«الخطايا السبع المميتة» تُجسِّد إنسان الحروب على مسرح بيروتي

بطلا «ساليغيا» لبنانية وسوري يختزلان الإقامة الطويلة في «الصفر»

مشهد «النهم» الصامت يرفع شأن العرض لتألُّق قدرته التعبيرية (الشرق الأوسط)
مشهد «النهم» الصامت يرفع شأن العرض لتألُّق قدرته التعبيرية (الشرق الأوسط)
TT

«الخطايا السبع المميتة» تُجسِّد إنسان الحروب على مسرح بيروتي

مشهد «النهم» الصامت يرفع شأن العرض لتألُّق قدرته التعبيرية (الشرق الأوسط)
مشهد «النهم» الصامت يرفع شأن العرض لتألُّق قدرته التعبيرية (الشرق الأوسط)

مرَّت مشهديات منحت مسرحية «ساليغيا» لحظات تألُّق. بطَلاها، السوري «ورد» (حسن عقّول) واللبنانية «رهف» (فرح ورداني) مثَّلا التهشُّم الإنساني المُغلَّف بابتسامات مدّعية. من خلال 7 مَشاهد، تعبُر «الخطايا السبع المميتة»، مُبيّنة الحِمْل الكبير خلف أنْ يحيا المرء. العرض مشغول بوعي وجودي؛ نظرتُه نازفة إلى الحياة لإدراك أنها مُجرَّدة من الرحمة.

يبرز الهامش المتعلّق بعدم الاكتمال بوصول الأشياء إلى منتصف الطريق، حيثُ تَعْلق أو تُصاب بالجمود. فالعرض (فكرة حمزة عبد الساتر وإخراجه، يستضيفه مسرح «استوديو لبن» بمنطقة الصنائع البيروتية) يحوم لساعة حول ما لا يتحقّق، بينما يطوله بعضٌ بوسائل ملتوية. هذه حكاية بشر «بسمنٍ» وآخرين «بزيت» وفق اللسان الشعبي، فتُجسّد «رهف» تكسُّر الحلم أمام الواقع، ليختزل «ورد» الانقباض وحماية الذات المُبالَغ فيها من وحشية الخارج.

لا يمنح التخصُّص المسرحي لـ«رهف» امتيازاً لمواجهة عالم متقلِّب، يملك أدوات متطوّرة لسحق إنسانه، فالشغف هنا «لعنة»، والطموح قدرُه التقزُّم. يقول العملُ كثيراً عن انحراف مسار الخطط، والتعوُّد حدَّ إعلان التخلّي. تخلٍّ عن اليوم والغد والعُمر. وعن الضوء الساطع؛ بجرِّه، بإرادته، إلى إفساح المجال للجوّ الضاغط وألوانه الداكنة. بحوارات محكية، وأخرى يتولّاها الجسد (تعبيراً ورقصاً)، يتبيّن أنّ «الخطيئة» محاولة للنجاة من الارتكاب الأكبر، وهو الحياة نفسها.

المسرحية مشغولة بوعي وجودي ونظرتها نازفة إلى الحياة (الشرق الأوسط)

تتسلَّل أغنيات بين تجسيد «خطيئة» وأخرى، فترمز «بلا ولا شي» لزياد الرحباني للقبول بالأمر الواقع، و«لا تندهي ما في حدا» بصوت والدته فيروز لآهات لا تُسمَع، وعلاقات مبتورة، واتّكاء خائب، وانتظار يطول. وإذا كانت «الخطايا السبع المميتة» تُجسّد، في الميثولوجيا، الغرور والكبرياء والشهوة والحسد والشراهة والغضب والكسل، وهي أصناف «الشرور» وفظاظة الطبع البشري، فإنها على الخشبة بدت تصوُّراً لإنسان الحروب والوحشية الكونية، ولمنطق اختلال التوازن السائد. الإنسان المقتول لمائة سبب وبألف «سلاح»، لكنه يُكذِّب موته ويتحايل على وجوده.

يمرُّ «القتل» بوصفه أحد الخيارات المطروحة لنجاة مُحتَملة من تعامل الإنسان مع واقع يُفضي به حتماً إلى الجنون. بزعْمِه وسيلةً للتخلُّص من مسألة مزعجة، وتغيير معادلة ما، يتسلّل من بين الخطايا لتصدُّر المشهد. تمتلئ كفُّ «رهف» بالدم المسفوك، بينما «ورد» يلتفّ بصَمْته أمام زوجته الجانبة، معلناً عجزه حيال هستيريا مصيرهما. هنا تلتحق المواجهة بسلسلة سبقتها عنوانُها «الفردُ في العالم وأحلامه المُبعثرة»؛ فتبلغ ذروة تفجّرها لحظة تبادُل التُّهم، وإسقاط ورقة التوت الأخيرة عن علاقة هشَّمها التردُّد والاختباء والترقيع.

البطلان مثَّلا التهشُّم الإنساني المُغلَّف بابتسامات مدّعية (الشرق الأوسط)

كل ما في العرض يدور حول «الجلوس في الصفر» مدّةً طويلة، في تلك الرقعة المشوَّهة، حيث لا حُبّ ولا حياة، وحيث يتعذَّر الحصول على المُبتغى، فيُمضي المرء عمرَه بقبول ما يُعارض قناعاته، مُرغَماً، خانعاً، صامتاً، مُحترقاً من الداخل وخارجه يتظاهر بالبرودة؛ في تلك الرقعة تقول الخطيئة إنها مطروحة بوصفها حَلّاً، ويدّعي التلطُّخ بالدم أنه انتقام مُحتَمل من اللاعدالة. فإذا بصوت فيروز «يا ريت ضوّينا هالقنديل العتيق بالقنطرة»، في ختام المواجهة يُخبر الضحيتين عما فات وانقضى أمره، مُلطّفاً بعذوبته خسائرهما الباهظة.

يحضُر الشام أسوةً ببيروت، أرضَ بهجةٍ وليلَ سهر، ثم ميدان نار مشتعلة، فيذكُر «ورد» ماضياً عتيقاً من عمق حاضره المُلتهب. ابنة المسرح «رهف» تعلّق حياتها على خشبة لم تطأها، بعد انصياع لوظيفة حوّلتها سجينة. بيروتها وشامُه، كلاهما المسرح الأكبر؛ أو السجن المريع. معضلةُ الإنسان والوطن، بارتباطهما المصيري وتبعاته الجنائزية، تأبى اكتمال الأشياء. يبقى المرء ناقصاً لأنّ أرضه تحترق، أو لأنه غريب، أو ضحية، أو رقماً بلا جدوى. «لا تندهي ما في حدا»، تقول الأغنية: «يا قلب آخرتا معك تعّبتني»، تتابع في ملامة وَقْع الألم على العضلة الخافقة.

من خلال 7 مَشاهد تعبُر «الخطايا السبع المميتة» (الشرق الأوسط)

مشهد «النهم» الصامت يرفع شأن العرض، جوعٌ وجوعٌ ومزيد منه، والمائدة خاوية! «ورد» يُبرهن مهارة في «الفَرم»، وهو التقطيع بعنف كأنه ثأر مما جرى (أو ترجمة لآثاره). و«رهف» تلتهم بلا اكتراث لتشوُّه النكهات تحت لسانها. بقدونس مع الفوشار، حدّ انقطاع النَفَس! خطيئة «النهم» تجسِّد أقصى الوجع. لا الحواس تمتلئ ولا الطعم يتحقّق. هذه الحياة على شكل وجبة تُسخَّن بعد فوات الأوان لتؤكد بؤس قدَرها. التهامها أشدُّ سوءاً من المعدة الخاوية. لا تُشبِع لكونها مُعذِّبة. في السجن الإنساني، وأمام سؤال «رهف»: «لِمَ لا أنال ما يناله سواي؟»، في سجن المقارنة والثقة المهزوزة، يطول «الجلوس في الصفر»، ويصبح الوطن البديل عن أوطان لا تنجب سوى بؤساء.


مقالات ذات صلة

سلوى محمد علي لـ«الشرق الأوسط»: لم أندم على أي دور

يوميات الشرق الفنانة المصرية سلوى محمد علي (صفحتها على فيسبوك)

سلوى محمد علي لـ«الشرق الأوسط»: لم أندم على أي دور

عدَّت الممثلة المصرية سلوى محمد علي تكريمها أخيراً في المهرجان القومي للمسرح «انتصاراً لجيلها» ولمسرح التسعينات في مصر.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق المخرجة رنين كسرواني تتمنى تحقيق أمنيتها عبر المسرحية (رنين كسرواني)

مسرحية «11:11» هل تتحقق الأمنية؟

يتفاءل البعض بأرقام متشابهة قد تصادفهم في يوم وشهر معينين، تلفت أنظارهم ويختارونها لتكون موعد حفل زفاف أو خطوبة، أو يغمضون أعينهم ويضمرون أمنية علّها تتحقق.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق العمل اعتمد على البطولة الجماعية (إدارة المهرجان القومي للمسرح)

«حاجة تخوّف»... الكشف درامياً عن المشاعر المظلمة داخلنا

رغم أن الخوف شعور إنساني طبيعي، فإن المبالغة في هذا الشعور تجعله عائقاً يحول دون انطلاقة الفرد، ويصيبه بـ«العجز النفسي»، وفق رسالة المسرحية المصرية.

رشا أحمد (القاهرة )
يوميات الشرق الممثلة مريم حسين في لقطة من مسرحية «ولادة منتظرة» التي عُرضت خلال حفل الافتتاح (الشرق الأوسط)

مسابقة «المسرحيات القصيرة»... عروض سعودية مُبهرة تتنافس على 12 جائزة

عاماً تلو الآخر، تشهد «مسابقة إثراء للمسرحيات القصيرة»، التي انطلقت فعاليات الدورة الرابعة منها هذا الأسبوع في مركز «الملك عبد العزيز الثقافي العالمي» (إثراء).

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق أكرم حسني (حسابه على انستغرام)

مسرحية «تطبق الشروط والأحكام» للعرض مجدداً في السعودية

ضمن فعاليات «جولة المملكة»، ينطلق الموسم الثاني من مسرحية «تُطبَّق الشروط والأحكام» بمدينة جدة.

داليا ماهر (القاهرة)

الفطرة الإنسانية بأعمال 14 فناناً في معرض بالإسكندرية

إحدى اللوحات ضمن المعرض (مكتبة الإسكندرية)
إحدى اللوحات ضمن المعرض (مكتبة الإسكندرية)
TT

الفطرة الإنسانية بأعمال 14 فناناً في معرض بالإسكندرية

إحدى اللوحات ضمن المعرض (مكتبة الإسكندرية)
إحدى اللوحات ضمن المعرض (مكتبة الإسكندرية)

في محاولة لاكتشاف أبعاد الفطرة الإنسانية، والبحث عن جذور البراءة والتلقائية، شارك 14 فناناً في معرض بعنوان «أول مرة #30»، المُقامة دورته الـ18 في قاعات مكتبة الإسكندرية، والمُستمر حتى 21 من أغسطس (آب) الحالي.

جميع الفنانين المُشاركين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً، وجاءت مشاركاتهم معبِّرةً عن تجارب متنوّعة في مجالات التصوير والنحت والحفر والرسم والخزف والتصوير الفوتوغرافي، عبر رؤى تشكيلية عن بداية الخلق وظهور الإنسان على الأرض.

ومن الأعمال المُشاركة، ما قدّمه الفنان إبراهيم عوض، مُستخدماً خامة الطين، إذ رآها تناسب تماماً فكرة منحوتاته التي تكشف ملامحها عن رغبة في العودة إلى أصل الحياة على الأرض، والخلاص من التشوُّهات المتراكمة في النفس البشرية عبر العصور.

مجموعة خزفية للفنانة دعاء عيد (مكتبة الإسكندرية)

بينما صوّر الفنان إيهاب فراج الإنسان في أطوار عدّة؛ مرة في سعيه للانعتاق من القيود والانطلاق لاكتشاف المجهول، وأخرى في تحرُّكه للحصول على قوت يومه. وقد استعان بصورة واحدة لشخص صنعه من المعدن، فارغ الطول، ذي ملامح حادّة، وجعله تارة محاطاً بشبكة عنكبوتية يسعى إلى تحطيمها، وأظهره تارةً بالشبكة عينها، ضمن وضعية مختلفة، ليبدو كأنه خارج على قارب يستخدمه في رحلة صيد ليكسب من خلاله لقمة عيشه.

انطلقت الدورة الأولى من المعرض عام 2006 لتجسيد فكرة جديدة لمشروع تحتضنه مكتبة الإسكندرية بعرض أعمال فنانين شباب أصحاب تجارب حديثة. وهو يختلف عن معارض الشباب الأخرى بإعطاء مساحة كبيرة لمشاركين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً لعرض تجاربهم باستفاضة، كأنّ كلاً منهم يحظى بفرصة إقامة معرض فردي خاص به.

لوحات حفر في معرض «أول مرة» (مكتبة الإسكندرية)

من الأعمال اللافتة أيضاً لوحات الفنان آدم موسى باللونين الأبيض والأسود، إذ بدت شخصياته كأنها منحوتات على سطح الأوراق؛ ملامحها بريئة وقد صوّرها بملابس شعبية كأنها قادمة من زمن قديم، تحاول استعادته من شرفاتها، بينما تنصت إلى مذياع يستعير وجوده من أثير بلا تشوّهات، بعيداً عن زمن مواقع التواصل.

الروح عينها تبدو في لوحة أخرى صوَّر فيها موسى طفلاً شارداً يجلس على كرسي في ساحة، بينما تبدو البيوت مختفيةً خلف غابة ضبابية تختلط فيها ملامح الأشياء والتفاصيل.

وإلى التصوير الفوتوغرافي، تنقلنا أعمال الفنان أحمد كوته بواقعيتها، فيصوّر مَشاهد حيّة من العاصمة المصرية، منها ما يُظهر جموع الزحام في محطة لمترو الأنفاق، فتبدو الشخصيات كأنها جزر منعزلة، كلٌ مشغول بنفسه. كما يتفاعل الظلّ والنور في اللوحات، ويترك تأثيراته في ملامح الشخوص.

وتبرز أعمال الفنانة دعاء عيد الخزفية المبهجة التي ركزت فيها على محبّة الحياة، فتبدو بخفّتها كأنها تطير في فضاء آمن، أو تنام في حراسة عرائس ملائكية، جعلت منظّمي المعرض، وفق الدكتور جمال حسني، مدير إدارة المعارض والمقتنيات بمكتبة الإسكندرية، يبرزون عرضها داخل القسم الخاص بها.

قال حسني لـ«الشرق الأوسط»: «تتجاور الأعمال لتُظهر حالة بانورامية تتنوّع في اتجاهات قدّمها فنانون جاءوا من محافظات مختلفة؛ من قنا والقاهرة والإسكندرية والغردقة، وقد حظي كل فنان بمساحة عرض كبيرة تظهر تجربته بشكل ناضج، وتتيح فرصة لرؤيتها بشكل شبه متكامل. ومن هذه الأعمال ما قدّمته دعاء عيد ضمن 4 مجموعات من الفخار الملوَّن».

جانب من معرض «أول مرة» (مكتبة الإسكندرية)

ولفت إلى أنّ «أعمال التصوير الفوتوغرافي من الأبيض والأسود التي شارك فيها أحمد كوته تُظهر نوعاً من دراما تتشكّل من تعانُق الضوء والظلّ الذي تُظهره لوحات تُصوّر جوانب من حياة البشر خلال سعيهم اليومي في القاهرة».

لقطة من افتتاح معرض «أول مرة» (مكتبة الإسكندرية)

وتحدّث حسني عن لوحات آدم موسى صاحب الـ18 عاماً، قائلاً: «تبدو فيها حرفيته وموهبته المدهشة في رسم الشخصيات الممتلئة بالمشاعر والانفعالات التي تختزنها أرواحها، وتظهر واضحة على ملامحها التي تعاني اغترابها ومحاولاتها للبحث عن لحظات للتحقُّق».