوبان، بالاقتراب نرى أن سائلاً أسود لزجاً يتساقط من القرص ليستقر في حاويات أسفل منه. العمل للفنان أركانجيلو ساسولينو من إيطاليا، ويعكس التوازن الحساس ما بين القوى الطبيعية والتغيير الحتمي.

 

نور على نور

تختتم القاعة بعرض للفنان آصف خان، «مصحف الزجاج» اسم العمل، ويتناول القرآن الكريم باعتباره مصدراً للنور واستلهاماً من قوله تعالى «نُّورٌ عَلَىٰ نُورۗ»، يتجاوز الشكل المعتاد للمصحف ليتخلى عن الورق، وعن الحبر، تاركاً المجال للضوء الغامر الذي ملأ الخزانة ليعبر عن الإيمان. يتألف العمل من 604 صفحات زجاجية، كل منها مطلية يدوياً بذهب عيار 24 قيراطاً بخط الخطاط عثمان طه.

«مصحف الزجاج» للفنان آصف خان (الشرق الأوسط)

يقول آصف خان لـ«الشرق الأوسط» إن عمله «تعبير عن القرآن بمادتين، هما الزجاج والذهب، استوحيت عملي من الآية «نُّورٌ عَلَىٰ نُورۗ»، ما أحاول تقديمه هو إعادة طباعة القرآن بالزجاج بدلاً من الورق، بكيفية تسمح للنور باختراق المصحف؛ وهو ما يعني أن كل كلمة تسبح في الضوء، وتعكسه لنا. «عبر صناعة المصحف بهذا الشكل يصبح أداة بصرية مثل العدسة التي تأخذ الضوء من العالم، وتعكسه وهو تجسيد لمفهوم الإيمان».


مقالات ذات صلة

120 ثوراً تكسوها الألوان... برمنغهام تتحوّل إلى معرض في الهواء الطلق

يوميات الشرق فنٌّ يُكرّم الذاكرة (دار رعاية برمنغهام)

120 ثوراً تكسوها الألوان... برمنغهام تتحوّل إلى معرض في الهواء الطلق

انطلق في شوارع برمنغهام قطيع يضمّ أكثر من 120 ثوراً ضمن قافلة فنّية مجانية، مُزيَّنة بأنامل فنانين محلّيين، وموضوعة في أماكن مختلفة من المدينة البريطانية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق تحدّي «التحيُّز البصري» (معرض ليدز سيتي للفنون)

للمكفوفين حصّة في الجمال... حدث يُبدّد «التحيُّز البصري»

يستضيف معهد هنري مور في ليدز بإنجلترا معرضاً بعنوان «ما وراء المرئي»، بهدف تحدّي «التحيُّز البصري» في صالات العرض.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الفنان محمد عبلة ضيف شرف المعرض (قوميسير المعرض)

رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية» تُلهم تشكيليين مصريين

عبر لوحات تفوح برائحة اليود، تجلت مدينة الإسكندرية (شمال مصر) ببحرها وناسها وتاريخها وتفاصيلها المختلفة في معرض فني نظمته مؤسسة «محو الأمية البصرية».

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق من معرض «السفارة الافتراضية» من تقييم سارة المطلق (واس)

فن الحكاية البصرية: ثلاث قيمات سعوديات يروين تجربتهن

في زخم الحركة الفنية السعودية، تبرز أسماء لفنانين وأعمال ومعارض، كما يتردد اسم «القيم الفني» الذي يتولى إخراج المعرض للجمهور عبر رؤية فنية خاصة.

عبير بامفلح (الرياض)
يوميات الشرق صناعة العطور تعتمد على خامات طبيعية (متحف الفن الإسلامي)

«مسك وزعفران»... المتحف الإسلامي بالقاهرة يستعيد تاريخ العطور

المسك والزعفران والعود والعنبر والكافور هي العناصر الخمسة الشرقية الرئيسية في تركيب العطور في العصر الإسلامي.

محمد الكفراوي (القاهرة )

شراكة «صندوق الاستثمارات» و«فورمولا إي» تُعزز مستقبل النقل المستدام

جانب من ورشة العمل التي عُقدت في مدينة جدة غرب السعودية (الشرق الأوسط)
جانب من ورشة العمل التي عُقدت في مدينة جدة غرب السعودية (الشرق الأوسط)
TT

شراكة «صندوق الاستثمارات» و«فورمولا إي» تُعزز مستقبل النقل المستدام

جانب من ورشة العمل التي عُقدت في مدينة جدة غرب السعودية (الشرق الأوسط)
جانب من ورشة العمل التي عُقدت في مدينة جدة غرب السعودية (الشرق الأوسط)

أعلن «صندوق الاستثمارات العامة» السعودي، بالشراكة مع بطولة «فورمولا إي»، عن تجاوز البرنامج التعليمي الناتج عن الشراكة مستهدفه العالمي، بعد أن وصل إلى أكثر من 50 ألف طالب من مختلف دول العالم، قبل نهاية عام 2025، وهو الموعد الذي كان محدداً سابقاً لتحقيق هذا الإنجاز.

وجاء الإعلان خلال ورشة العمل المدرسية الأخيرة التي أقيمت في أكاديمية «هامرسميث» في العاصمة البريطانية لندن، أمس، لتختتم مرحلة أولى ناجحة من البرنامج، واستهدف تمكين الطلاب من الفئة العمرية بين 8 و18 عاماً في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات، مع التركيز على مفاهيم الاستدامة ومجالات التنقل الكهربائي المستقبلي.

ويُعد برنامج «قوة الدفع» ثمرة التعاون بين «صندوق الاستثمارات العامة» و«فورمولا إي»، في إطار شراكة «E360» التي تجمع كذلك «إكستريم إي» و«إي 1»، بهدف دعم الابتكار في رياضة المحركات الكهربائية وتعزيز دورها في بناء مستقبل أكثر استدامة لقطاع النقل.

وشمل البرنامج ورش عمل حضورية وتجارب تفاعلية أُقيمت في مدارس السعودية، والولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، إلى جانب محتوى رقمي متقدم يتيح للطلاب والمعلمين التفاعل عن بُعد، من خلال منصة تعليمية رقمية تحتوي على نماذج عملية لموضوعات مثل الاقتصاد الدائري، وتلوث الهواء، وحماية المحيطات، والفرص المهنية في رياضة المحركات الكهربائية.

ويأتي تحقيق البرنامج هدفه الطموح بتعليم أكثر من 50 ألف طالب حول العالم، ليعكس التزام الصندوق بتطوير الكفاءات الوطنية ونقل وتوطين

الطلاب المشاركون في أكاديمية «هامرسميث» في العاصمة البريطانية لندن (الشرق الأوسط)

المعرفة في المملكة، من خلال الاستثمار في المهارات المستقبلية والقطاعات الواعدة، وعلى رأسها التنقل المستدام والطاقة المتجددة.

وكان محمد الصياد، مدير إدارة الهوية المؤسسية في «صندوق الاستثمارات العامة»، قال في وقت سابق إن «البرنامج يعكس رؤية الصندوق في تمكين الجيل الجديد وتحفيزه نحو الابتكار، عبر توفير بيئة تعليمية تفاعلية تصقل المهارات الفنية في مجالات مستقبلية حيوية». وأضاف: «نحن ملتزمون عبر شراكتنا مع (E360) بتحقيق أثر مستدام، يعزز ريادة المملكة في مجالات التنقل النظيف، ويواكب التحول العالمي نحو حلول ذكية ومستدامة».

من جهته، قال أليخاندرو أجاج، المؤسس ورئيس مجلس إدارة «فورمولا إي» و«إكستريم إي» و«إي 1»: «نجح البرنامج في تجسيد دور الشراكة بين (فورمولا إي) و(صندوق الاستثمارات العامة) في دعم التحول نحو مستقبل مستدام. ويسعدنا أن نرى هذا التأثير الإيجابي الملموس على مستوى آلاف الطلاب حول العالم».

ويعتمد البرنامج على منهجيات تعليمية حديثة تناسب مختلف الأعمار، بدءاً من إعداد العروض والأبحاث العلمية، وصولاً إلى تصميم حلول عملية للتحديات التي تواجه قطاع التنقل المستدام. ويركز على تطوير مهارات التفكير النقدي، والعمل الجماعي، والابتكار التكنولوجي، بما يدعم توجهات الصندوق في تحفيز اقتصاد قائم على المعرفة.

وبحسب المعلومات الصادرة، فإن البرنامج يعد مثالاً على كيفية دمج التعليم بالترفيه والتقنية؛ إذ تم استثمار رياضة السيارات الكهربائية كمنصة لاختبار وتطوير تقنيات المحركات النظيفة، وتعزيز الوعي البيئي لدى الأجيال الجديدة، في وقت تتصدر فيه هذه الرياضة مشهد الابتكار العالمي في أنظمة النقل المستقبلية.

ويمثل تجاوز البرنامج مستهدفه العالمي الموعد المحدد، مؤشراً على نجاحه وتأثيره الواسع، وسط توقعات باستمرار توسعه ليشمل فئات جديدة ومناطق إضافية، مما يعزز مكانة المملكة بوصفها محوراً عالمياً لرياضات المستقبل، ووجهة رائدة في تطوير حلول التنقل المستدام.