يلمس مُتأمِّل تماثيل النحّات الأرميني كارين أخيكيان تحلّيها بنبض الحياة وبمنحى ديناميكي كأنها تجيد التحكُّم بمَشهدها. يُعرّف عن نفسه بأنه «شخصية إنترنتية»، يتّخذ من صفحته في «إنستغرام» فضاء عرض متواصلاً. يختزل مساره الفنّي بالقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «رحلة جذورُها ضاربة بعمق في جدوى اكتشاف المشاعر الإنسانية». ذلك للتأكيد على أنّ الحيوية والديناميكية في أعماله تعكسان الصلابة المنبثقة من صراعات الحياة وأشكال تحوّلاتها. فكل منحوتة تبدأ بفكرة في ذهنه، تسبق كونها رسماً يتجسَّد أو مفهوماً يتكوَّن. يعمل مباشرة مع الأسلاك، مُسلِّماً إياها لمجريات فكرة الخَلْق، فيترك للمادة تولّي عملية الإبداع. هذه المقاربة العفوية تُضفي على القِطع طاقةً حياتية نشِطة، كأنها تتحلّى بالنبض المُحرِّك والنَفَس العميق، فتُجسّد شعوراً بفعل السيطرة والتغلُّب على المِحن.
تتّخذ بعض منحوتاته شكلاً نسائياً، كمَن تُصارع أو تُدافع أو تخوض مواجهة محتدمة. فهل المُراد بذلك موقف فنّي يقدِّم التحية لنساء من العالم يواجهن صعوبات، ويتعاملن باستمرار مع أشكال اللاعدالة؟ يجيب: «بالفعل! أعمالي تلامس غالباً موضوع النضال؛ وتجارب النساء تؤلّف فصلاً مهماً من هذه السردية. أعتقد أنهنّ، في أجزاء عدّة من العالم، يُواجهن الإجحاف واللاعدالة. غالباً لا يُمثَّلن بشكل مُنصف ولا تُسمع أصواتهنّ على الملأ. منحوتاتي تمنح الصوت لهذه المعارك الصامتة، وتعكس صمود نساء يثابرن رغم ما يُعرقل. الخطوط الديناميكية والتوتّر داخل الأسلاك نماذج لضغوط وأعباء تتحمّلها النساء يومياً».
بدأت رحلة كارين أخيكيان مع النحت بالمادة السلكية بلحظة غير متوقَّعة حين صمَّم كرسياً تجريدياً، يعدّه اليوم عمله الفنّي «المثالي». أشعلت تلك القطعة شغفه بتوظيف الأسلاك وسيطاً؛ وهي مادة وجدها مليئة بالتحدّيات ومُنطلِقة (حرّة) في آن معاً. يقول: «وُلد إلهامي من رغبتي المُلحَّة في التعبير عن مشاعر توصف بالمعقَّدة في سياق أثيريّ وقابل للّمْس في الوقت عينه. أصبح السلك، بقدرته على تجسيد الهشاشة والقوة، الوسيط المثالي لرؤيتي الفنّية».
كارين أخيكيان نحّات من أرمينيا، تستكشف أعماله موضوعات الصمود والعواطف المركَّبة. باستخدامه أسلاك الحديد والنحاس والأحجار الطبيعية، يبتكر منحوتات تعكس تخبُّط الروح البشرية وإنجازاتها. مقاربته حدسية، مما يسمح للمنحوتة بالتطوُّر التلقائي. أقام معارض دولية، تبنّى فيها سرديات فردية وثقافية تُشكِّل اتصالاً بين الشعوب، وتجمع المتباعدين وإن تعدَّدت مجتمعاتهم.
ولكن لماذا السلك؟ أي «واقعية» يضيفها هذا الوسيط الفنّي إلى أعمال كارين أخيكيان؟ يرى فيه مزيجاً فريداً من الصمود والمرونة، ومحاكاة مثلى لموضوعه. فمظهره القوي، المُتحلّي بصرامة ساطعة، يتيح تحقُّق التباين المطلوب مع المشاعر المرهَفة والمعقَّدة التي يسعى إلى التعبير عنها. يتابع: «تُمكّنني هذه المادة من خَلْق أشكال ديناميكية قابلة لالتقاط الحركة والتوتّر المتأصّلَيْن في الشعور الإنساني. نتاجي لا يرتكز على الواقعية بمعناها التقليدي، لكنه يُعزّزها بمنح المنحوتة عمقها العاطفي ولحظتها الفورية».
مُتصفِّح معرضه «الإنستغرامي»، يلمح بوضوح اهتمامه بفكرة «رسالة العمل الفنّي». للمنحوتة خطاب، ولديها ما تقوله وتؤسّس له. ليست صامتة كما قد تتراءى، بل ناطقة ومُعبِّرة. في فمها ماء دائماً، وترفض انكماشها. برأيه، «الفنّ أداة قوية للتواصل والتأمُّل. لا يعني ذلك تقليلاً من شأن الجماليات. فهي مهمة. وإنما القيمة الحقيقية للفنّ تكمن في قدرته على إيصال رسائل معبِّرة للتحريض على التفكير. عملي مدفوع بالرغبة في التواصل مع الآخرين على مستوى عاطفي لإثارة استجابة تتجاوز مجرّد التقدير البصري. ينبغي على الفنّ أن يتحدّى، ويُلهم، ويُقدم وجهات نظر جديدة حيال العالم».
أعمالي تلامس غالباً موضوع النضال؛ وتجارب النساء تؤلّف فصلاً مهماً من هذه السردية. أعتقد أنهنّ، في أجزاء عدّة من العالم، يُواجهن الإجحاف واللاعدالة. غالباً لا يُمثَّلن بشكل مُنصف ولا تُسمع أصواتهنّ على الملأ. منحوتاتي تمنح الصوت لهذه المعارك الصامتة، وتعكس صمود نساء يثابرن رغم ما يُعرقل.
النحّات الأرميني كارين أخيكيان
ساطعٌ اللون الأحمر، حين يتدخّل في تكوين المنحوتة. يبدو عنيداً أو غاضباً أو متمرّداً على عادية الفكرة أو برودتها والجانب المألوف منها. يجيب عن سؤال؛ هل يمثّل أملَ البشرية أم يختزل غليانها ودمها المُحتَقِن؟ بالقول: «للأحمر دور جبّار بمجرّد اقتحامه أعمالي. يرمز غالباً للأمل والشقاء معاً، ويمثّل ثنائية الوجود الإنساني: الوجع والمثابرة؛ الجروح والشفاء. أراه تذكيراً بالأعباء الجاثمة على أكتافنا، لكنه أيضاً منارة تضيء الدروب وتعبِّدها نحو الصمود والشجاعة وهزيمة الفواجع. الأحمر في منحوتاتي خيارٌ متعمَّد لإثارة استجابة عاطفية فعّالة، والإضاءة على كثافة التجربة الإنسانية».
وإلى أي مدى يُحوِّل تجاربه الحياتية أشكالاً نحتية؟ هل ثمة مفرّ من الواقع لتحقُّق الشرط الإبداعي؟ الواقعية تُحرِّك كارين أخيكيان. فمنحوتاته شخصية جداً، تعكس خصوصية رحلته وعبورها بمسارات الألم والصمود والتراكُم العاطفي: «العملية الفيزيائية لتشكُّل الأسلاك؛ أي الثني، واللفّ، تعكس العملية العاطفية الممثَّلة بمواجهة تحدّيات الحياة والتغلُّب عليها. كل منحوتة تتحوَّل شاهدةً على الصراعات والانتصارات التي تُحدِّد ما نحن عليه. هذا يجعل نحتي يتجاوز كونه تمثيلاً بصرياً، ليصبح سرداً لتجارب معيشة».