الاحتراق بنار الوظيفة... تشخيص الأسباب ومداواة النتائج

الاحتراق الوظيفي ظاهرة مهنيّة بلغت ذروتها وتهدّد الصحة النفسية للموظفين (أ.ف.ب)
الاحتراق الوظيفي ظاهرة مهنيّة بلغت ذروتها وتهدّد الصحة النفسية للموظفين (أ.ف.ب)
TT

الاحتراق بنار الوظيفة... تشخيص الأسباب ومداواة النتائج

الاحتراق الوظيفي ظاهرة مهنيّة بلغت ذروتها وتهدّد الصحة النفسية للموظفين (أ.ف.ب)
الاحتراق الوظيفي ظاهرة مهنيّة بلغت ذروتها وتهدّد الصحة النفسية للموظفين (أ.ف.ب)

فتحت فرح نعمة -وهي مسؤولة قسم التسويق في إحدى الشركات- حاسوبها الشخصي كما تفعل كل صباح. لكن ما إن تدفّق البريد الإلكتروني أمام عينَيها حتى شعرت بضيق، فأقفلت الحاسوب على الفور. ليس هذا التصرّف من عاداتها، هي المعروفة بحبّها لعملها وبشخصيّتها المنظّمة، وبالتزامها المواعيد والواجبات، وفق ما تحكي لـ«الشرق الأوسط».

«لم أستوعب ما جرى؛ خصوصاً عندما حاولتُ مرة أخرى وتكرّر ردّ فعلي». في تلك اللحظة، اتّصلتْ فرح بإحدى صديقاتها -وهي معالجة نفسية- فوصّفت لها الحالة بالـ«burnout»، أو «الاحتراق الوظيفي».

يُعرف الاحتراق الوظيفي بالـ«burnout» وهو منتشر في أوساط الموظفين بشكل كبير (رويترز)

ذنْبُ «كورونا»

وفق إحصائيات عام 2023، فإنّ 65 في المائة من الموظّفين حول العالم اختبروا الاحتراق الوظيفي. وتُظهر دراسة نشرتها «الجمعية الأميركية للصحة النفسية»، أنّ أرقام هذه الحالة في ازدياد مطّرد، وقد بلغتْ ذروتها مؤخراً داخل قطاعاتٍ عدّة، وذلك بتأثير مباشر من ظروف العمل التي فرضتها جائحة «كورونا». هذا الواقع المهني المستجدّ، دفع بالكاتب والباحث الأميركي كال نيوبورت، إلى توصيف ما يجري بـ«عصر الإرهاق الكبير».

تتلاقى الاختصاصية في علم النفس العيادي، باسكال نخلة، ونظريّة نيوبورت، فهي تلفت لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّ «مفهوم الاحتراق الوظيفي ظهر في سبعينات القرن الماضي؛ إلا أنه لم ينتشر سوى في السنوات القليلة الماضية؛ حيث بلغ أقصاه في ظلّ الجائحة بسبب العمل عن بُعد الذي زعزع الضوابط». وتعرّف باسكال نخلة الاحتراق الوظيفي بأنه «ظاهرة مهنيّة، وليس اضطراباً نفسياً أو عارضاً صحياً»، موضحة أنه يترافق مع شعور بالإرهاق، وتراجع في منسوب الطاقة وفي الإنتاجيّة المهنيّة. ليس الأمر مجرّد تعب عابر من الوظيفة؛ بل يبلغ مرحلة من «الابتعاد الذهني التدريجي عن العمل، بالتوازي مع شعور بالسلبيّة وبعدم الفائدة».

يترافق الاحتراق الوظيفي مع شعور بالإرهاق يليه ابتعاد تدريجي عن العمل وشعور بعدم الفائدة (رويترز)

ما هي المسبّبات؟

لكن ما الذي يجعل الموظّف يحترق بنار وظيفته؟ ولماذا أقفلت فرح المثابِرة حاسوبَها ما إن رأت أمامها كمية كبيرة من البريد والمهام المستعجلة؟

تُعدّد باسكال نخلة مراحل الاحتراق الوظيفي التي قد تكون عبَرَتها فرح ومَن اختبروا تجربة مماثلة: «في البداية، يرغب الموظف في إثبات نفسه والتميّز، ويترافق ذلك مع خوفٍ من ألا يكون في الطليعة. للغاية، يعمل أكثر وأكثر، فيبدأ في إهمال احتياجاته الخاصة من مأكل ونوم واستراحة وإجازة، ما ينعكس أخطاء ومشكلات في الوظيفة، وهنا يدخل التعب والمرارة والغضب على الخط، فيبدأ في الانسحاب التدريجي من مهامّه، وبالتعامل معها بازدراء».

الاختصاصية في علم النفس العيادي ومؤسِسة «PEN Consultancy» لخدمات الصحة النفسية باسكال نخلة (الشرق الأوسط)

من مسببات تحوّل الاحتراق الوظيفي إلى حالة شائعة، الأهمية التي اكتسبها العمل في حياة الأفراد مؤخراً. يضعون المهنة في الطليعة؛ إذ يجدون فيها شرعيّتهم وهويّتهم، كما أنها تسمح لهم بتحقيق ذواتهم وأهدافهم؛ لكن كل ذلك وسط بيئة تنافسية تفتقر إلى الثبات والأمان في معظم الأحيان، ما ينعكس سلباً على الموظّفين.

إلا أن الواقع الجديد الذي فرضته الجائحة له اليد الطولى في تكريس الاحتراق الوظيفيّ. تشرح باسكال نخلة في هذا الإطار كيف أنّ العمل من المنزل أفقدَ الموظّفين حسّهم بالوقت، فتخلّوا عن مفهوم الدوام: «من لم يستطع حماية حدوده وبقي جاهزاً لأداء أي مهمة في أي وقت، ليس مستغرباً أن يكون قد أصيب بالـ(burnout)»، كما تقول الاختصاصية النفسية.

وما زاد الأمر سوءاً، سطوة التكنولوجيا التي تضع المرء على اتصال دائم مع العالم الخارجيّ، فلا يستطيع غضّ الطرف عمّا يصله من رسائل خاصة بالعمل، حتى خارج ساعات الدوام.

سطوة التكنولوجيا وضعت الموظفين على اتصال دائم بعملهم حتى خارج ساعات الدوام (رويترز)

مخاطر «البيئة السامّة»

من العوامل التي قد تُضاعف مخاطر الإصابة بالاحتراق الوظيفي، إلى جانب الفشل في التحكّم بساعات العمل، تَراكُم الواجبات، وغياب المكافآت والتقدير، والبيئة الوظيفية السامّة وغير المساندة. من هنا، تلفت باسكال نخلة إلى الدور الجوهري الذي يجب أن تلعبه المؤسسات في تصويب علاقتها بموظّفيها، كي تقيَهم من مخاطر كهذه. «في معظم الحالات، سبب المشكلة ليس الموظّف؛ بل النظام وأسلوب التعامل الذي تعتمده المؤسسة».

انطلاقاً من ذلك، فإنّ المصارحة بين الموظّف ومديره ضروريّة، وتَلقُّف المسؤولين معاناة الموظّفين بشكلٍ حضاري ومتفهّم يفتح باباً باتّجاه الحلّ.

تتحمّل المؤسسات المسؤولية الكبرى في وصول الموظف إلى مرحلة الاحتراق الوظيفي (أ.ف.ب)

إشارات يجب التقاطها

تتنوّع الإشارات التي يجب أن يلتقطها الموظّف قبل تفاقم حالته ما بين أعراض نفسية وجسدية، لا سيما أنّ «الاحتراق الوظيفي يستغرق وقتاً كي يتظهّر، فلا يستوعب المرء ما يحصل له في البداية»، وفق ما تشرح باسكال نخلة.

أما أبرز الأعراض فهو الشعور الدائم بالتعب، والعصبيّة، والقلق، وفقدان التركيز، وضعف الذاكرة، واضطرابات النوم، وتَراجع القدرات الذهنيّة، والرغبة في العزلة، وتبدّل في سلوكيّات الطعام. ينعكس الأمر كذلك أعراضاً جسديّة، تتراوح ما بين آلام في الرأس وفي المعدة والعضلات؛ لكنها قد تتطوّر إلى ما هو أخطر من ذلك إن لم يجرِ تَدارُك الأمر. تتحدّث باسكال نخلة هنا عن خطر الإصابة بالسكّري، وبارتفاع ضغط الدم. وتلفتُ إلى دراساتٍ أثبتت أن الأشخاص الذين يعانون من الاحتراق الوظيفي ترتفع أيام غيابهم عن العمل بداعي المرض بنسبة 57 في المائة، كما يتضاعف خطر إصابتهم بالاكتئاب بنسبة 180 في المائة.

تتراوح الأعراض الجسدية للاحتراق الوظيفي ما بين آلام في الرأس والمعدة والعضلات وقد تصل إلى الإصابة بالسكّري وارتفاع ضغط الدم (أ.ف.ب)

كيف نطفئ الحريق؟

إذ تؤكّد الاختصاصية النفسية أن الاحتراق الوظيفي ليس اكتئاباً، تُطمئن إلى أنّ باستطاعة ضحاياه مداواة أنفسهم بمفردهم، من دون اللجوء إلى معالجين نفسيين، إن لم تكن حالتهم متطوّرة. تنصح باسكال نخلة الموظفين بمصارحة مديريهم أو مسؤوليهم المباشرين، على أن يترافق ذلك مع الاعتناء بالنفس. ولا يتوقف ذلك عند ممارسة الرياضة، أو التأمّل، أو الخروج مع الأصدقاء، أو أخذ إجازات من العمل.

ثمّة ما هو أهمّ، والمقصود هنا الدروس النفسية والسلوكيّة التي يجب أن يخرج بها الموظّف من تجربته القاسية. «يجب أن يعتاد على قول كلمة لا لبعض المهام المطلوبة منه إذا كانت تفوق طاقته»، فلا داعي للخجل أو الخوف من تخييب ظنّ أحد؛ وفق باسكال نخلة. وهي تشدّد هنا على أهمية معرفة الموظف لحقوقه والدفاع عنها، وألا يقتصر عالمه على مكان عمله وزملائه والإنجازات المهنيّة المتوقّعة منه.


مقالات ذات صلة

قبل قبول عرض عمل... خطوات أساسية عليك اتخاذها

يوميات الشرق أحد أفضل الأوقات للتفاوض هو بعد تلقي عرض عمل مباشرة (رويترز)

قبل قبول عرض عمل... خطوات أساسية عليك اتخاذها

عندما يتعلّق الأمر بما هو مهم في الوظائف، فإن الناس لديهم العديد من الأولويات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق لفهم كيفية معالجة الآخرين للعالم بشكل أفضل حاول طرح أسئلة مدفوعة بالعاطفة عليهم (رويترز)

لإدارة مشروع جانبي وكسب المال... مهارة واحدة أساسية تحتاج إليها

تُظهر البيانات الحديثة أن أكثر من ثلث البالغين في الولايات المتحدة لديهم عمل جانبي... والأشخاص الذين يكسبون أكبر قدر من المال لديهم شيء مشترك.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق لتعزيز الثروة من الضروري التركيز على أمر واحد لتكون الأفضل فيه (أ.ب)

مليونير عصامي: 5 عادات تساعدك على بناء ثروتك

كان آلان كوري في الثانية والعشرين من عمره يغمره الأمل في أن يصبح مليونيراً، لم يكن لديه علاقات أو مرشدون أثرياء، لكنه لم يتراجع.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق نظام العمل الهجين يخفف الضغوط على الموظفين (بابليك دومين)

هيئة الإحصاء البريطانية: العمال عن بُعد ينامون أكثر ويعملون أقل

كشف تحليل رسمي أجرته هيئة الإحصاء البريطانية عن أن العمال الذين يعملون من المنزل يحققون توازناً أفضل بين العمل والراحة ولكنهم يعملون بمعدل أقل بمقدار 10 دقائق.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق فهم طريقة عمل الذكاء الاصطناعي أمر مهم لكنه ليس المهارة الوحيدة اللازمة للنجاح في العمل (رويترز)

ليست البرمجة... مهارة أساسية تحتاج إليها للنجاح في عصر الذكاء الاصطناعي

يحتاج جميع الشباب للنجاح في مكان العمل، وسط انتشار الذكاء الاصطناعي، إلى مهارة أساسية، موجودة منذ آلاف السنين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

وزير الثقافة السعودي يلتقي مبتعثي «صناعة المانجا» في اليابان

وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
TT

وزير الثقافة السعودي يلتقي مبتعثي «صناعة المانجا» في اليابان

وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)

حث الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي رئيس مجلس إدارة هيئة الأدب والنشر والترجمة، السبت، الطلاب المبتعثين في برنامج أسس صناعة القصص المصورة «المانجا» في اليابان، على أهمية التأهيل العلمي والأكاديمي في التخصصات الثقافية للإسهام بعد تخرجهم في رحلة تطوير المنظومة الثقافية في بلادهم.

وأكد الأمير بدر بن عبد الله، خلال لقائه عدداً من الطلاب المبتعثين في مقر إقامته في طوكيو، دعم القيادة السعودية لكل ما من شأنه تنمية القدرات البشرية في المجالات كافة.

ويُقام البرنامج التدريبي بالتعاون بين هيئة الأدب والنشر والترجمة، وشركة «مانجا للإنتاج»، التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان «مسك»، الذي يستهدف موهوبي فن المانجا ضمن برنامج تدريبي احترافي باستخدام التقنيات اليابانية؛ منبع هذا الفن.

حضر اللقاء الدكتور محمد علوان الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة، والدكتور عصام بخاري الرئيس التنفيذي لشركة «مانجا للإنتاج»، وعددٌ من الطلاب والطالبات المبتعثين لدراسة فن المانجا في أكاديمية كادوكاوا، إحدى أكبر الأكاديميات في اليابان، التي تهتم بتدريب واستقطاب الخبرات والمهتمين بصناعة القصص المصورة.

يشار إلى أن البرنامج التدريبي يتضمن 3 مراحل رئيسية، بدءاً من ورش العمل الافتراضية التي تقدم نظرةً عامة حول مراحل صناعة القصص المصورة، تليها مرحلة البرنامج التدريبي المكثّف، ومن ثم ابتعاث المتدربين إلى اليابان للالتحاق بأكاديمية كادوكاوا الرائدة في مجال صناعة المانجا عالمياً.

كما تم ضمن البرنامج إطلاق عدد من المسابقات المتعلقة بفن المانجا، وهي مسابقة «منجنها» لتحويل الأمثلة العربية إلى مانجا، ومسابقة «مانجا القصيد» لتحويل القصائد العربية إلى مانجا، ومؤخراً بالتزامن مع عام الإبل 2024 أُطلقت مسابقة «مانجا الإبل» للتعبير عن أصالة ورمزية الإبل في الثقافة السعودية بفن المانجا.

وتجاوز عدد المستفيدين من البرنامج 1850 متدرباً ومتدربة في الورش الافتراضية، وتأهل منهم 115 للبرنامج التدريبي المكثّف، أنتجوا 115 قصة مصورة، وابتُعث 21 متدرباً ومتدربة إلى اليابان؛ لصقل مواهبهم على أيدي خُبراء في هذا الفن، إضافة إلى استقبال 133 مشاركة في مسابقة «منجنها»، وما يزيد على 70 مشاركة في مسابقة «مانجا القصيد»، وأكثر من 50 مشاركة في «مانجا الإبل».

يذكر أن هيئة الأدب والنشر والترجمة تقدم برنامج أسس صناعة القصص المصورة «المانجا» بالتعاون مع شركة «مانجا للإنتاج»، بهدف تأسيس جيل مهتم بمجال صناعة المانجا، وصقل مهارات الموهوبين، ودعم بيئة المحتوى الإبداعي في المملكة.