«ريبلي» الموهوب في القتل... تحفةٌ فنية بعدسة ستيفن زيليان

الممثل أندرو سكوت بدور توم ريبلي (نتفليكس)
الممثل أندرو سكوت بدور توم ريبلي (نتفليكس)
TT

«ريبلي» الموهوب في القتل... تحفةٌ فنية بعدسة ستيفن زيليان

الممثل أندرو سكوت بدور توم ريبلي (نتفليكس)
الممثل أندرو سكوت بدور توم ريبلي (نتفليكس)

مَن شاهدَ فيلم «The Talented Mr. Ripley» (السيّد ريبلي الموهوب) عام 1999 من بطولة مات ديمون وجود لو وغوينيث بالترو، سيتحمّس بلا شكّ لمتابعة النسخة الدراميّة من القصة بحلقاتها الـ8 والوافدة حديثاً إلى شاشة نتفليكس بعنوان «Ripley» (ريبلي).

أما مَن لا يعرفون «السيّد ريبلي»، فلا خسارة في التعرّف عليه من خلال المسلسل الجديد الذي تولّاه السينمائي الأميركي ستيفن زيليان إخراجاً وكتابةً، مقتبساً المجموعة الروائية الشهيرة للكاتبة باتريشيا هايسميث.

هو «توماس ريبلي»، المزوّر المحترف ومنتحل الصفات الذي يعيش من الاحتيال على الناس. سئمَ الإقامة في غرفةٍ ضيّقة تغزوها الجرذان، وضاق صدرُه من الوحدة، ففتح ذراعَيه لأي فرصة تساعده في تسلُّق سلّم المجتمع والمال. وما أفضل من مهمّة تأخذه إلى إيطاليا تحت غطاء أنه صديق شابٍ أميركيّ ثريّ مقيم هناك، وإقناعه بالعودة إلى الوطن واستلام أعمال أبيه، بتكليفٍ من الأخير؟

ما إن يطأ «توم» فيلّا «ديكي غرينليف» الشاهقة والمطلّة على ساحل أمالفي الخلّاب، حتى تلمع في عينَيه الرغبة بما هو أكثر من إقامةٍ مؤقّتة وسط هذا الجاه. كلُ ما في المكان يُغريه: العلاقة النموذجيّة بين ديكي وحبيبته «مارج»، الرخاء والرحابة، القطع الفنية النادرة ومن بينها لوحة لبيكاسو، ملابسُ ديكي، أقلامه، خاتمه، قاربُه الشراعيّ، وجهُه، اسمُه، وهويّته.

لا يتأخر توم في اختراق عالم ديكي ومارج. يجد ضالّته في بيئة الرفاهية تلك، ويقرّر على الفور أن يصبحَ ديكي. لكنّ الأمر أعمق من مجرّد غيرة أو انتحال صفة أو طمعٍ مادي. فلحكايةِ ريبلي أبعادٌ نفسيّة يمتزج فيها الحقدُ الطبقيّ، بالميول العاطفيّة الملتبسة المعالم، وبشخصيّة معتلّة اجتماعياً لا شيء يردعها عن تغميس يدَيها في الدم، تنفيساً لأحقادها وترجمةً لغرابتها.

اختار مخرج العمل ستيفن زيليان الصورة السوداء والبيضاء تماشياً مع الحقبة والمزاج العام (نتفليكس)

في كل مرة يعيد مخرجٌ ما ابتكارَ عملٍ كلاسيكي، يتضاعف تحدّي التميّز عمّا سبق من نُسَخ. لكنّ المهمّة لم تكن صعبة في حالة زيليان، الذي حوّل «ريبلي» إلى تحفة فنّية بصريّة بالتعاون مع مدير التصوير روبرت إلسويت. الرجلان مخضرمان في هوليوود وكلٌّ منهما حاصل على أوسكار.

صوّر زيليان مسلسله كاملاً بالأسود والأبيض، وهو خيارٌ قد يستغربه المشاهد في البداية، لكنّه سرعان ما يجد تبريراً له بما أنّ الأحداث تدور في مطلع ستّينات القرن الماضي. غيابُ الألوان يعكس الحقبة ويمنح مصداقيّةً للمزاج العام المتأرجح بين الإثارة السيكولوجيّة وعالم الجريمة، كما أنه لا يسلب الصورة سحرَها على الإطلاق. بدقّة مهندس، يختار إلسويت زواياه. كل لقطةٍ أَشبَهُ بلوحة. هي صورة نظيفة ومتناسقة، تخدمها من دون شكّ طبيعة إيطاليا وبحرُها وآثارُها ومبانيها التاريخيّة.

بين أمالفي، ونابولي، وروما، وباليرمو، والبندقيّة تتنقّل القصة والكاميرا، ويرافق المُشاهدُ توم في رحلة هروبه. تمجّد عدسة زيليان فنّ العمارة والنحت والرسم الإيطاليّ. أما البحر فلا يفقد شيئاً من عناصر إبهاره، رغم تخلّيه عن زرقته. ربّما يشعر المُتفرّج بتُخمة من كثرة اللقطات الجماليّة، إلّا أنّ غالبيّتها تخدم المعنى وكلّها مجتمعةً تجعل من المسلسل متعةً للعين والذوق، مكرّسةً إيّاه من بين أفضل الاقتباسات المصوّرة للرواية.

اعتمد المخرج ومدير التصوير مقاييس جماليّة عالية وقد ساعدت طبيعة إيطاليا في ذلك (نتفليكس)

مَن يقرّر خوض مغامرة «ريبلي»، لا بدّ أن يتسلّح بالصبر وببرودة الأعصاب. فرغم تقلّبات الأحداث ودمويّتها، فإنّ الإيقاع بطيء. من هنا يجوز الاستنتاج أنّ المسلسل قد يروق لجمهورٍ ناضج، وليس لمَن يتوقّعون تشويقاً ولا لمَن يملّون إن تضاءلت الحركة. مع العلم بأنّ هذا البطء لا يسلب المسلسل شيئاً من سحرِه وقدرتِه على جذب العين والمخيّلة.

تنطبق على ممثّليه مقولة إنهم يمثّلون بعيونهم، لا سيّما من بينهم أندرو سكوت بدور توم ريبلي. يقدّم الممثل الآيرلندي أداءً مبهراً، وهو لا يتفوّق على زملائه في المسلسل فحسب، بل على صورة مات ديمون بدور ريبلي، التي انطبعت في الذاكرة السينمائية طيلة ربع قرن.

ملصق مسلسل «ريبلي» (نتفليكس)

يُبدع سكوت في اللغة الإيطاليّة التي تعلّمها خصّيصاً من أجل الدور، وكذلك في تحوّلاته النفسية والتعبيريّة؛ من أقصى الخجل وصولاً إلى الإجرام المحترف، مروراً بالثقة الوقحة. ينجح في ملء فراغ مَشاهدِه الصامتة والطويلة فلا تستطيع العين ألّا تلحق به إن تنقّل وحيداً في شوارع روما، وإن زار متحفاً، وإن جلس خلف مكتبه يزوّر جوازات السفر. أما عندما يحين موعد الجريمة، فيطغى على الجوّ مزاجٌ «هيتشكوكيّ»، مدعّمٌ بالأسود والأبيض وبأداء سكوت.

يتمهّل ريبلي في القتل، وكأنّه يستمتع بتفاصيله؛ من اختياره أداة الجريمة، إلى التعامل مع الجثّة، وليس انتهاءً بإخفائه المحترف للمعالم. قد يستغرق هكذا مشهد أكثر من نصف ساعة، يتحرّك فيه توم وحيداً. تُصبح المُشاهدة متعبة في لحظةٍ ما، ورغم ذلك فإنّ العين لا تحيد عن الشاشة. أما الدماء الكثيرة، فيسهمُ التصوير الأسود والأبيض في التخفيف من وطأتها.

يتذاكى على المحقٌقين ويضلّلهم. نادراً ما يظهر في عينَيه طيف قلق، أما الندم على أفعاله فمعدوم، وكأنه رمى بقلبه في البحر خلف أوّل ضحاياه. وبالتالي من الصعب على الجمهور أن يتعاطف مع توم ريبلي، لكنه سيقع حتماً ضحيّة إغواء تلك الشخصيّة الدراميّة المركّبة، والمعقّدة، والمتخمة بالكاريزما حتى في أكثر اللحظات عنفاً وحقداً.

يقدّم سكوت أداءً مبهراً في شخصيّة ريبلي المركّبة والمعقّدة (نتفليكس)

إلى جانب أندرو سكوت، يطلّ الممثل البريطاني جوني فلين بدور ديكي غرينليف، والممثلة الأميركية داكوتا فانينغ بشخصيّة حبيبة الأخير مارج. يتماشى أداؤهما مع البطء العامّ ويقدّمان ما هو كافٍ للشخصيّتَين، لكنهما يبقيان في ظلّ زميلهما سكوت. أما الإطلالة اللافتة فهي للممثل الإيطالي ماوريزيو لومباردي بدور المحقق رافيني، الذي يُضفي إلى المسلسل نفحة كوميديّة تلوّن بعضاً من سوادِه.


مقالات ذات صلة

بعد توقفها... عودة خدمة «نتفليكس» لمعظم المستخدمين في أميركا

يوميات الشرق شعار منصة البث المباشر «نتفليكس» (رويترز)

بعد توقفها... عودة خدمة «نتفليكس» لمعظم المستخدمين في أميركا

كشف موقع «داون ديتيكتور» لتتبع الأعطال، عن أن منصة البث المباشر «نتفليكس» عادت إلى العمل، اليوم (السبت)، بعد انقطاع استمرّ نحو 6 ساعات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الممثل كيليان مورفي يعود إلى شخصية تومي شلبي في فيلم «The Immortal Man» (نتفليكس)

عصابة آل شلبي عائدة... من باب السينما هذه المرة

يعود المسلسل المحبوب «Peaky Blinders» بعد 6 مواسم ناجحة، إنما هذه المرة على هيئة فيلم من بطولة كيليان مورفي المعروف بشخصية تومي شلبي.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق مسلسل «Monsters» يعيد إلى الضوء جريمة قتل جوزيه وكيتي مينينديز على يد ابنَيهما لايل وإريك (نتفليكس)

قتلا والدَيهما... هل يُطلق مسلسل «نتفليكس» سراح الأخوين مينينديز؟

أطلق الشقيقان مينينديز النار على والدَيهما حتى الموت عام 1989 في جريمة هزت الرأي العام الأميركي، وها هي القصة تعود إلى الضوء مع مسلسل «وحوش» على «نتفليكس».

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق ليلي كولينز بطلة مسلسل «إميلي في باريس» (رويترز)

لماذا تفجر «إميلي في باريس» مواجهة دبلوماسية بين فرنسا وإيطاليا؟

انفتحت جبهة جديدة في التاريخ الطويل والمتشابك والمثير للحقد في بعض الأحيان للعلاقات بين إيطاليا وفرنسا، والأمر يدور هذه المرة حول مسلسل «إميلي في باريس».

«الشرق الأوسط» (باريس- روما)
يوميات الشرق His Three Daughters فيلم درامي عائلي تميّزه بطلاته الثلاث (نتفليكس)

عندما يُطبخ موت الأب على نار صراعات بناته

يخرج فيلم «His Three Daughters» عن المألوف على مستوى المعالجة الدرامية، وبساطة التصوير، والسرد العالي الواقعية. أما أبرز نفاط قوته فنجماته الثلاث.

كريستين حبيب (بيروت)

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
TT

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)

حظي مسلسل «رقم سري»، الذي ينتمي إلى نوعية دراما الغموض والتشويق، بتفاعل لافت عبر منصات التواصل الاجتماعي، وسط إشادة بسرعة إيقاع العمل وتصاعد الأحداث رغم حلقاته الثلاثين.

ويُعرض المسلسل حالياً عبر قناتي «dmc» و«dmc drama» المصريتين، إلى جانب منصة «Watch IT» من السبت إلى الأربعاء من كل أسبوع، وهو من إخراج محمود عبد التواب، وتأليف محمد سليمان عبد الملك، وبطولة ياسمين رئيس، وصدقي صخر، وعمرو وهبة، وأحمد الرافعي.

ويعد «رقم سري» بمنزلة الجزء الثاني من مسلسل «صوت وصورة» الذي عُرض العام الماضي بطولة حنان مطاوع، للمخرج والمؤلف نفسيهما. وينسج الجزء الجديد على منوال الجزء الأول نفسه من حيث كشف الوجه الآخر «المخيف» للتكنولوجيا، لا سيما تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن تورط الأبرياء في جرائم تبدو مكتملة الأركان.

السيناريو تميز بسرعة الإيقاع (الشركة المنتجة)

وتقوم الحبكة الأساسية للجزء الجديد على قصة موظفة بأحد البنوك تتسم بالذكاء والطموح والجمال على نحو يثير حقد زميلاتها، لا سيما حين تصل إلى منصب نائب رئيس البنك. تجد تلك الموظفة نفسها فجأة ومن دون مقدمات في مأزق لم يكن بالحسبان حين توكل إليها مهمة تحويل مبلغ من حساب فنان شهير إلى حساب آخر.

ويتعرض «السيستم» بالبنك إلى عطل طارئ فيوقّع الفنان للموظفة في المكان المخصص بأوراق التحويل وينصرف تاركاً إياها لتكمل بقية الإجراءات لاحقاً. يُفاجَأ الجميع فيما بعد أنه تم تحويل مبلغ يقدر بمليون دولار من حساب الفنان، وهو أكبر بكثير مما وقع عليه وأراد تحويله، لتجد الموظفة نفسها عالقة في خضم عملية احتيال معقدة وغير مسبوقة.

وعَدّ الناقد الفني والأستاذ بأكاديمية الفنون د. خالد عاشور السيناريو أحد الأسباب الرئيسية وراء تميز العمل «حيث جاء البناءان الدرامي والتصاعدي غاية في الإيجاز الخاطف دون اللجوء إلى الإطالة غير المبررة أو الثرثرة الفارغة، فما يقال في كلمة لا يقال في صفحة».

بطولة نسائية لافتة لياسمين رئيس (الشركة المنتجة)

وقال عاشور في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «المخرج محمود عبد التواب نجح في أن ينفخ الروح في السيناريو من خلال كاميرا رشيقة تجعل المشاهد مشدوداً للأحداث دون ملل أو تشتت، كما أن مقدمة كل حلقة جاءت بمثابة جرعة تشويقية تمزج بين ما مضى من أحداث وما هو قادم منها في بناء دائري رائع».

وأشادت تعليقات على منصات التواصل بالمسلسل باعتباره «تتويجاً لظاهرة متنامية في الدراما المصرية مؤخراً وهي البطولات النسائية التي كان آخرها مسلسل (برغم القانون) لإيمان العاصي، و(لحظة غضب) لصبا مبارك؛ وقد سبق (رقم سري) العديد من الأعمال اللافتة في هذا السياق مثل (نعمة الأفوكاتو) لمي عمر، و(فراولة) لنيللي كريم، و(صيد العقارب) لغادة عبد الرازق، و(بـ100 راجل) لسمية الخشاب».

إشادة بتجسيد صدقي صخر لشخصية المحامي (الشركة المنتجة)

وهو ما يعلق عليه عاشور، قائلاً: «ياسمين رئيس قدمت بطولة نسائية لافتة بالفعل، لكن البطولة في العمل لم تكن مطلقة لها أو فردية، بل جماعية وتشهد مساحة جيدة من التأثير لعدد من الممثلين الذين لعبوا أدوارهم بفهم ونضج»، موضحاً أن «الفنان صدقي صخر أبدع في دور المحامي (لطفي عبود)، وهو ما تكرر مع الفنانة نادين في شخصية (ندى عشماوي)، وكذلك محمد عبده في دور موظف البنك».