هادي يزبك يضمّد جراح بيروت بالريشة والألوان

معرض عن العاصمة هو الأول في مسيرة الرسّام اللبناني الممتدّة 4 عقود

لوحة العصفور وتمثال المغترب اللبناني بريشة هادي يزبك (الشرق الأوسط)
لوحة العصفور وتمثال المغترب اللبناني بريشة هادي يزبك (الشرق الأوسط)
TT

هادي يزبك يضمّد جراح بيروت بالريشة والألوان

لوحة العصفور وتمثال المغترب اللبناني بريشة هادي يزبك (الشرق الأوسط)
لوحة العصفور وتمثال المغترب اللبناني بريشة هادي يزبك (الشرق الأوسط)

يستريح طيرٌ على زجاج شبّاكٍ بيروتيّ مكسور، يراقب «تمثال المغترب» المواجه للمرفأ. يتساءل: «هل أفعل مثله وأحلّق خلف أسوار المدينة؟ أم أبقى هنا واقفاً فوق الحطام؟». هكذا يحاكي هادي يزبك عاصمته التي لم يَزُرها رسماً طوال 38 عاماً أمضاها في المجال.

تخصّص الفنان اللبناني في رسم القرية اللبنانية، وبعد 4 عقود قرّر النزول بريشتِه إلى المدينة. جال في أقضية البلد كلّها، حفظ جغرافيا القرى اللبنانية ببيوتها الحجريّة القديمة وقرميدها حيث أعشاش السنونو. «رسمتُ لبنان كلّه، بحفافيه، والطيّون، وقنّ الدجاج، وقطف الزيتون»، يخبر يزبك «الشرق الأوسط». أما اليوم فقد حان موعد أداء التحيّة لبيروت، ليس لأنها جريحة فحسب، بل لأنها قبل أي شيء، جميلة وتستحقّ أن تُرسَم لوحة.

الرسّام اللبناني هادي يزبك في مرسمه (الشرق الأوسط)

صحيح أنّ تفجير المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020 كان المحرّض الأساسيّ على تخصيص معرض هو الأوّل لبيروت في مسيرة الفنان، إلّا أنّ المناسبة لم تتحوّل إلى مَرثيّة واللوحات ليست بكائيّات. عشيّة افتتاح معرض «بيروت ثمّ بيروت» في متحف «بيت بيروت»، يسترجع يزبك الألم الذي أصابه بعد التفجير؛ «الظلم الذي تعرّضت له العاصمة آلمني، لكنه حفّزني على مداواة جراحها على طريقتي، بالريشة والألوان».

تطلّب اختمارُ الفكرة في رأسه 4 سنوات، وبين مَرسَم البيت والمرسَم الذي استحدثه في مكتب العمل، حضّر 20 لوحة خلال الأشهر الـ9 المنصرمة. فالرسّام «مختار» في بلدته، يتولّى متابعة معاملات السكّان الرسميّة. «تأخذ المخترة كثيراً من وقت الرسم، خصوصاً أنها التزامٌ معنويّ فقد ورثتُ خدمة الناس عن أبي وأجدادي. أنا أمثّل الجيل الرابع من سلالة مخاتير عمرُها 130 سنة»، يشرح يزبك.

معرض «بيروت ثم بيروت» في متحف «بيت بيروت» في 21 و22 يونيو

وبما أن الناس هي روحُ البلاد، فقد اختار يزبك من بيروت روحَها وليس الخراب، ولا ناطحات السحاب، ولا الأحياء الجديدة. هنا بائع الكعك وعربته الخشبيّة الخضراء أمام سينما «ريفولي» الأسطورية في ساحة الشهداء. وهناك الدكاكين الصغيرة في الأحياء المَنسيّة... «هذه هي بيروت التي أردتُ أن آخذ زوّار المعرض إليها. أدعوهم إلى ذكرياتي عن مدينةٍ أليفة لطالما قصدتُها طفلاً برفقة أمّي».

لوحة تجسّد بائع الكعك أمام سينما «ريفولي» في ساحة الشهداء (الشرق الأوسط)

رغم لوحات الحنين إلى بيروت «الزمن الجميل»، لا يغيّب يزبك ندوب المدينة عن المعرض. يستوقف الزائر بيانو محطّم على شرفةٍ مشلّعة، مطلّة على أهراءات القمح في مرفأ بيروت. هذه اللوحة هي الأقرب إلى توثيق تراجيديا الرابع من أغسطس. ثم تطلّ غيمةٌ محمّلةٌ بالغضب، تشبه كثيراً السحابة الثقيلة التي خلّفها التفجير. يوضح يزبك أنه مرّرَ بعض الرسائل عن الحادث الأليم، لكنه لم يحصر المعرض كلّه به.

لوحة تحاكي تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 (الشرق الأوسط)

تتلاقى تدرّجات الألوان وتدرّجات المشاعر، من رماديّ الحزن وأحمر الغضب، إلى أزرق الأمل وأبيض السكينة. يحكي المعرض قصة صغيرة مترابطة عن بيروت بكل أمزجتها، وحالاتها، وأزمنتِها. يقول يزبك إنها «وجهة نظر جديدة وخاصة جداً عن المدينة. وثّقتُها بأسلوبي، ألَماً وفرحاً وذكريات».

تتنوّع اللوحات ما بين زيتيّة و«أكريليك»، أما الأسلوب فواقعيّ وليس تجريدياً، إذ ينتمي هادي يزبك إلى المدرسة الانطباعيّة. وحتى عندما تُلاعب ريشته التفاصيل، فهي تحافظ على هذا الهامش الواقعيّ الذي لا تستغربه العين.

صخرة الروشة التاريخية بريشة هادي يزبك (الشرق الأوسط)

يأخذ من صخرة الروشة الشهيرة جزءاً، فيُفرد ما تبقّى من مساحة على اللوحة للأفق الأزرق الممتدّ في الخلفيّة وللمياه التي تحتضن الصخرة منذ آلاف السنين. أما كورنيش المنارة، فيصوّره تحت المطر، من خلف زجاج سيّارة بلّلته القطرات. يُبقي هامشاً للمتلقّي كي يسرح في خياله. يستذكر ما قاله له مرةً الأديب اللبناني الراحل توفيق يوسف عوّاد: «أنت ترسم كما أكتب... تُبقي النافذة مواربة حتى يشغّل المتفرّج مخيّلته».

كورنيش المنارة تحت المطر (الشرق الأوسط)

تخصّص يزبك (67 عاماً) بالرسم في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية في بيروت، ثم انتقل إلى كندا حيث درس النحت. نال نصيبَه من الغربة، فأمضى سنوات في كندا. فيها أقام أبرز معارضه، ثم حمل القرية اللبنانية إلى بلادٍ كثيرة من بينها فرنسا، والولايات المتحدة الأميركية، والإمارات، وقطر، ومصر. لكن لم يجد بديلاً للمستقَرّ عن لبنان؛ «يكفي أن تنظري إلى لوحاتي حتى تُدركي كم أنا مسكون بالبلد».

نموذج عن البيوت اللبنانية التقليدية التي أمضى يزبك 4 عقود في رسمها (الشرق الأوسط)

يتابع نشاطه في الخارج وهو يحاول أن ينقل هذا الحب إلى الجالية اللبنانية في الاغتراب. غالباً ما كانت النتيجة لحظاتٍ مؤثّرة لا يستطيع محوَها من ذاكرته. كما في ذاك المعرض في مدينة هاليفاكس الكنَديّة، حين تفاجأ مغتربٌ لبنانيّ بمنزل والده مرسوماً في إحدى اللوحات. يخبر يزبك كيف انهمرت الدموع من عينَي الرجل، وبدأ يشرح لأولاده عن البيت الحجريّ القديم الذي احتضنه طفلاً في إحدى قرى شمالي لبنان. ولا يقتصر الاهتمام بلوحات يزبك على أصحاب الجنسية اللبنانية، فالزوّار العرب يتفاعلون معها كذلك كما أنهم يسارعون إلى اقتنائها.

فور انتهائه من معرض «بيروت ثم بيروت»، يعود يزبك إلى مرسمه ليُعدّ مجموعة جديدة عن القرية اللبنانية. يحملُها إلى كندا في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، حيث يعرضها هناك بدعوة من السفير اللبناني. أما المواعيد مع بيروت فستتجدّد، إذ يؤكّد أنه يخطط لسلسلة معارض خاصة بالعاصمة.


مقالات ذات صلة

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

يوميات الشرق بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

فنان الغناء الحزين يضحك لإدراكه أنّ الحياة خليط أفراح ومآسٍ، ولمّا جرّبته بامتحانها الأقسى وعصرت قلبه بالفراق، درّبته على النهوض. همست له أن يغنّي للجرح ليُشفى.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق سمير روحانا خلال حفل بعلبك (المصدر منصة إكس)

شربل روحانا والثلاثي جبران مع محمود درويش يعزفون على «أوتار بعلبك»

الجمهور جاء متعطشاً للفرح وللقاء كبار عازفي العود في العالم العربي، شربل روحانا وفرقته، والثلاثي جبران والعازفين المرافقين.

سوسن الأبطح (بيروت)
العالم العربي طائرتان تابعتان للخطوط الجوية السويسرية (أرشيفية - رويترز)

«لوفتهانزا» و«الخطوط السويسرية» تمدّدان تعليق الرحلات إلى تل أبيب وطهران وبيروت

أعلنت شركة الطيران الألمانية (لوفتهانزا)، الخميس، تمديد تعليق رحلاتها إلى تل أبيب وطهران حتى الرابع من سبتمبر (أيلول) بسبب الأحداث الجارية في المنطقة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الفنانة إليسا أعلنت اعتزالها وتراجعت عنه (فيسبوك)

قرارات اعتزال الفنانين تأتي إما لعجز وإما لصدمة

المسيرة تتوقف عادة عند التقدم في العمر و«العجز في الحركة» أو بسبب صدمات نفسية يتعرض لها الفنانون، فيتفرغون للتعبد الصلاة.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق شربل روحانا مع الفرقة السداسية (فيسبوك الفنان)

حفل «أوتار بعلبك»... سهرة تروي حكاية الفرح والألم

رغم الأوضاع الصعبة أصرّت لجنة مهرجانات بعلبك على أنها يجب أن تكون حاضرة في الموسم الصيفي ولو بحفلة واحدة، ولتكن في بيروت، ما دام عزّت إقامتُها بمدينة الشمس.

سوسن الأبطح (بيروت)

مصر: مهرجان «العلمين الجديدة» يختتم بعد 50 يوماً من السهر

ويجز في حفل ختام مهرجان العلمين (إدارة المهرجان)
ويجز في حفل ختام مهرجان العلمين (إدارة المهرجان)
TT

مصر: مهرجان «العلمين الجديدة» يختتم بعد 50 يوماً من السهر

ويجز في حفل ختام مهرجان العلمين (إدارة المهرجان)
ويجز في حفل ختام مهرجان العلمين (إدارة المهرجان)

اختتم مهرجان «العلمين الجديدة» نسخته الثانية بحفل غنائي للمطرب المصري الشاب ويجز، الجمعة، بعد فعاليات متنوعة استمرت 50 يوماً، ما بين حفلات غنائية وموسيقية وعروض مسرحية، بالإضافة إلى أنشطة فنية ورياضية متعددة.

وشهدت النسخة الثانية تعاوناً بين إدارة المهرجان والهيئة العامة للترفيه، ممثلة في إدارة «موسم الرياض»، بتقديم عروض مسرحية في العلمين قادمة من «موسم الرياض»، من بينها مسرحيات «السندباد» لكريم عبد العزيز، ونيللي كريم، و«التلفزيون» لحسن الرداد، وإيمي سمير غانم، إلى جانب حفلات غنائية منها حفل الفنان العراقي كاظم الساهر.

ومنحت الشراكة بين «موسم الرياض» و«العلمين الجديدة»، زخماً كبيراً للفعاليات، حسب الناقد الفني المصري محمد عبد الرحمن، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «تقديم العروض المسرحية يُعدّ من أهم الإضافات التي شهدها المهرجان في نسخته الثانية العام الحالي، خصوصاً مع وجود نجوم كبار شاركوا في هذه العروض».

عمر خيرت مع إسعاد يونس ضمن فعاليات المهرجان (إدارة المهرجان)

وأضاف عبد الرحمن أن «من بين الأمور المميزة في العروض التي تضمّنها المهرجان عدم اقتصار المسرحيات على النجوم، ولكن أيضاً على الشباب، على غرار مسرحيتي (الشهرة)، و(عريس البحر)، وهما العرضان اللذان لاقيا استحسان الجمهور، ما انعكس في نفاد تذاكر المسرحيات خلال ليالي العرض».

يدعم هذا الرأي الناقد الفني خالد محمود، الذي يشير إلى أهمية التعاون بين الجانبين بما ينعكس إيجاباً على المحتوى الفني المقدم للجمهور، مشيراً إلى أن «في النسخة الثانية من مهرجان (العلمين الجديدة) تحقق جزء كبير من الأحلام والطموحات التي جرى الحديث عنها بعد انتهاء الدورة الأولى، عبر مشاركة نجوم عرب في الحفلات على غرار ماجدة الرومي، وكاظم الساهر، بعد غياب لفترة طويلة».

وأشار محمود إلى «تنوع الحفلات الغنائية والفعاليات المصاحبة للمهرجان، خصوصاً فيما يتعلّق بالاستعانة بفرق الفنون الشعبية من مختلف المدن المصرية لتقديم عروضها في المهرجان بحفلات متنوعة»، لافتاً إلى أن «غياب البث المباشر للحفلات كان بمثابة نقطة ضعف لا بدّ من تجاوزها في النسخة المقبلة».

وتضمن المهرجان، الذي افتتح حفلاته الغنائية محمد منير في يوليو (تموز) الماضي، فعاليات جماهيرية كثيرة، منها الاحتفال بأبطال مصر الحاصلين على ميداليات في دورة الألعاب الأوليمبية، بالإضافة إلى إطلاق فعاليات مهرجان «نبتة»، الذي قدم أنشطة فنية وترفيهية للأطفال بمشاركة فنانين، من بينهم أحمد أمين وهشام ماجد.

محمد منير خلال حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)

ومن بين الحفلات الفنية الكبرى التي شهدها المهرجان، حفلات عمرو دياب، وتامر حسني، وعمر خيرت، وفريق «كايروكي»، بجانب تصوير عشرات الحلقات التلفزيونية مع نجوم الفن من مصر والعالم العربي الذين شاركوا في المهرجان.

وشهدت سماء مدينة العلمين الجديدة عروضاً جوية بالطائرات في الأيام الأخيرة للمهرجان، فيما قدمت فرق متعددة من جهات وأقاليم مختلفة عروضاً مجانية لمسرح الشارع.

إحدى فرق الفنون الشعبية ضمن فعاليات المهرجان (إدارة المهرجان)

وأعلنت «اللجنة العليا» للمهرجان، في بيان، السبت، انتهاء الفعاليات بعد تحقيقه «خدمة توعوية وتثقيفية وسياسية وتنموية ومجتمعية للدولة المصرية وأبنائها بتنفيذ عدد غير مسبوق من الفعاليات الشاملة، ومشاركة جميع أطياف المجتمع المصري وفئاته العمرية والصحية والاقتصادية والتعليمية، واستقبال زوار من 104 جنسيات لدول أجنبية، وكذلك عدد كبير من المسؤولين والدبلوماسيين العرب والأجانب».

ويتوقف محمد عبد الرحمن عند إعلان المهرجان تخصيص 60 في المائة من الأرباح لدعم فلسطين للتأكيد على أن «تأثير المهرجان ليس فنياً ترفيهياً فقط، بل يحمل رسالة مجتمعية مهمة».

ويشير خالد محمود إلى «ضرورة استفادة المهرجان مما تحقّق على مدار عامين بترسيخ مكانته بين المهرجانات العربية المهمة، الأمر الذي يتطلّب مزيداً من التوسع في النُّسخ المقبلة التي تتضمن التخطيط للاستعانة بنجوم عالميين لإحياء حفلات ضمن فعالياته».