فيلم «نورة»... «طبطبة» سينمائية على متذوّقي الفنّ

صور الصراع بين الفنان ومجتمعه

يعقوب الفرحان في دور الرسام غريب الأطوار الذي يقاوم قيود البلدة (الشرق الأوسط)
يعقوب الفرحان في دور الرسام غريب الأطوار الذي يقاوم قيود البلدة (الشرق الأوسط)
TT

فيلم «نورة»... «طبطبة» سينمائية على متذوّقي الفنّ

يعقوب الفرحان في دور الرسام غريب الأطوار الذي يقاوم قيود البلدة (الشرق الأوسط)
يعقوب الفرحان في دور الرسام غريب الأطوار الذي يقاوم قيود البلدة (الشرق الأوسط)

سجل فيلم «نورة» السعودي تجربةً جديدةً وخروجاً عن النمط السائد ظهر في تناوله عوالم الفن وما يمر به الفنان التشكيلي من تحديات ومشاعر مضطربة. «نورة» الذي يعرض حالياً في صالات السينما السعودية كان قد حصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم خلال الدورة 77 من مهرجان كان السينمائي، الشهر الماضي.

يدور الفيلم في فلك الفن، متنقلاً ما بين الرسم والموسيقى والتصوير، ويتطرق إلى الصراع الدائم ما بين الحداثة والتقليد، الذي يواجه الفنان في كل زمان ومكان. اختار الكاتب والمخرج توفيق الزايدي عام 1996 ليكون زمان القصة، أي قبل نحو 3 عقود (حين كان التعاطي مع الفن مسألة شائكة لاعتبارات دينية وعُرفية كانت حاضرة آنذاك) في بلدة نائية يخشى سكانها مظاهر التمدّن مثل التخوّف من دخول الكهرباء، والاستخفاف بالتعليم، ورفض الفنون.

فضّل الزايدي ألا يُسمي هذه البلدة الافتراضية، إلا أن المُشاهد يستطيع فهم ملامح هذا العالم الساكن في بلدة صحراوية تراوح مكانها وكأن الحياة متوقفة فيها منذ سنوات طويلة، في حالة انعزال تام عما يحدث في المدينة من تطوّر ونهضة وتحوّلات متسارعة.

يُعرض الفيلم حالياً في دور السينما السعودية (الشرق الأوسط)

«نورة» والفن

يصور الفيلم الصراع بين بطلة الفيلم نورة (ماريا بحراوي) والمحيطين بها، فهي فتاة تقدّر الفن، وتضطر للانزواء في غرفتها لتتصفح المجلات الفنيّة خِلسة، وتُدمن سماع أغنية الفنان راشد الماجد «شرطان الذهب»، وهي أغنية صدرت عام 1994. يصورها الفيلم تتمايل على أنغامها في أحد المشاهد، مما يعكس بحثها عن المتعة في بقعة جغرافية مليئة بالمحظورات. دلالات «شرطان الذهب» لا تقتصر على إيقاعها الراقص فحسب، بل بكلماتها الغزليّة التي تعكس ثقة البطلة العالية بنفسها وسط فئة تحاول تهميشها لمجرد كونها أنثى. تقاوم نورة هذه المحاولات، وتتصادم مع أقاربها، وتصر على كسر القيود التي تكبّل حريتها.

يعقوب الفرحان في دور الرسام نادر في الفيلم (الشرق الأوسط)

وسط هذه الحياة الرتيبة، يظهر المعلم الجديد نادر (يعقوب الفرحان)، ابن المدينة المحمّل بالأفكار التنويرية، الذي يؤمن بضرورة الفن. يظهر بلباس مختلف يستنكره أهل البلدة فيطلبون منه أن يحضر لمجالسهم بالثوب بدلاً من البنطال والقميص الذي اعتاد عليه. يعبر نادر عن نفسه بعيداً عن أنظار الجميع، فيتناول السجائر خلسةً، ويرسم لوحاته بعيداً عن أنظار الأهالي الذين سموه «الغريب»، وعدّوه مختلفاً عنهم.

تنبع الاختلافات ما بين نورة ونادر في اختلاف وعيهما بالفن، بين من يمارسه ومن يتذوقه، حيث تستنكر نورة أن يرسم بالقلم الرصاص، لتعلم لاحقاً أن «الاسكتش» مرحلة من مراحل الرسم، كما تتعلم أن اللوحة تستغرق وقتاً حتى تكتمل، وهي بديهيات غابت عن الفتاة التي عاشت وسط مجتمع يستخف بالفن ولا يعيره أي اهتمام.

أما نادر فيحاول الهروب من القيود في مرسمه السري، نافثاً دخان سجائره التي يتناولها طيلة الوقت، في حالة من العبثية وعدم الاكتراث تجاه كل المفارقات التي يراها أمامه، ما بين انفتاح المدينة وانغلاق البلدة.

ماريا بحراوي في دور نورة حيث تحاول إظهار عينيها ليتمكن نادر من رسمها (الشرق الأوسط)

الإنسان والفن

حاول الفيلم توظيف هذه المتناقضات في قصة المخرج توفيق الزايدي، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»، في حديث سابق، إن الفيلم يحاول فهم العلاقة ما بين الإنسان والفن، مضيفاً: «تشغلني كثيراً علاقة الإنسان بالأشياء من حوله، بما فيها الفن. هذا منطلقه إيماني بأنّ الفن هو الوحيد القادر على مخاطبة عقل الإنسان، من دون أي تدخّل خارجي».

استطرد الزايدي في شرح فكرته، قائلاً: «عند سماع الموسيقى أو تأمُّل لوحة، فإننا نتوحّد مع هذا العمل. وحده الفن يخاطب الفرد بشكل اتّحادي، خصوصاً في زمن التسعينات حيث كان وسيلة الاتصال والتعبير».

يتقاطع «نورة» في قصته مع أفلام غربية شهيرة، مثل فيلم «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» من بطولة سكارليت جوهانسن، الذي دار حول الفتاة «غرييت» التي خلدها الرسام الهولندي يوهانس فيرمير في واحدة من أشهر لوحاته.

في الفيلمين، كانت البطلة مُلهمةً، إما عمداً أو بمحض الصدفة، إلا أن الرسّام في «نورة» لم يحظ بشهرة عالمية كالتي حصل عليها فيرمير، مع اختلاف ماهية العلاقة ما بين الرسّام والفتاة في «نورة»، حيث كانا من المنغمسين بالفن، تحديداً رسم البورتريه، إلى أن يلتقيا وتسير القصة في اتجاه مختلف، لفتاة ممتلئة بالفضول وفنان لا يكترث لقوانين البلدة المنغلقة.

صحراء العُلا

فيلم «نورة» يعد أول فيلم سعودي روائي طويل يصور في صحراء العُلا، ركز فيه المخرج الزايدي على إظهار جمال هذه البقعة الجغرافية، حيث تبتعد الكاميرا في معظم الأوقات ليرى المشاهد اتساع الصحراء وجبالها ذات الأشكال الفريدة، خصوصاً وأن المساكن والدكاكين الظاهرة في البلدة جاءت متباعدة، بلا شوارع وأرصفة، مما يجعل العين مركزة على الصحراء بوصفها المكان الأوضح في العمل. ولأن الزايدي اختار فترة زمنية كانت شحيحة في طرق التواصل، حيث لا يوجد هاتف محمول ولا شبكة إنترنت في السعودية خلال منتصف التسعينات من القرن الماضي، فإن ذلك أعطى روحاً مختلفةً للعمل الذي وصفه بأنه «من أفلام السفر عبر الزمن، فيشعر المُشاهد كأنه انتقل إلى تلك الحقبة».


مقالات ذات صلة

فيلم «الجوكر2»... مزيد من الجنون يحبس أنفاس الجمهور

سينما يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)

فيلم «الجوكر2»... مزيد من الجنون يحبس أنفاس الجمهور

يخرج آرثر فليك (واكين فينيكس) من زنزانته، عاري الظهر، بعظام مقوّسه، يسحبه السجانون بشراسة وتهكّم...

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق يشجّع المهرجان الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما (الشرق الأوسط)

الشيخة جواهر القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: الأفلام الخليجية تنمو والطموح يكبُر

الأثر الأهم هو تشجيع الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما، ليس فقط عن طريق الإخراج، وإنما أيضاً التصوير والسيناريو والتمثيل. 

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق صورة تذكارية لفريق عمل مهرجان «الجونة» (إدارة المهرجان)

فنانون ونقاد لا يرون تعارضاً بين الأنشطة الفنية ومتابعة الاضطرابات الإقليمية

في حين طالب بعضهم بإلغاء المهرجانات الفنية لإظهار الشعور القومي والإنساني، فإن فنانين ونقاد رأوا أهمية استمرار هذه الأنشطة وعدم توقفها كدليل على استمرار الحياة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق البرنامج يقدم هذا العام 20 فيلماً تمثل نخبة من إبداعات المواهب السعودية الواعدة (مهرجان البحر الأحمر)

«سينما السعودية الجديدة» يعكس ثقافة المجتمع

أطلق مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي برنامج «سينما السعودية الجديدة»؛ لتجسيد التنوع والابتكار في المشهد السينمائي، وتسليط الضوء على قصص محلية أصيلة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما ألفرد هيتشكوك (يونيڤرسال بيكتشرز)

ألفرد هيتشكوك... سيد التشويق وسينما الألغاز

تعرِض منصة «نتفليكس» الأسبوع الحالي فيلمين متميّزين من أفلام المخرج ألفرد هيتشكوك الذي لم يوازِه أحد بعد في مجال الرّعب والتشويق واللعب على الغموض.

محمد رُضا‬ (لندن)

معرض في سويسرا يحتضن آثار غزة: تدميرها المُتعمَّد «جريمة حرب»

الإرث مرايا الشعوب (أ.ف.ب)
الإرث مرايا الشعوب (أ.ف.ب)
TT

معرض في سويسرا يحتضن آثار غزة: تدميرها المُتعمَّد «جريمة حرب»

الإرث مرايا الشعوب (أ.ف.ب)
الإرث مرايا الشعوب (أ.ف.ب)

تُبرز عشرات القطع الأثرية المُستخرجة من أرض غزة، هوية القطاع الذي يعاني الحرب منذ نحو سنة، من خلال معرض في سويسرا بعنوان «تراث في خطر».

ويستضيف متحف جنيف للفنون والتاريخ معرضاً يضمّ 44 قطعة من غزة، مملوكة للسلطة الفلسطينية، من بينها جِرار وتماثيل صغيرة وشواهد مقابر ومصابيح زيت، إلى جانب بضع عشرات من القطع الأثرية الأخرى من السودان وسوريا وليبيا.

ورأت أمينة المعرض الذي يُقام من 5 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي إلى 9 فبراير (شباط) المقبل، بياتريس بلاندان، أنّ «هذه المعروضات جزء من روح غزة، إنها الهوية»، مؤكدة أنّ التراث «هو في الواقع تاريخ هذا القطاع، وتاريخ الناس الذين يسكنونه».

وتشكّل القطع الـ44 جزءاً من مجموعة واسعة تضم أكثر من 530 قطعة محفوظة داخل صناديق في حظيرة آمنة بجنيف منذ عام 2007، وفق «وكالة الصحافة الفرنسية».

هذه المعروضات جزء من روح غزة (أ.ف.ب)

ويُقام المعرض بمناسبة الذكرى الـ70 لتوقيع معاهدة لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلّح، ويركّز على مسؤولية المتاحف في حماية الممتلكات الثقافية بمواجهة التدمير والنهب والصراعات، ويذكّر بأنّ التدمير المتعمد للتراث يُعَدُّ جريمة حرب.

ولاحظ عضو السلطة التنفيذية لمدينة جنيف، ألفونسو غوميز، أنّ «القوى الظلامية أدركت أنّ الممتلكات الثقافية هي مسألة حضارية؛ لأنها لم تتوقّف يوماً عن الرغبة في تدمير هذا التراث، كما هي الحال في الموصل».

أما مدير متحف جنيف للفنون والتاريخ، مارك أوليفييه والر، فأسف لكون «معتدين كثر يعمدون في حالات النزاعات إلى المسّ بالتراث الثقافي؛ لأنّ ذلك يعني طبعاً محو هوية شعب وتاريخه». لكنه شدَّد على أنّ «ثمة متاحف وقواعد واتفاقات تحمي هذا التراث لحُسن الحظّ».

ودفعت المواقع الثقافية ثمناً باهظاً منذ الهجوم العسكري الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة رداً على العملية التي نفذتها حركة «حماس» الفلسطينية في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

التراث هو تاريخ الناس الذين يسكنون القطاع (أ.ف.ب)

ورصدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) أضراراً لحقت بـ69 موقعاً ثقافياً منذ بداية الحرب حتى 17 سبتمبر (أيلول) الماضي، استناداً إلى صور الأقمار الاصطناعية، من بينها 10 مواقع دينية و7 أثرية، و43 مبنى ذا أهمية تاريخية و/أو فنية، و6 نصب، ومستودعان للأغراض الثقافية، ومتحف واحد.

وشدّد المتحف على أنّ «القيمة التراثية لقطع غزة المحفوظة في جنيف تبدو أكبر»؛ نظراً إلى أنّ التراث الثقافي الفلسطيني أصبح راهناً «ضحية للتدمير أكثر من أي وقت مضى».

وأُحضرت هذه الآثار التي توضح جوانب من الحياة اليومية المدنية والدينية من العصر البرونزي إلى العصر العثماني، إلى جنيف عام 2006 لعرضها في معرض بعنوان «غزة على مفترق طرق الحضارات»؛ افتتحه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

وكانت هذه القطع ملكاً للسلطة الفلسطينية ولرجل الأعمال الفلسطيني جودت الخضري الذي باع تلك العائدة إليه عام 2018. لكنّ هذه القطع التي كان من المقرّر أن تشكل في المستقبل مجموعة المتحف الأثري في غزة، بقيت لـ17 عاماً عالقة في جنيف؛ إذ لم يتسنَّ يوماً توفير الظروف الملائمة لإعادتها إلى القطاع بأمان.

المسّ بالتراث محو هوية شعب وتاريخه (أ.ف.ب)

علّقت بلاندان: «في الوقت الذي كان مقرراً فيه نقلها مجدّداً إلى غزة، طرأت سيطرة (حماس) على القطاع، وحصلت توترات جيوسياسية بين فلسطين وإسرائيل». ولاحظت أنّ هذه العرقلة التي شاءتها الظروف أتاحت في الواقع إنقاذ قطع «ذات أهمية كبرى»، في حين «دُمِّرَت كامل مجموعة الخضري الخاصة التي بقيت في غزة».

وتعهّدت سلطات جنيف بموجب اتفاق تعاون جديد وقّعته في سبتمبر الماضي مع السلطة الفلسطينية الاعتناء بهذا التراث لأطول مدة ممكنة.

وسبق لمتحف جنيف للفنون والتاريخ أن استُخدم عام 1939 ملجأ لأهم كنوز متحف برادو وعدد من المجموعات الكبرى الأخرى في إسبانيا التي أخرجها الجمهوريون الإسبان من بلدهم بالقطار.

واستضافت جنيف العام الماضي معرضاً للأعمال الأوكرانية. كذلك دعمت سويسرا، بالتعاون مع دول أخرى، أكثر من 200 متحف في أوكرانيا، لمساعدتها في الحفاظ على مجموعاتها بعد الغزو الروسي في فبراير 2022.