«مدينة السرين الأثرية» عمق تاريخي لأكثر من ألفيْ عام

استئناف أعمال التنقيب بجهد سعودي صيني

أشارت بقايا الآثار التي استودعتها الحقب الماضية إلى حجم وقيمة تراث السرين الغنيّ (واس)
أشارت بقايا الآثار التي استودعتها الحقب الماضية إلى حجم وقيمة تراث السرين الغنيّ (واس)
TT

«مدينة السرين الأثرية» عمق تاريخي لأكثر من ألفيْ عام

أشارت بقايا الآثار التي استودعتها الحقب الماضية إلى حجم وقيمة تراث السرين الغنيّ (واس)
أشارت بقايا الآثار التي استودعتها الحقب الماضية إلى حجم وقيمة تراث السرين الغنيّ (واس)

توجد مدينة «السِّرّين» في محافظة الليث، الواقعة على بُعد 250 كيلومتراً، جنوب مكة المكرمة، وتحديداً في السهل الفيضي لوادي «حَلية» الشهير، أو ما يُعرَف حالياً بوادي «الشاقة الشامية» عند مصب الوادي في البحر، ويقع في جنوبها مصب وادي «عِلْيَب»، أو ما يُعرَف حالياً بوادي «الشاقة اليمانية». وتعود تسمية المدينة الأثرية بـهذا الاسم نسبة إلى هذين الواديين، إذ يُعد «حلية» و«عليب» من أشهر وأخصب أودية مكة المكرمة، في حين يُعد ميناء المدينة، الذي تعود نشأته إلى فترة ما قبل الإسلام، جزءاً رئيسياً من تفاصيل المدينة التي كانت أحد المواقع الحيوية والاقتصادية التي نهضت بحركة اقتصادية ونشاط اجتماعي لافت، خلال الفترة من القرن الثالث الهجري حتى القرن الثامن الهجري.

وفي منتصف الشهر الحالي، وقّعت هيئة التراث السعودية، في مقر وزارة الثقافة والسياحة الصينية، برنامجاً تنفيذياً مع الهيئة الوطنية للتراث الثقافي الصيني، لتجديد الترخيص لأعمال التنقيب في الموقع الأثري، بوصفه واحداً من المواقع التاريخية المهمة في السعودية، والذي يُعتقد أنه يحتوي على آثار تعود لحضارات قديمة استوطنت المنطقة.

تقع مدينة «السِّرّين» في محافظة الليث جنوب مكة المكرمة بنحو 250 كيلومتراً (واس)

السرين: ازدهار ثم اندثار

وتُعد مدينة السرين إحدى المحطات التاريخية على طريق الحرير البحري، وتحولت من بلدة صغيرة، في نهاية القرن الثالث الهجري، إلى مدينة كبيرة ونشيطة تجارياً، تَعاقب على إمارتها عدد من الأمراء، وارتبط ميناؤها تاريخياً بالرحلات والبضائع القادمة من الصين ودول آسيا إلى الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين.

وتضم مدينة السرين ميناءً للسفن، يحتوي آثاراً ونقوشاً تاريخية تعود إلى عصر ما قبل الإسلام، إضافة إلى بقايا آثار استودعتها الحِقب الماضية تبرهن على حجم وقيمة تراثها الغنيّ، ومنها المباني القديمة، وكسر الأحجار الحمراء، والأحجار البحرية، التي كانت تُستخدم في تشييد المباني، وكسر فخارية وخزفية وزجاجية، وأكوام من الآجُر والحجر، كما تحتفظ شواهد مقبرة المدينة بنقوش مميزة تستحق التعمق في دراستها.

من أشهر وأخصب أودية مكة المكرمة اتخذت «السرّين» اسمها (واس)

ورغم أن ازدهار الميناء والمدينة لم يدُم طويلاً، حيث تدهورت وهُجرت، بحلول القرن الثامن الهجري، لكن أطلالها بقيت شاهدة على حجم الحراك الذي عرفته خلال تاريخها، وعلى أهميتها على الطريق بين اليمن والحجاز براً وبحراً، بحيث أصبحت ملتقى طريقيْ تهامة البريين اللذين يجتمعان فيها ويفترقان بعدها شمالاً وجنوباً، ومثّل ميناؤها ممراً بحرياً لعب دوراً رئيسياً في حركة التجارة البحرية بين موانئ البحر الأحمر، وأيضاً في تعزيز صادرات منطقة السروات والقرى الداخلية. وكشفت المواسم السابقة لدراسات وعمليات التنقيب المشتركة بين السعودية والصين، عن مدى حجم وعمق العلاقات التاريخية بين الحضارة العربية في الجزيرة العربية والحضارة الصينية، والتي تضرب بعمقها التاريخي لأكثر من 2000 عام.

فريق أثري سعودي صيني اكتشف قطعاً خزفية صينية (واس)

توقيع برنامج تنفيذي بين السعودية والصين لتجديد أعمال التنقيب في موقع السرين الأثري (واس)

استعادة ذكرى وأثر الملّاح الصيني تشنغ خه

ويتيح البرنامج التنفيذي، الذي جرى توقيعه بين السعودية والصين، التعاون بين الفِرق الأثرية من البلدين لمواصلة الأبحاث والتنقيبات في الموقع، مما يسهم في كشف مزيد من التفاصيل التاريخية التي تخص المنطقة، وتثري المعرفة الأثرية المشتركة. وأتى توقيع هذا البرنامج في سياق تعزيز العلاقات الثقافية بين البلدين، وضمن جهود وزارة الثقافة والهيئات الثقافية لفتح آفاق جديدة للثقافة السعودية، من خلال تعزيز التبادل الثقافي الدولي بوصفه أحد أهداف الاستراتيجية الوطنية للثقافة، التي تسعى لتحقيقها المنظومة الثقافية تحت مظلة «رؤية المملكة 2030».

وتستعيد جهود التنقيب في المكان ذكرى وأثر رحلة الملّاح الصيني تشنغ خه قبل 600 سنة إلى جدة والمدينة المنورة، التي خاضها، عدة مرات، في رحلاته البحرية البعيدة المدى. وخلال المواسم السابقة من التنقيب في مدينة السرّين الأثرية، جرى استكشاف مجموعة من الخزفيات لأسرتيْ سونغ ويوان الملكيتين في ميناء السرين الأثري، حيث قام الجانبان الصيني والسعودي بأعمال التنقيب المشتركة، وأعادوا حكاية تاريخ الصداقة بين البلدين. ومن المتوقع أن يسلط استئناف أعمال التنقيب في موقع السرين الأثري الضوء على مزيد من بقايا وتفاصيل المكان، وما يضمّه من آثار تعود لحضارات قديمة استوطنت المنطقة، واتصلت بشعوب وثقافات وحضارات العالم المختلفة.


مقالات ذات صلة

«سيمفونية الأمل» بالرياض... تناغم فني بين أوركسترا «البولشوي» و«المارينسكي»

يوميات الشرق هبة القواس في إحدى حفلاتها (الشرق الأوسط)

«سيمفونية الأمل» بالرياض... تناغم فني بين أوركسترا «البولشوي» و«المارينسكي»

في أجواء فنية وموسيقية بديعة تضامناً مع مرضى السيلياك، رعى الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي، فعالية «سمفونية الأمل» التي استضافتها الرياض.

فتح الرحمن يوسف (الرياض)
الخليج الملك حمد بن عيسى خلال مباحثاته مع الأمير عبد العزيز بن سعود في قصير الصخير بالمنامة (واس)

ملك البحرين ينوّه بجهود التنسيق الأمني مع السعودية

نوّه العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى بالجهود التي تبذلها لجنة التنسيق الأمني المنبثقة من مجلس التنسيق السعودي البحريني.

«الشرق الأوسط» (المنامة)
الخليج الأمير فيصل بن فرحان لدى لقائه فيليب لازاريني في الرياض الأربعاء (واس)

وزير الخارجية السعودي يبحث علاقات التعاون مع «الأونروا»

ناقش الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي مع فيليب لازاريني مفوض عام وكالة «الأونروا» المستجدات في غزة، وتداعياتها الإنسانية، والجهود المبذولة بشأنها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تستهدف الندوة توسيع الفهم لأثر التنقل والترحال في تشكيل المجتمعات البشرية (هيئة العلا)

«ندوة العلا العالمية للآثار» تستكشف دور التنقل في تشكيل تاريخ البشرية

تهدف ندوة العلا العالمية إلى استكشاف الدور العميق للتنقل في تشكيل تاريخ البشرية، وتأمل السرديات حول القصص المتعددة عن أثر التنقل والترحال في حياة المجتمعات.

عمر البدوي (العلا)
عالم الاعمال الرياض تستضيف قادة القطاع العقاري في «سيتي سكيب العالمي»

الرياض تستضيف قادة القطاع العقاري في «سيتي سكيب العالمي»

يرعى وزير البلديات والإسكان، ماجد الحقيل، انطلاق النسخة الثانية لمعرض «سيتي سكيب العالمي 2024»، خلال الفترة من 11 إلى 14 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«الكل يحب تودا» يحتفي بصلابة مطربة شعبية مغربية

مشهد من الفيلم - (الشركة المنتجة)
مشهد من الفيلم - (الشركة المنتجة)
TT

«الكل يحب تودا» يحتفي بصلابة مطربة شعبية مغربية

مشهد من الفيلم - (الشركة المنتجة)
مشهد من الفيلم - (الشركة المنتجة)

بمشهد صادم للاعتداء على البطلة «تودا» في بداية أحداث الفيلم المغربي الجديد «الجميع يحب تودا»، تبدأ رحلة البطلة التي تقوم بدورها نسرين الراضي على مدار أكثر من 100 دقيقة في الشريط السينمائي الذي عُرض للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات النسخة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي، منافساً على جوائز المسابقة الرسمية للمهرجان بعد عرضه الأول في النسخة الماضية من مهرجان كان السينمائي.

يرصد الفيلم رحلة «تودا» التي تحلم بأن تصبح «شيخة» (مطربة تقدم الأغاني الشعبية التراثية)، وهي أم مسؤولة عن تربية ابنها الوحيد، وتسعى لمواجهة صعوبات عدة مع انتقالها للحياة في الدار البيضاء من قريتها الصغيرة متمردة على الكثير من القيود والتقاليد التي تعوق تحقيق حلمها ومقدمة صورة مغايرة لتقديم الأغاني التراثية في الحانات.

وتركز الأحداث على تقديم «تودا» فن «العيطة» الذي يشكل جزءاً من التراث الشعبي المغربي عبر مجموعة من الأغاني المختلفة والمتميزة التي تعبر عن أجيال مختلفة نستمع إليها على مدار الفيلم.

يوظف مخرج الفيلم أغاني «العيطة» التي استوحت من المعاناة اليومية لمقاومة الاحتلال عبر أحداث الفيلم لإبراز معاناة «تودا» ورحلتها في الحياة التي تجبرها الظروف على تغييرها، وهي ابنة الريف المغربي التي نشأت بإحدى قرى جبال أطلس وتتضاعف معاناتها مع مسؤوليتها عن تربية نجلها الأصم ابن السنوات التسع، الذي تسعى لتوفير حياة أفضل له بأحلام مشروعة.

يقول مخرج الفيلم نبيل عيوش لـ«الشرق الأوسط» إن «العمل مستوحى من قصص لنساء حقيقيات قابلهن في حياته وعمل على مزج الصعوبات والمعاناة التي عشنها في الفيلم مع إبراز ملامح الحياة الليلية في الأماكن التي يقمن بالغناء فيها، بالإضافة إلى علاقتهن الاجتماعية وطبيعة علاقتهن مع أسرهن.

مخرج الفيلم نبيل عيوش - (إدارة المهرجان)

وأضاف عيوش أنه عمل على تقديم صورة مغايرة لـ«الشيخة» في الأحداث، بعيداً عن التنميط والصورة الذهنية السائدة، مشيراً إلى أنه لا توجد واحدة تشبه الأخرى، لافتاً إلى أن اختيار نسرين الراضي للبطولة جاء لإعجابه بأدائها التمثيلي بشكل كبير منذ أن شاهدها للمرة الأولى قبل نحو 15 عاماً في مدرستها.

ويشيد الناقد السعودي أحمد العياد بأداء نسرين الراضي في شخصية الأم «تودا» باعتباره علامة فارقة بمسيرتها السينمائية وليس بالفيلم فحسب، مشيراً إلى أنها استطاعت التعبير عن تفاصيل الشخصية بكل مراحلها بصورة أضفت مصداقية كبيرة على الأحداث.

وأضاف العياد أن الفيلم اتسم بكثرة التحويلات التي تمر بها «تودا» بوصفها «شيخة» و«أماً» الأمر الذي يجعل المشاهد لا يشعر بالملل عند متابعة الأحداث، خاصة أن الفيلم تميز بالإيقاع السريع والجذاب للمعالجة الفنية والفكرة التي يقدمها والتي تركز على المواجهة التي تخوضها النساء والقيود المفروضة عليهن. وأشاد بحرص مخرج الفيلم على تقديم تحية لـ«الشيخات» اللاتي يحفظن التراث ويقمن بالغناء متحديات الكثير من القيود.

يشير الناقد المصري طارق الشناوي إلى أن مخرج الفيلم كانت لديه أفكار عدة يرغب في تقديمها، وهي الأفكار التي أراد تضمينها في الأحداث، ومن بينها التعريف بفن «العيطة» ومقدميه، لافتاً إلى أنه على الرغم «من وجود رؤية توثيقية للحديث عن هذا الفن لديه فإنه حرص على توظيفها في الأحداث التي تناسب طبيعة الفيلم الروائي».

مشهد من الفيلم - (الشركة المنتجة)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن حياة «تودا» الصاخبة التي تبدأ من الدقيقة الأولى في الشريط السينمائي بمشهد تعرضها للاعتداء أمر يجذب انتباه المشاهد ويجعله حريصاً على المتابعة والتعايش معها، لافتاً إلى أن الشخصيات التي قدمها بالأحداث كانت مليئة بالميلودراما ونجحت في إيصال الأفكار التي يريدها.

أمر آخر يتطرق إليه الناقد السينمائي السعودي مرتبط بزوايا التصوير التي اختارها المخرج في التعامل مع معاناة البطلة «تودا» عبر الاقتراب من وجهها والتركيز عليها لإبراز تعبيرات الوجه بالكثير من المواقف التي عكست مشاعر من الإحباط واليأس مرت بها في حياتها، مشيراً إلى أن الفيلم ركز على سعيها لإثبات قدرتها على الغناء بوصفها فنانة لديها موهبة، وليس على عملها في الملاهي الليلية.