لا تتوقف لوحات الفنان المعذب فنسنت فان جوخ عن مفاجأتنا، رغم انتشارها واستهلاكها تجارياً، لا تزال تحتفظ بحياتها وجمالها وشاعريتها وحزنها. الدهشة دائماً حاضرة عندما نطالع لوحات عبقري الألوان. قد يبدو أن المعارض المخصصة لفان جوخ قد استنفدت ما بجعبتها، ولكن مع كل معرض جديد تظهر جوانب لم نرها من قبل، وتبوح اللوحات بأسرار جديدة لزوارها. اختار المعرض الحالي الذي يقيمه ناشونال غاليري بلندن عنوان «فان جوخ... شعراء وعشاق» ليعيد قراءة فترة مهمة في حياة الفنان الهولندي من فبراير (شباط) 1888 إلى مايو (أيار) 1890، وهي الفترة التي انتقل فيها لمدينة آرل الفرنسية للعيش هناك وأيضاً الفترة التي قضاها في مصحة «سانت ريمي دو بروفانس». أنتج فان جوخ خلال الفترة القصيرة مجموعة من أروع لوحاته، ومنها سلسلة «زهور عباد الشمس» و«ليلة مرصعة بالنجوم» ومجموعة من المناظر الطبيعية واللوحات البورتريه.
الشعراء والعشاق
خلال الجولة تصاحبك كلمات فان جوخ التي كتبها في خطابات لأخيه ثيو خلال تلك الفترة، وتصبح الكلمات هي المصباح الذي نرى على ضوئه اللوحات. لماذا «شعراء وعشاق؟» بحسب البيان الصحافي «اختار فان جوخ أشخاصاً من حوله ليخلق بورتريهات رمزية مثل الشاعر والعاشق». كما انتظمت الصور في مجموعات مرتبطة كل بموضوع، منها اللوحات التي زين بها غرفته في البيت الأصفر بآرل التي خلدها في لوحاته الشهيرة مثل «غرفة النوم» ولوحات زهور «عباد الشمس».
يصف بيان المعرض أهمية الفترة التي قضاها الفنان في جنوب فرنسا في أسلوب فان جوخ «على مدى عامين فقط في جنوب فرنسا، أحدث فان جوخ ثورة في أسلوبه من خلال سيمفونية من الألوان والملمس الشعري. وقد استلهم أعماله من الشعراء والكتاب والفنانين. وننظر إلى هذه الفترة في آرل وسان ريمي باعتبارها فترة حاسمة في حياته المهنية. فقد أنتجت رغبته في سرد القصص مشهداً من الخيال الشعري والحب الرومانسي على نطاق طموح». من الجمل التي تأخذ بيد الزائر في جولته ما كتبه فان جوخ في خطاب لأخيه في سبتمبر (أيلول) 1888 واصفاً لوحته «مدخل الحديقة العامة في آرل»: «هذه الحديقة تتميز بلمحة لطيفة بحيث يمكنك تخيل شعراء عصر النهضة مثل دانتي وبترارك وبوكاشيو، وهم يمشون بين الشجيرات على العشب المزهر».
عبر أكثر من 50 لوحة من المتعة المتواصلة نتابع أفكار فان جوخ، نحس بضربات فرشاته، ونرى الألوان الممتزجة على رقعتها، كل لوحة تبعث الشعور لدى الزائر بأنه يقف إلى جانب الفنان، ولعل هذا ما يمنح المعرض حيويته وجاذبيته. لا يشيخ فان جوخ أبداً، ولا تفقد لوحاته سحرها. يستكشف العرض تعامل الفنان مع موضوع الحب وموضع الشعراء فيصف الحديقة المواجهة للمنزل الأصفر الذي سكن فيه في آرل بأنها حديقة الشعراء، ونرى الحديقة في لوحة بعنوان «حديقة الشاعر (1888)» حيث صور عاشقين يقفان تحت ظلال الأشجار. وفي كل حديقة كان هناك رمز للعشاق، هنا عاشقان يمسكان بيد بعضهما البعض في لوحة «ليلة مرصعة بالنجوم» أو اثنان في لوحة الحديقة العامة في آرل وغيرها، تمثل اللوحات المعروضة هذا التوجه والتفكير لدى الفنان وتوقه لأحاسيس الحب. حتى عندما دخل المصحة في سانت ريمي في مايو 1889 أصبحت حديقة المستشفى في خيال فان جوخ بمثابة مكان للقاء العشاق، ونفذ في تلك الفترة عدداً من اللوحات الرائعة للحديقة.
بعيداً عن الرومانسية
مع أن المعرض اختار ثيمة وعنواناً قد يوحي بالشاعرية إلا أن هناك أحاسيس أخرى تملأ الزائر، وليست بالضرورة الشاعرية بل هناك أيضاً الحزن والفقد وأيضاً الخوف. في خطاب لصديقه الرسام إميل برنار في نوفمبر (تشرين الثاني) 1889 وصف فان جوخ شجرة مقطوعة في حديقة المصحة بسان ريمي بأنها مثل «العملاق الأسود... مثل رجل مكسور». في هذا الضوء يمكننا تفسير الألوان التي استخدمها لتلوين التربة تحت أشجار الزيتون، لونها أحمر مثل الصدأ، يقول عنها في خطاب لأخيه في نوفمبر 1989 «هذا المزيج بين لون الأصفر المحمر، بين اللون الأخضر الذي يتخلله اللون الرمادي الحزين، للخطوط السوداء التي تحدد الخطوط العريضة، يثير قليلاً من الشعور بالقلق الذي يعانيه بعض رفاقي في سوء الحظ غالباً...».
ما يهم في المعرض هو التنقل من رائعة لأخرى من إبداع ذلك العبقري، ويبدو أن ذلك ما فكر به معدو العرض إذا تختفي التعليقات على البطاقات بجوار كل لوحة، وتكتفي بالأساسي تاركة للزائر حرية استكشاف ما أبدعته ريشة فان جوخ وهو كثير. تبرز في المعرض المناظر الطبيعية، وتطغى على تصوير الأشخاص الذين يتقلص حضورهم لأشخاص بلا ملامح، نرى أشخاصهم عبر الخطوط الغامقة، لا يهتم الفنان كثيراً بتفاصيلهم، هم هنا لإعطاء اللوحة معنى. الأشجار هنا قصة أخرى، نراها مثمرة ووارفة الظلال، ونراها مكسورة مقطوعة وحيدة، أشجار الزيتون في الغرفة الأخيرة تتلوى وكأنها تعاني. يصور الجبال وكأنها سلسلة من الأشكال الداكنة المقلقة أما السحب فتتحول عنده لأشكال مختلفة بعضها ثقيل اللون مثل مزيج الدقيق بالماء، وبعضها يسبح في أشكال متلوية.
نأتي للألوان وهي باهرة! لم يستخدم فنان الألوان مثل فان جوخ، يسبغ ضربات الفرشاة المليئة بالألوان على قماش اللوحة، تسبح اللوحة في ألوان متنوعة تنسجم فقط مع مخيلة الفنان، ولا تنسجم مع الطبيعة، فالسماء عنده خضراء وزرقاء أو حتى بنفسجية، حتى تراب الأرض يتلون، وتبقى الشمس محتفظة بمزيج بديع من اللون الأصفر ودرجاته. الشمس في أكثر من لوحة هنا دائرة محددة بلون أغمق تسبح في بحر من اللون الأصفر، في لوحته عن أشجار الزيتون يطفو قرص الشمس فوق الأشجار، وفي لوحة أخرى عن ناثر البذور يطل قرص الشمس العملاق خلف المزارع باللون الأصفر الذي لم يستخدمه أحد مثل فان جوخ بينما تكتسي السماء حوله بدرجات مختلفة من اللون الأصفر المائل للزيتي. يخرج الزائر من المعرض وبه إحساس المنتشي من إبداع لا حدود له وبين مشاعر مختلفة ممزوجة بالحزن تسربت من بين خطوط وألوان كثيفة ونفس الفنان المعذبة.
- معرض «فان جوخ... شعراء وعشاق» في ناشونال غاليري بلندن يستمر حتى 19 يناير (كانون الثاني) 2025.