خلافاً لما هو معتاد من انكفاء الدراما الخليجية على أعمال الموروث التي تسرد حكايات الحياة الاجتماعية، يأتي المسلسل السعودي «خيوط المعازيب» ليمضي ناحية المزاج الثقافي السائد في منطقة الأحساء خلال عقد الستينات من القرن الماضي، حيث يلحظ المشاهد تشكّل المجالس الثقافية بشكلٍ عابر، لتأخذ نوافذها العلمية والفكرية، وتنفرج اتساعاً وجلاءً بين مختلف أطياف المجتمع آنذاك.
ويظهر في العمل الفنان إبراهيم الحساوي في دور «جاسم أبو فرحان» المنكب على قراءة الكُتب، تارة يقرأ «الكشكول» للعاملي، وتارة يقرأ «بجماليون» لتوفيق الحكيم، وغيرهما من كلاسيكيات الأدب العربي، كما يقوم بإنشاء مكتبة صغيرة لإعارة الكتب وترويج القراءة بين أهالي الأحساء، وكذلك ينشئ تجمّعاً ثقافياً في مقهى «ماطر» في المسلسل، باعتباره عراباً لهذا الملتقى الثقافي.
كما يستحضر العمل شاعر الأحساء الراحل يوسف عبد اللطيف، في الحديث عن ديوانه الأول «زفير الناي» الذي صدر عام 1967، وذلك في مشهد يُظهر استضافة المقهى للشاعر، يليه مشهد آخر لمُفكر يلقي محاضرة عن أسباب اندلاع الثورة الفرنسيّة وتداعياتها، والكثير من المضامين الفكرية والسياسية التي عرج عليها المسلسل، ما أثار التساؤلات إن كانت حقاً هناك حركة ثقافية تنويرية شهدتها المنطقة آنذاك، خاصة مع قلة المدارس النظامية في تلك الفترة وتوجه معظم السكّان نحو مزاولة الزراعة والأنشطة الحرفيّة.
ازدهار ثقافي
كاتب القصة الفنان حسن العبدي، الذي عاش تلك الحقبة ويدركها جيداً، يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن الحركة الثقافية في الأحساء خلال الستينات من العقد المنصرم كانت في أوجها، ويتابع: «هي فترة غير مسبوقة، شهدت ازدهاراً ثقافياً في المنتديات والحسينيات والمحلات، وكان هناك مقهى شهير في الأحساء في عام 1959 اسمه مقهى مطير، لرجل جاء من مكة المكرمة، وكان يجتمع فيه بعد المغرب مجموعة من المثقفين والعرب الذين قدموا لمزاولة مهنة التدريس، ونخبة من أهل الأحساء، وذلك كي يتحدثوا بالاقتصاد والسياسة داخل المقهى الذي كان في الهواء الطلق، وكنت بدوري أنضم لسماعهم ورؤية كيف يتحدثون».
وتبعاً لذلك، يؤكد العبدي أنه كانت هناك حالة سائدة من الوعي الثقافي في المنطقة، مع رواج عدد من المجلات، مثل «العربي» و«الكواكب»، وإقبال الناس على قراءة كتب الأديب طه حسين، وتداول روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم. ويشير العبدي إلى مكتبة «التعاون الثقافي» التي كانت الوحيدة آنذاك، حيث أسسها الشيخ عبد الله الملا عام 1942، وكانت شاهدة على الازدهار الثقافي للمنطقة آنذاك.
أناس حقيقيون
ويوضح العبدي أنه استلهم كثيراً من شخصيات المسلسل من أناس حقيقيين عايشهم على أرض الواقع، وهو الذي مارس مهنة حياكة البشوت لفترة من حياته، من ذلك شخصية المعزب أبو موسى (الفنان سمير الناصر) تاجر البشوت الطيّب في العمل، قائلاً: «انتقلت في صغري من (معزّب) إلى آخر اسمه حسن الكويتي (أبو موسى) وكان رجلاً فاضلاً يمتاز بروعة الأخلاق والعلم والثقافة، لدرجة أنه كان ينصح الفتيان بإكمال الدراسة إلى جانب العمل، وأنا استطعت الحصول على شهادة المرحلة الابتدائية أثناء عملي لديه، وأحفاده اليوم سعيدون بما قدمه العمل عن جدهم».
ويقابل ذلك شخصية التاجر الجشع في العمل أبو عيسى (الفنان عبد المحسن النمر)، الذي كان يضرب الصبيان بقسوة لإرغامهم على العمل، وهنا يقول العبدي: «هناك أشياء كثيرة لم أذكرها عن سلوك بعض المعازيب، مراعاةً لمشاعر المشاهدين». وهنا يتذكر فتى قام بوضع البنزين على أصبعه ليحرقه، وذلك هروباً من خياطة البشوت، وآخر حرق عينيه بأعقاب السجائر كي لا يرغمه المعزّب على العمل.
عالم البشوت
بسؤال العبدي هل كان يتوقع الأصداء الواسعة التي حصدها العمل، مع كونه ضمن قائمة الأعمال الأعلى مشاهدة في السعودية ودول خليجية على منصة «شاهد»؟ يقول: «توقعت له النجاح، ولكن ليس بالشكل الذي شاهدته، فقد تلقيت اتصالات من مختلف شرائح الجمهور في السعودية والخليج ودول عربية أيضاً». ويردف: «هذا النجاح فاق تصوراتي بشكل كبير، وهو في تقديري يعود إلى أن العمل يقدم ما هو جديد، ولم يسبق للناس مشاهدته».
ويتابع: «أعتاد الناس على رؤية البشت المطرّز الذي يرتدونه في المناسبات، لكنهم لا يعلمون ماهية معاناة الأشخاص الذين أوصلوا البشت إلى هذا المستوى، حيث أصبحت منطقة الأحساء كلها تشتهر به». ويشير العبدي إلى مؤسسي هذه الحرفة الأصيلة ومراحل حياكة البشت من الهيلة والبروج والمقصر وغيرها، مبيناً أن البشت لا يستطيع أن يصنعه شخص واحد، ولكنه يتطلب عملاً جماعياً.
مخزن الحكايات
ولم تكن حكاية البشت وحدها هي الطاغية على العمل، بل حضر معها كثير من القصص غير المألوفة والمستلهمة من الموروث الاجتماعي والتراثي للمنطقة، من ذلك حلقة «المرتعشة» التي تناولت هذه القطعة الذهبية الفاخرة التي كانت ترتديها نسوة علية القوم ويتباهين بها، وكذلك حلقة «الحمار»، وهي كنية كان يطلقونها الأحسائيون على المغنين قديماً، وقصص الزوج الغائب الذي يظهر فجأة، وتداخل الأسر مع تعدد الزوجات وغيرها.
عن مصادر هذه الحكايات، يقول العبدي: «كنت أسمعها منذ كنتُ صغيراً في الحارة (الفريج قديماً)، حتى من يخيطون البشوت كانت لهم لهجة خاصة، وأسلوب مختلف في الحياة، وهو ما حاولنا إظهاره»، ويشير العبدي إلى مشهد جمع الفنانين عبد المحسن النمر وفيصل الدوخي، حين قال النمر له «جزّن»، وهي كلمة لا يعرف معناها إلا حائكو البشوت، وتعني «اصمت».
ويتابع: «تم اختيار هذه المفردات بعناية بالغة، وأكثر ما أتعبني في العمل هو اللهجة، لأني كنت مع شبان صغار السن لم يسمعوا بها، وكذلك بعض الكبار الذين لم تمر عليهم هذه المفردات، ولذا كنت أحرص على عمل بروفات قبل دخولهم إلى مواقع التصوير... والأمر ذاته مع الملابس والإكسسوارات وبقية التفاصيل، خاصة مع كوني الأكبر سناً بينهم (85 عاماً)، لذا فلقد مررت على كل هذه الأمور لأكون المرجع لها، وهو ما حرصت عليه».
يضيف العبدي: «من الضروري أن تكون للعمل ذاكرة حقيقية يُبنى عليها، وتكون قريبة من الإنسان، مع طابع الحنين إلى الماضي، إلى جانب الكتابة الجادة والصادقة... متى ما وجدت هذه العناصر، فمن الممكن الخروج بأعمال مميزة، بعيداً عن التكرار والسطحية التي تغلب على كثير من المسلسلات».