لم يأخذ الأمر طويلاً لتتناقل الألسنة النصائح بزيارة «الجناح المصري» في أرض الغارديني ببينالي فينيسيا للفنون، وسرعان ما توافد الزوار على الجناح لرؤية عرض الفنان وائل شوقي هناك تحت عنوان «دراما 1882»، ووصل الازدحام لدرجة أن اضطر القائمون على الجناح لتنظيم طابور الجناح امتد لمسافات طويلة وجذب المزيد من الزوار المترقبين لحضور العرض الذي أشادت به المجلات الفنية ونقاد الفنون على أنه أحد أفضل الأجنحة في البينالي عامة، ووصف ناقد بريطاني بارز وائل شوقي بأنه «عبقري». ولكن ما الذي قدمه الجناح ليكون مثار الحديث بين زوار البينالي في أثناء الافتتاح وما بعده؟ الإجابة ببساطة هي أن الفنان وائل شوقي قدم عرضاً باهراً بكل معنى الكلمة.
ندخل إلى القاعة التي ترفل تحت إضاءة خافتة احتلت جانباً منها شاشة عرض ضخمة، وعلى الجوانب خزانات زجاجية تحمل بعض الأطباق الخزفية وقطعاً أخرى. ربما تماثل محتويات الخزانات ظاهرياً ما يوضع في صالونات العائلات الثرية من أطباق خزفية وقطع فضية.
لمعرفة ما الذي تعنيه تلك القطع، لا بدَّ للزائر من الجلوس لحضور الفيلم الغنائي، وهي تجربة ممتعة وثرية وجدانياً وبصرياً لأبعد حد.
لمتابعة الفيلم وفر الجناح مقعداً خشبياً يستوعب عشرة أشخاص لمن يرغب منهم في الجلوس، وسرعان ما شغل الحاضرون المقعد وافترشوا الأرض أمامه. المدهش أنه لم يغادر أحد من الحاضرين في أثناء العرض على طول مدته، فهو مكون من ثمانية مقاطع ومدته 45 دقيقة. انغمس المشاهدون في العرض وغاصوا في ثنايا المشاهد الدرامية والديكورات الباهرة والأداء الغنائي المتفوق للممثلين والمؤدين.
«دراما موسيقية 1882»
العرض الدرامي يمكن عده أوبرا ومسرح عرائس في آن واحد، يعرض الفيلم الذي صور على أحد أقدم مسارح مدينة الإسكندرية جانباً من التاريخ المصري في القرن التاسع عشر، وهي اللحظات التاريخية المفصلية التي سبقت الاحتلال البريطاني لمصر في 1882.
ثورة أحمد عرابي ظلت لسنوات طويلة جانباً ثابتاً من مناهج التاريخ في المدارس المصرية، واتخذت منها الروايات والأفلام السينمائية مادة خصبة لعرض الوقائع التاريخية وتحليلها والحديث عن المكايد السياسية والثورة الشعبية وحيل القوى الأجنبية لاستعمار البلاد. ولكن ما رأيناه في فيلم وائل شوقي يمكن عدّه من أبلغ وأجمل المعالجات الفنية للموضوع بشكله التاريخي. فقد عرض الفيلم ببراعة وسلاسة وجمال لقصة القائد العسكري أحمد عرابي ومطالباته بتعديل أحوال الضباط المصريين في الجيش وما تبع ذلك من صدامات مع الخديو توفيق وقتذاك ومناورات الحاكم العثماني والخديو المصري لاحتواء التذمر. من جانب آخر نرى الثورة الشعبية، وهي تبدأ، وتتطور مع عجرفة الجاليات الأجنبية وما نتج عنها من قتل 300 شخص في الإسكندرية أو ما أطلق عليها «مذبحة الإسكندرية». تمضي الأحداث لتصل للنهاية المعروفة بقيام السفن البريطانية بقصف الإسكندرية والاحتلال العسكري.
ربما يبدو أن موضوعاً كهذا قد لا يكون عملاً فنياً يجذب زوار أكبر معرض فني عالمي مثل بينالي فينيسيا، ولكن ما قدمه وائل شوقي هنا تجاوز القصة المحلية ليغزل منسوجة أخذت من التاريخ خيوطه، وصبغها ولوّنها بالموسيقى والغناء والمشاهد المنسقة على نحو فائق ليأخذ الزائر لأحوال العالم قديماً وحالياً، الحيل والمكايد السياسية التي تجري خلف الستار ما زالت تحكم العالم، وتبدو أحداث غزة دليلاً حياً وواضحاً في العرض.
العرض يمتد 45 دقيقة، ولكنها دقائق مليئة بالمتعة و«الفرجة». استخدم الفنان أسلوب مسرح العرائس لينقل أفكاره، وهو أسلوب عمد إليه في أعمال سابقة. ما يجعل «دراما 1882» عرضاً فائقاً؛ التجانس المدهش بين السيناريو والموسيقى والغناء والتمثيل والديكور الذي صممه، وخطط له، وكتب كلماته، وألف ألحانه وائل شوقي. مجهود جبار بالفعل، ولكنه أيضاً مليء بالجمال والمتعة، تدهشنا الألحان، وتدهشنا أكثر أصوات المغنين، يشارك وائل شوقي في التمثيل والغناء، ويوقع بصوته على العرض الذي استغرق منه خمسة أشهر إعداداً وتنفيذاً.
بعد العرض ألتقي الفنان، وفي جعبتي كثير من الأسئلة حول الموضوع والرسالة والتنفيذ، والأثر الذي يتركه العرض في ذهن المتفرج.
اللحظة التاريخية وتحليلها أطلقا حديثي مع الفنان بسؤاله عن السبب في اختيار تلك اللحظة التاريخية المهمة في تاريخ مصر ليصنع منها عمله الفني: «لماذا عرابي ولماذا الآن؟». يقول شوقي: «عرابي يمثل فكرة الأمل في الثورة الذي لم يتحقق. أرى شخصية أحمد عرابي مثالاً ومحاولة للثورة غير أن محاولته أجهضت من طرف الحاكم والقوى الاستعمارية، من إنجلترا، ومن الدولة العثمانية. هذا جانب، وهناك جانب آخر مهم، وهو يرتبط بكتابة التاريخ ومن يكتبه. صحيفة «الأهرام» المصرية عندما ألقي القبض على عرابي في 1882 وصفته بالخائن والإرهابي، ولكن اليوم لن تكتب أي صحيفة عنه بهذه الطريقة. «يشير إلى أن العرض يرتبط بأحوال العالم اليوم وبالقوى الاستعمارية المتحكمة في اقتصاد العالم، ويضرب المثل بإحدى خزانات العرض في الجناح التي تحتوي على ما يبدو وكأنها قطع من قصب السكر المطلية بالفضة».
لماذا قصب السكر؟ لأن مصر في عهد الخديو توفيق كانت معتمدة في اقتصادها على القطن، ولكن الخديو وجه باستبدال قصب السكر بالقطن، لأن أوروبا كانت في حاجة مستمرة للسكر.
يتعامل شوقي في أعماله كثيراً مع التاريخ، ويرى في تقديمه فنياً «محاولة لقراءة الواقع». ويضيف أن العمل «هو محاولة لقراءة الواقع وأيضاً قراءة التاريخ». يفعل ذلك عن طريق الفن والإبداع، وليس فقط عن طريق تقديم الحقائق «أحب أكثر أن أتحول لمترجم للتاريخ، وأن أعمل على تحليله والتعامل معه كحالة نقدية». ينبه أن عمله «دراما 1882» مستمد من التاريخ الحقيقي ضارباً المثل بعمل سابق له «عندما قدمت (كباريه الحروب الصليبية) لم أخترع تاريخاً، بل حاولت أن أظل ملتزماً بالسياق الحقيقي المكتوب الذي كتبه أسامة بن منقذ، وابن القلنسي، وابن الأثير، هذه هي المصادر الحقيقية التي عدت لها، واستعنت أيضاً برواية أمين معلوف (الحروب الصليبية كما رآها العرب) للاستفادة منها في الدراما الحركية، ولا سيما في الانتقال من بلد لآخر». نصل هنا لنقطة مهمة نراها متجسدة في فيلمه بالجناح المصري، وهي استخدامه للحركة الدرامية لتكوين صورة مرئية مختلفة عن النص المكتوب، ويبرر ذلك بقوله «أحاول دائماً الالتزام بالسيناريو المكتوب، وأغير في الصورة المرئية، وهو ما يخلق حالة سوريالية تدفعنا لعمل قراءات جديدة للموضوع أمامنا».
تطوف بالذهن لوحات درامية من «1882» على وقع الموسيقى الجميلة والأداء الغنائي المبدع، وعلى خلفية ملونة مركبة بطريقة مسرح العرائس، هنا نتخيل ذلك المشهد الدرامي المتمثل في واقعة مقتل «صاحب الحمار» في الإسكندرية حين طعنه الرجل المالطي بعد مشاجرة، المشهد كله يخلط بين الواقع التاريخي والمعالجة الدرامية التي تومئ لمسارح الأطفال والقصص الشعبية، بدا في لحظة أن ما أراد الفنان إيصاله للمشاهد حدث بالفعل، حيث أخذ الجالسون في الجناح بمشهد القتل، وندت منهم أصوات الصدمة، خرج شوقي وقتها بالمشاهد من المشهد الدرامي ليغمسه في الحقيقة التاريخية. يعبر عن ذلك ضارباً المثل بما يحدث في غزة: «نرى صور ما يحدث في غزة أمامنا كل يوم على شاشات التلفزيون، تفقد الصور معناها بعد وقت، ونتعود عليها، ولهذا فنحن بحاجة لعمل قراءة جديدة للموضوع، أن نقوم بعمل نوع التغيير في الشكل المرئي مع الالتزام بالحدث التاريخي نفسه، أعتقد أن ذلك يولد لدينا القدرة على التحليل».
التحضير للعمل
يبدو العمل متشعباً، وحيث إن الفنان كتب النص والموسيقى والغناء وتصميم الديكور والإخراج، إضافة إلى القطع الفنية المعروضة في الجناح المرتبطة بالفيلم، فالسؤال هنا هو عن الوقت الذي استغرقه التحضير للعمل؟ يقول: «بدأت في كتابة النص في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي ثم بدأ التصوير في شهر يناير (كانون الثاني)، استغرق المشروع خمسة أشهر».
ولا يصلح الحديث عن «1882» من دون الحديث عن الموسيقى والغناء اللذين سمّرا زوار العرض في أماكنهم طوال فترة العرض، تبقى الجمل الموسيقية مع الزائر حتى بعد مغادرته للجناح، أسأله عن التلحين والغناء اللذين شارك فيهما أيضاً، يقول إنَّ عملية كتابة الموسيقى للعرض كانت صعبة، مشيراً إلى أنه بدأ بكتابة الموسيقى والأغاني كلها، وسجل الأغاني بصوته قبل أن يدرب المغنين. «يبدو جهد الفريق ضخماً للخروج بمستوى رفيع من الأداء والغناء». وأسأله إن كان ذلك صعباً في مدة قصيرة نسبياً (5 أشهر). يقول «لدينا مواهب كبيرة في مصر وفنانون يتهافتون على العمل، ويمنحون العمل كل ما لديهم. لن تجدي مثل هذا التفاني في أوروبا، مع أنني نفذت غالبية أعمالي السابقة في أوروبا».