أحد الأسباب التي لم تساعد «جوكر: مجنونان» على إنجاز ما حققه الجزء الأول من حكاية آرثر فلَك من نجاح (أنجز الفيلم لحين كتابة هذه الكلمات 155 مليون دولار عالمياً من أصل ميزانية بلغت 200 مليون دولار) يعود إلى أن الرغبة في مفاجأة الجمهور به لم تلعب الدور المنشود بل عكسه.
على عكس معظم مقدّمات (تريلرز) أفلام اليوم، لم تسرد المقدّمة الترويجية لهذا الجزء الثاني من «جوكر» الحكاية على أي نحو متسلسل. لا يمكن معرفة شيء عن الحكاية ذاتها كيف تبدأ أو تتطوّر أو تنتهي. ذلك التريلر الأول الذي تم نشره في مطلع شهر أبريل (نيسان) من العام الحالي، أوحى بأجواء الفيلم الأول ضمن قصّة مختلفة لا تخلو، هذه المرّة، من حب وعاطفة ومن غناء واستعراض ومن حكم وتوق للحرية، لكنها لم تُشر مطلقاً إلى حقيقة أن معظم الأحداث ستقع في السجن وأن هناك عدداً كبيراً من الأغاني الاستعراضية التي سيحتويها الفيلم.
هو «تريلر» مختلف وجيد التكوين لكنه مخادع أيضاً. حال تم عرض الفيلم في الدورة الأخيرة من مهرجان ڤنيسيا (سبتمبر/أيلول) حتى تبيّن للحاضرين أن الفيلم حمل أكثر من مفاجأة تجعله مختلفاً عن الجزء الأول منه. في الرابع من هذا الشهر انتقلت هذه المفاجآت إلى جمهور اعتقد أنه سيشاهد فيلماً أكثر ارتباطاً بسابقه. ربما فيلم يلتقي فيه جوكر بغريمه باتمان، أو فيلم ينضح بالمزيد من مواقف عنف مجنونة، أو حكاية دخول جوكر السجن (نهاية الفيلم الأول) وسرعة هروبه منه بعد فترة قصيرة.
أما أن تمضي معظم أحداث الفيلم في سجن، ويبدو جوكر فيها مهزوماً معظم الوقت فهذا لم يكن متوقعاً ولا المقدّمات اللاحقة وشت به. وما كان متوقعاً كذلك أن يصدح جوكر مغنياً ويستعرض موهبته في الرقص. هذا كان غريباً ويحتاج إلى مراجعة أعمق قليل من الجمهور السائد يقوم بها مكتفياً بالجاهز من المشاهد ومعانيها المباشرة.
جوكر الهارب
«جوكر: مجنونان» دراما حزينة عن رجل يحاول أن ينجو من حبل المشنقة. نتعرّف عليه في السجن وهو يمارس ضبط النفس والامتثال لتعليمات وقوانين السجن بكل صبر وقبول. يبدو سجيناً مثالياً طيّعاً وودوداً.
«هل لديك نكتة اليوم؟» يسأله أكثر من واحد. بعضهم من النزلاء الآخرين وبعضهم من الحرس. في النصف الأول من الفيلم لا يبخل جوكر على أحد. يُضحك ويَضحك. يبدو كما لو تحوّل إلى مهرج مسالم. شخصية طوّعها القانون وواجهت حقيقة حياة بديلة لتلك السابقة منذ أن ترك حرية الحياة خارج السجن ومعها شخصيّته الجانحة.
خلال هذا النصف الأول يتطلع المرء إلى أن يكشف جوكر عن وجهه الحقيقي فإذا به يخطط للهرب من السجن وممارسة ما كان يمارسه في الفيلم الأول من جرائم، لكنه لا يفعل ذلك إلا في متن النصف الثاني من الفيلم عندما تساعده معشوقته هارلي (ليدي غاغا) فتنسف جدار المحكمة التي كان جوكر يحضرها. سيهرب بالفعل. يركض في الشوارع بوجهه الملوّن مسافات طويلة. يركض سعياً لامتلاك زمام حياته وشخصيّته من جديد. إنه حب الانعتاق. توق لبداية جديدة قد لا يقدر عليها. في أفضل الأحوال، يفعل كل ما يفعله رجل مهدد بحكم الإعدام تُتاح له فرصة الهرب من السجن فيهرب.
ما زال جوكر هنا رجلا يبحث عن هويّته الفعلية. يحاول إقناع المحكمة بأنه يُعاني من عضال نفسي وأنه ليس في الواقع الشخص الذي ارتكب تلك الجرائم. لكنه، وفي إطار هذا البحث، يدرك أنه ليس ما يدّعيه. كلتا وجهتي الهوية، الشيزوفرانيا إن وُجدت، حسب فرويد أو - غالباً - من دونه، والرغبة الحثيثة للانتقام من المجتمع، مرتبطتان كتوأمين ولدا ملتصقين.
جلاد وضحية
هذه الشخصية المعقّدة (برهنت على عقدتها في الفيلم السابق) التي تبدو لحين كما لو أنها تراجعت عن أفعالها حكم القضاء لها أو عليها، ثم ترتد إلى الجوهر الخاص بها الذي نشأت عليه، ما كان لها أن تُهيمن على المشاهدين لولا موهبة أداء فريدة لواكيم فينكس. فريدة لأنه لا يفسّر الشخصية على حال واحد بل ينتقل بها في أشكال واتجاهات مختلفة بالقدرة ذاتها على التشخيص والتجسيد والخداع وبالمستوى ذاته من الليونة وإحكام القبضة على الحركة والإيماءة والكلمة.
الجوكر، في الفيلم السابق، كان شرّاً يعاني من فقدان الخير من حوله. ضحية مجتمعية وجلاد في وقت واحد. في الفيلم الجديد يحافظ على الوجه الأول ويغيب، بفعل السيناريو الموضوع، عن الجزء الثاني. لذا، فبعد هربه من السجن لفترة قصيرة، يعود بعدما ألقي القبض عليه. جوكر هنا أوهن من أن يُجيد الهرب. لا نراه يهرب كفاية، بل يجلس على أدراج جسر قصير مستسلماً. مرّغ السجن وجهه وذاته واستقوى عليه نازعاً عنه قدراته البدنية التي ارتبطت بشروره النفسية أيما ارتباط في الجزء الأول. بعد إلقاء القبض عليه، يُضرب ويُغتصب. هذا عالم جديد عليه، انحدار نحو الهوّة كما لو أنه بات يدرك في نفسه أن ما صنع شخصيّته المخيفة لم يعد متوفراً. جديد عليه كما على مشاهدين يريدون بطلاً منتصراً شريراً كان أم لا.
طواعية فينكس الأدائية لا تُمس. بدنياً ما زال مثل دمية بلاستيكية تلتوي كيفما يُراد لها بفارق أنها تحمل روحاً تمكنها من تجسيد الشكل الذي تريد. هذا هو واكيم فينكس الذي يجسّد الشكل الذي يريد أكثر مما فعل أي من جوكرات الأمس (بينهم جاك نيكولسن البارع في ترجمات أخرى للشخصية). إنه تجسيد رائع لشخصية ظهرت لكي تُكره في الأساس مقابل باتمان كبطل يمثّل الخير. الممثلون الآخرون عكسوا ذلك الجانب وحده. فينكس يمنحه، تبعاً لإدارة وكتابة ذكية من المخرج تود فيليبس، الجانب الإنساني المغلّف بجانب غير إنساني.
لكن الحركة البدنية ليست كل ما على فينكس أن يجيد، بل كذلك الروح التي تسكنها. هناك طواعية مشابهة وبل ملتحمة بالحركة البدنية تجعل من فينكس يمثّل على مستويين متلاصقين.
مأساة رجل يبحث
دخول هيلاري في حياته إيماناً منها به، يُفيد في منح الفيلم عاطفة كان الجوكر محروماً منها بعد وفاة أمّه، كما يُفيد في مشاهد الغناء والاستعراض. هي بموهبتها الغنائية أولاً، وهو بمواهبه جميعاً التي بات الغناء هنا من عناصرها. هي تؤمن به وحين تغني، منفردة أو معه، تنجح في منح الفيلم بعداً استعراضياً وعاطفياً مهمّاً. لكن العاطفة الصادرة عنها هي عشق لبطلها بينما العاطفة المنبثقة عن جوكر ليست بالضرورة مشابهة أو على ذات القدر من العلاقة. هي مشغولة به وهو مشغول بما يعنيه التوق للحرية.
هذا التوق يدفعه لصرف محاميّته (كاثرين كينر) حين المرافعة والترافع عن نفسه. إنها فرصة مزدوجة، واحدة لآرثر فلَك/ جوكر للظهور على محطات التلفزيون بالطريقة التي اشتهر بها أمام جمهوره وأخرى للمخرج تود فيليبس ليرفع قبعته مرّة ثانية لفيلم مارتن سكورسيزي King of Comedy («ملك الكوميديا»، 1982).
الفقرات الموسيقية لا تجعل هذا الفيلم «ميوزيكال». لذلك النوع عناصر تأليفية مختلفة. هو دراما تستخدم الموسيقى والغناء كمواصلة للحدث الماثل ولاستكمال رسم الشخصية الأولى. الجانب السلبي في كثرتها أنها تضر الفيلم ولا تنفعه كونه ليس فيلماً موسيقياً من ناحية وكونها تؤخر فعل الجذب لما يدور. بعض تلك الاستعراضات رائع وأفضل من أخرى من دون أن ننسى أن المخرج فيليبس ليس مخرج أفلام استعراضية مثل روب مارشال («شيكاغو»، 2002) أو ڤنسنت مينيللي (الذي نرى في مطلع الفيلم ملصقاً لفيلمه The Band Wagon («عربة الفرقة»، 1952).
الفيلم هو في الأساس وعلى نحو شبه مطلق تراجيديا. هو عن مأساة رجل يريده الآخرون أن يكون جوكر فقط. أن يكون جوكر ولو مكبّلاً. يريدون ذلك الوجه منه. ذلك الوجه وحده. والخيط المهم، وغير الملحوظ، هو أن لا أحد في الفيلم يناديه باسمه: آرثر، ولا حتى هيلاري. هذا جزء من الصورة المأسوية التي يتناولها «جوكر: مجنونان» المعبّرة عن رجل يريد العودة إلى حياة افتقدها وإلى إنسان لم يتح له معايشته جيداً... لكن لا أحد آخر يرغب له ذلك.