يوم كانت الموسيقى والفنون منافسة «رياضية» في الألعاب الأولمبية

خلال 10 دورات متتالية بين 1910 و1950 كانت الفنون جزءاً من المنافسات الأولمبية (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)
خلال 10 دورات متتالية بين 1910 و1950 كانت الفنون جزءاً من المنافسات الأولمبية (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)
TT

يوم كانت الموسيقى والفنون منافسة «رياضية» في الألعاب الأولمبية

خلال 10 دورات متتالية بين 1910 و1950 كانت الفنون جزءاً من المنافسات الأولمبية (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)
خلال 10 دورات متتالية بين 1910 و1950 كانت الفنون جزءاً من المنافسات الأولمبية (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)

يقتصر حضور الموسيقى في الألعاب الأولمبية بنسختها المعاصرة على حفلَي الافتتاح والختام، واللذين يستقطبان عشرات الملايين من المشاهدين من حول العالم. لكن في زمنٍ مضى، شكّلت الموسيقى، ومعها فنونٌ أخرى، جزءاً أساسياً من المباريات. فما بين دورتيْ ستوكهولم 1912 ولندن 1948، كانت المنافسات الفنية تسير بالتوازي مع المنافسات الرياضيّة.

رسم، نحت، موسيقى وغيرها

كان الفنانون يتقدمون إلى مباريات الألعاب الأولمبية، من خلال 5 فئات هي: الهندسة، والأدب، والرسم، والنحت، والموسيقى. أما الشرط الوحيد لتقديم أعمالهم إلى المنافسة، فكان وجوب ارتباطها بالموضوعات الرياضية. فالمهندسون، على سبيل المثال، كان يُطلَب منهم تنفيذ مجسّمات لمدن أو ملاعب رياضية. أما النحّاتون فكان بإمكانهم ابتكار منحوتات لرياضيين، أو حتى ميداليات، بينما كانت الأعمال الموسيقية المتنافسة تركّز على الأناشيد الحماسية والسيمفونيات التي تعكس روح الانتصار.

السياسي الألماني جوزف غوبلز زائراً متحف الفن الأولمبي خلال ألعاب برلين 1936 (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)

وكما في الرياضة، كذلك في الفنون، كانت تتولّى لجانٌ من الحكّام المحترفين تقييم الأعمال من لوحات، ومنحوتات، ورسوم، وأغان، ومقطوعات موسيقية، وغيرها. وعلى غرار الرياضيين الفائزين، كان يُكافأ الفنانون بالميداليات الذهبية، والفضية، والبرونزية. أما إذا وجد الحُكّام أن الأعمال غير مستحقّة، فكانوا يحجبون عنها الميداليات، الأمر الذي ليس من الممكن فعله في المباريات الرياضية.

هذا ما حصل في المباراة الموسيقية ضمن أولمبياد 1912، عندما اقتصرت الميداليات على ذهبية واحدة فاز بها المؤلّف الإيطالي ريكاردو بارتيليمي عن معزوفة «مارش الانتصار الأولمبي». أما في دورة 1932، والتي أقيمت في الولايات المتحدة الأميركية، فلم تُمنح أي ميدالية ذهبية أو برونزية عن فئة الموسيقى، وقد اقتصر الأمر على فضّية واحدة كانت من نصيب المؤلّف التشيكي جوزيف سوك عن معزوفته التي حملت عنوان «صوب حياة جديدة».

مَن أطلق التقليد؟

بعد انقضاء 1500 عام على انتهاء النسخة اليونانية من الألعاب الأولمبية، اتُّخذ القرار بإعادة إحياء تلك الألعاب، لكن بنُسخة عصرية. حدث ذلك عام 1896، وكانت للبارون الأرستقراطي الفرنسي بيير ده كوبرتان اليد الطولى في إطلاق الألعاب الأولمبية بنسختها الحديثة.

إلى جانب كونه شخصية مؤثّرة في المجتمع الأوروبي، كان كوبرتان مؤرّخاً ومدرّساً. وانطلاقاً من اهتماماته الثقافية، أصرّ على الحفاظ على البُعد الفني للألعاب الأولمبية؛ وذلك انطلاقاً من التقليد الذي كان سبق أن أرساه اليونانيون القدامى، والذي قضى بأن تُشكّل الفنون جزءاً لا يتجزّأ من الحدث الرياضيّ.

بيير ده كوبرتان مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة والذي أدخل الفنون إليها (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)

في تلك الآونة، واجه كوبرتان اعتراضاتٍ حادّة من قِبل زملائه في اللجنة التنظيمية، لكنّه أصرّ على موقفه. وفي الألعاب الأولمبية الصيفية، التي أقيمت في العاصمة السويديّة ستوكهولم عام 1912، رأى حُلمه يتحقق أخيراً بعد 16 عاماً من المحاولات الحثيثة. انضمّ الفنانون إلى المُتبارين الرياضيين، وجرى تقديم 33 عملاً فنياً آنذاك تنافست عن 5 فئات.

أبرز الإنجازات الفنية الأولمبية

ما بين عاميْ 1912 و1948، أيْ على مدى 10 دورات من الألعاب الأولمبية التي توزّعت بين أوروبا والولايات المتحدة واليابان، جرى توزيع 151 ميدالية عن فئات الموسيقى، والرسم، والأدب، والنحت، والهندسة.

لوحة جاك باتلر ييتز عن مباريات السباحة والفائزة بميدالية فضية في دورة 1924 (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)

وفي إطار المباريات الأدبيّة، كان يتقدّم الكتّاب المتنافسون بنصوصٍ مسرحيّة دراميّة، وملحميّة، وشعريّة باللغات التي يريدون. أما الموسيقى فكان من الممكن أن تكون أوركستراليّة، أو غنائيّة، ذات أداء منفرد أو جماعي. وتأكيداً لجدّيّة اللجنة الأولمبية في التعاطي مع الأمر، استقدمت أسماء بارزة من عالم الفنون للمشاركة في لجان التحكيم. ففي دورة 1924، على سبيل المثال، والتي أقيمت في فرنسا، كان المؤلّف الموسيقي الروسي المرموق إيغور سترافينسكي من بين الحكّام.

أما على ضفّة أبرز الفائزين عبر تلك السنوات، فقد تميّز الرسّام جان جاكوبي حائزاً في عامَيْ 1924 و1928 على ميداليتَين عن لوحتَين متعلّقتَين بالرياضة. ومن بين نجوم الألعاب الأولمبية الفنية، الكاتب الدنماركي جوزيف بيترسن، الذي فاز في كل من دورات 1924، و1932، و1948.

لوحة عن رياضة الرغبي للرسّام جان جاكوبي فازت في الألعاب الأولمبية عام 1928 (ويكيبيديا)

موروثاتٌ إغريقيّة

بالعودة إلى التقليد الذي أطلقه الإغريق في ألعابهم الأولمبية التاريخية، كانت المنافسات الفنية جزءاً لا يتجزأ من الألعاب اليونانية بنسختها القديمة، وكانت توازي في أهميتها المباريات الرياضية. أما أبرز المنافسات فكانت مباراة العزف على البوق. إلى جانب ذلك، برزت مباريات العزف على القيثارة، والتي غالباً ما كانت تترافق مع الغناء.

لاحقاً، أضيفت منافَساتٌ أخرى كنَظم الشعر وكتابة النثر، إلى جانب مباريات التمثيل عن فئتَي التراجيديا والكوميديا.

لوحة تجسّد تتويج الفائزين في الألعاب الأولمبية القديمة باليونان (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)

لماذا توارت الفنون من الأولمبياد؟

لم تعمّر المنافسات الفنية ضمن الألعاب الأولمبية طويلاً، فبعد دورة عام 1948 توارت إلى غير رجعة. ووفق المراقبين، الذين تابعوا الأمر على مرّ تلك السنوات، فإنّ السبب الأول يعود إلى عدم رغبة الأسماء الفنية الكبيرة؛ من موسيقيين ومغنّين ورسّامين وكتّاب، في المشاركة بالألعاب الأولمبية. لم يجد معظمهم من المنطقيّ المشاركة في منافسةٍ ذات هويّة غريبة عن عالم الفنون، كما كانت لديهم خشية من أن تتشوّه صورتهم بسبب احتمالات الخسارة الأولمبية.

لكن الفنون في الألعاب الأولمبية عموماً لم تختفِ بشكلٍ نهائيّ. فإضافةً إلى حفلات الافتتاح والختام، والتي ترتكز على الموسيقى والرقص، فقد جرى استبدال المعارض بالمباريات الفنية، وذلك بدءاً من دورة عام 1952، كما تتولّى «لجنة الإرث الثقافي الأولمبي» التسويق للأنشطة الفنية والثقافية المتصلة بالألعاب الأولمبية.

من الأعمال الفنية المعروضة في المتحف الأولمبي على هامش أولمبياد باريس 2024 (الموقع الرسمي للألعاب الأولمبية)

وإذا خرجت الفنون من إطار المنافسة الرسمية، فإنّ دورات الأولمبياد الحاليّة لا تخلو من المسابقات الفنية التي تدور على هامش الاحتفالية الرياضية. لكن في تلك الحالات، لا يُتوّج الفائزون بميداليات، بل يحصلون على مكافآت ماليّة، وعلى فرصة عرض أعمالهم، في إطار الحدث الرياضي العالمي.


مقالات ذات صلة

كو: لايلز يشكّل أهمية كبرى لألعاب القوى

رياضة عالمية رئيس الاتحاد الدولي سيباستيان كو (أ.ف.ب)

كو: لايلز يشكّل أهمية كبرى لألعاب القوى

قال سيباستيان كو، رئيس الاتحاد الدولي لألعاب القوى، إن سباق 100 متر للرجال في أولمبياد باريس الصيفي، أمس (الأحد)، كان أقرب ما يكون إلى الكمال.

«الشرق الأوسط» (باريس)
رياضة عالمية أوكا شينوسكي (أ.ف.ب)

«أولمبياد باريس - جمباز»: الياباني شينوسكي يفوز بذهبية العارضة الأفقية

فاز الياباني أوكا شينوسكي بالميدالية الذهبية في العارضة الأفقية «العُقلة» للرجال بمنافسات الجمباز في دورة الألعاب الأولمبية باريس 2024، الاثنين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
رياضة عالمية مدرب أستراليا للسباحة قال إن بعض سباحيه شاركوا في المنافسات وهم يعانون من عدوى «كورونا» (إ.ب.أ)

«أولمبياد باريس»: إصابة أكثر من 40 رياضياً أسترالياً بـ«كوفيد-19»

أصيب أكثر من أربعين رياضياً أسترالياً بعدوى «كورونا» وأمراض الجهاز التنفسي الأخرى خلال مشاركتهم في أولمبياد باريس 2024.

«الشرق الأوسط» (باريس)
رياضة عالمية نواه لايلز (أ.ف.ب)

أولمبياد باريس: لايلز هو من بحثت عنه ألعاب القوى من أجل استعادة حقبة بولت

عاشت ألعاب القوى حقبة من الفراغ منذ اعتزال الجامايكي الأسطوري أوسين بولت عام 2017، وذلك حتى جاء الأميركي نواه لايلز ليملأ الفراغ.

«الشرق الأوسط» (باريس)
رياضة عالمية شوني ميلر-ويبو (رويترز)

«أولمبياد باريس»: انسحاب ميلر-ويبو... وفشل كولر في تصفيات ألعاب القوى

انسحبت البطلة الأولمبية شوني ميلر-ويبو من جزر الباهاما من تصفيات سباق 400 متر لعدو السيدات ضمن منافسات ألعاب القوى في أولمبياد باريس 2024 وفشلت في إنهاء السباق.

«الشرق الأوسط» (باريس)

إنارة الشوارع ليلاً تُبطل تلذُّذ الحشرات بأكل أوراق الشجر

الإنارة تُنغّص «موائد» الحشرات (شاترستوك)
الإنارة تُنغّص «موائد» الحشرات (شاترستوك)
TT

إنارة الشوارع ليلاً تُبطل تلذُّذ الحشرات بأكل أوراق الشجر

الإنارة تُنغّص «موائد» الحشرات (شاترستوك)
الإنارة تُنغّص «موائد» الحشرات (شاترستوك)

خلُص علماء إلى اعتقاد مفاده أنّ الضوء الاصطناعي قد يؤثر في البيئة الطبيعية للحياة النباتية عبر خَلْق عملية التمثيل الضوئي على مدار فترة ممتدّة.

وتوصّلت دراسة إلى أنّ ترك أضواء الشوارع مضاءة طوال الليل يتسبّب في وصول أوراق الأشجار إلى درجة من الصلابة، تجعل من المتعذِّر على الحشرات التهامها، الأمر الذي يُشكل تهديداً للسلسلة الغذائية.

ولاحظ العلماء أنّ تضرّراً من الحشرات يَظهر على الأشجار داخل النُّظم البيئية الحضرية أقل بكثير عن مثيلاتها في النُّظم البيئية الريفية. وأضاء البحث المنشور في دورية «فرونتيرز إن بلانت ساينس»، والذي نقلته «الغارديان»، على سبب مُحتمل وراء هذا التباين.

من جهته، قال القائم على الدراسة، شوانغ زهانغ، من الأكاديمية الصينية للعلوم: «لاحظنا أنه مقارنة بالنُّظم البيئية الطبيعية، فإنّ أوراق الأشجار في معظم النُّظم البيئية الحضرية تُظهر إجمالاً قليلاً من علامات الضرر الناجمة عن الحشرات، وراودنا الفضول لمعرفة السبب».

وأضاف: «في اثنين من أكثر أنواع الأشجار شيوعاً ببكين، أدّى الضوء الاصطناعي ليلاً إلى زيادة صلابة الأوراق وانخفاض مستويات أكل الأعشاب».

كان للضوء الاصطناعي من مصابيح الشوارع تأثير مدهش في أوراق الأشجار التي دُرِست. واختبر العلماء نوعين شائعين من أشجار الشوارع في العاصمة الصينية: أشجار الباغودا اليابانية وأشجار الرماد الخضراء؛ تتميّز الأولى بأوراق أصغر وأكثر نعومة تُفضّل الحشرات تناولها. واعتقد الباحثون أنّ النباتات في المناطق ذات المستويات العالية من الضوء الاصطناعي، قد تُركز على الدفاع بدلاً من النمو، مما يعني أنّ أوراقها ستكون أكثر صلابة، مع مزيد من المركَّبات الدفاعية الكيميائية.

ولاختبار الأشجار، اعتمدوا على 30 موقعاً لأخذ العيّنات على الطرق الرئيسية التي تُضاء عادةً بمصابيح الشوارع طوال الليل. وقاس العلماء مستوى الإضاءة في كل موقع، ثم اختبروا أوراق الأشجار للصلابة. وفي الإجمالي، اختبروا نحو 5500 ورقة لجهة خصائص الحجم والصلابة ومحتوى الماء ومستويات العناصر الغذائية والدفاعات الكيميائية...

عندما تكون الأوراق أكبر، فإنّ هذا يشير إلى أنّ النباتات وجّهت طاقتها إلى نمو الأوراق. أما إذا كانت صلبة وتحتوي على التانينات أو الدفاعات الكيميائية الأخرى، فهذا يشير إلى أنها خصَّصت طاقتها للدفاع عن نفسها.

واكتشفوا أنه كلما زادت الإضاءة، زادت صلابة الأوراق. وفي أكثر المناطق إضاءة ليلاً، كانت الأوراق صلبة جداً، ولم تَظهر أي علامة على وجود حشرات تمضغها.

وإذ لم يدرك الباحثون تماماً سبب حدوث ذلك؛ اعتقدوا أنّ الأشجار المُعرَّضة للضوء الاصطناعي يمكن أن تَطول مدّة التمثيل الضوئي لديها.

ومع أنّ الشجرة ذات الأوراق السليمة قد تكون أكثر متعة للبعض للنظر إليها، فإنّ هذا قد يكون مؤشّراً سيئاً يخصّ النظام البيئي.

عن ذلك، قال زهانغ: «الأوراق الخالية من أضرار الحشرات قد تجلب الراحة للناس، لكن ليس للحشرات. وينبغي الانتباه إلى أنّ أكل الأعشاب عملية بيئية طبيعية تحافظ على التنوُّع البيولوجي للحشرات».

وأضاف: «يمكن أن يؤدّي انخفاض معدّلات أكل الأعشاب إلى تداعيات متتالية على النظام البيئي، منها تراجُع أعداد الحشرات العاشبة، ما قد يؤدّي بدوره إلى انخفاض أعداد الحشرات المفترسة، والطيور آكلة الحشرات، وما إلى ذلك. تراجُع الحشرات نمط عالمي لوحظ على مدى العقود الأخيرة. وينبغي أن نولي هذا الاتجاه مزيداً من الاهتمام».