«تاج»: ملحمة سورية مزنَّرة بالنور والنار

دمشق في الأربعينات مُستعادَة بالتفاصيل البديعة

الملاكم «تاج الحمّال» يتشارك البطولة مع قصة كاملة (لقطة من المسلسل)
الملاكم «تاج الحمّال» يتشارك البطولة مع قصة كاملة (لقطة من المسلسل)
TT

«تاج»: ملحمة سورية مزنَّرة بالنور والنار

الملاكم «تاج الحمّال» يتشارك البطولة مع قصة كاملة (لقطة من المسلسل)
الملاكم «تاج الحمّال» يتشارك البطولة مع قصة كاملة (لقطة من المسلسل)

تَقدُّم حلقات مسلسل «تاج» يُثبت اختلافه عن النوع المُستهلك لدراما الاحتلال الفرنسي لسوريا. ذلك يُنقذ بطله تيم حسن من «ورطة» الدوران في صنف لا يأتي بجديد عنوانه حصراً «البطولة». فما نُشاهده، ملحمة تاريخية متّقدة، واستعادة بديعة لحقبة مُزنّرة بالنار والدم والكرامة الوطنية. هذه سوريا في أربعينات القرن الماضي، تُصوّرها كاميرا المخرج سامر البرقاوي بجمالية خاصة. الواجهة ليست لبطل العمل، الملاكم «تاج الحمّال» وحده، بل للبلاد والشباب والمرأة والشجاعة واليقظة.

تيم حسن فنان شخصيات تعامل مع «تاج» ببراعة (فيسبوك)

يكتب عمر أبو سعدة ملحمة بعد «الزند» في رمضان الماضي. تيم حسن لا يخوض السباق وحيداً، وإن راهن المسلسل على مهاراته في الكسب. الأهم من المجيء بنجم، هو تكوين حالة. والحالة هنا مُستمدَّة من الأرض السورية، والعرض المختلف لمعركة أبنائها مع أشكال الاحتلال. «تُوظَّف» الأحداث الدرامية في خدمة هذه الاستعادة التاريخية، وتصبح مصائر الشخصيات معلَّقة بمصير البلد. حقبة كاملة تتراءى بتفاصيلها وإنسانها وأزيائها وديكوراتها، كأنها تحية لمَن قدّموا الروح على المذبح السوري. أمام هذه المقاربة، بدا حرصٌ على عدم حصر الحدث بالبطل، لتتساوى المسارح على مستوى الخطّ المُحرِّك: ما يجري في نادي الملاكمة، وفي الجامعة، والكازينو، والبرلمان السوري، وفي الثكنات العسكرية، ومنازل الحارات. دمشق سيدة المشهد، والجميع يدور في فلكها.

يُشبع سامر البرقاوي الحكاية بكاميرا لمّاعة وصورة نوستالجية (لقطة من المسلسل)

تترافق استعادة أثمان الاستقلال، بإنصاف صورة العاصمة السورية على المستويَيْن النضالي والثقافي. فأمام بَذْل الدم وإظهار توحُّش المحتلّ (ما هو مُنتَظر من مسلسلات سورية تحاكي الحقبة الفرنسية)، تحضُر المدينة العريقة بإنسانها المثقف، واحتجاجاتها الطلابية المؤثّرة في المعادلة الوطنية. يُركّز المسلسل على هذا الجانب، بحجم الاهتمام بالسرد التاريخي لأحداث وقعت بالفعل، منها مثلاً إعدامات ساحة المرجة، ودكّ مبنى البرلمان السوري بالمدفعية الفرنسية وسقوط عناصر درك أصرّوا على الدفاع عن مكان خالٍ من البشر، تمسّكاً برمزيته. المشهد الموازي له حصّة كبيرة، فيُعطَى الطلاب مساحة تُبرز دورهم في تعليق اللافتات وتنظيم المظاهرات، كما يفرد مساحة للمرأة الممرّضة والمعلّمة والمُخطِّطة والمنخرطة في النشاط الاستقلالي. متى أرادتها الساحة، تجدها.

بسام كوسا بشخصية «رياض بك الجوهر» في المسلسل (مواقع التواصل)

هذا أولاً، وتيم حسن بشخصية الملاكم «تاج» يحلّ لاحقاً. وإنْ كان لا مفرّ من ثنائية «الوطني والعميل» في هكذا حكايات، فإنّ خصومته مع عدّو البلد «رياض بك الجوهر» (بسام كوسا) تتفادى شكلها المُستهلَك حين لا تحوم القصة حول صراعهما فقط، ولا يُفرَد الميدان لكباشهما دون سائر اللاعبين. «تاج» الملقَّب بـ«المقصّ»، و«رياض» الملقَّب بـ«الخياط»، حجرا شطرنج على رقعة تُحرّكها أسماء وأحداث. وإن ميَّز حسن شخصيته بمفردات تتكرّر («كرز»، «يستر على شيتاتك»...) لضرورات شعبوية، فذلك لا يعني أنّ الشخصيات الأخرى في موقع أقلّ. فدور «سليم» (كفاح الخوص بأداء لافت) على درجة عالية من القيمة ضمن السياق؛ وهو يسرد فصول المرحلة أو يحرّك حدثاً ويقود المشهد.

يُشبع سامر البرقاوي بكاميرا لمّاعة وصورة نوستالجية، الحكايةَ ببُعد بصري بديع. وتنضمّ الأزياء (رجا مخلوف) لِما يتيح الانتقال إلى زمن مُنكَّه بالحنين والتحسُّر على المآثر، حين تألّقت سوريا بتنوّعها المجتمعي وتجمَّل إنسانها بالنَفَس الحُرّ. فالمسلسل تعمَّد إعلاء شأن التعايُش بإقامة عرس مسيحي حين شاء لـ«سليم» و«ماريون» (أداء بارز لنتاشا شوفاني) الارتباط الرسمي. وكثّف مشهدية التنوُّع بالإضاءة على الدور النضالي لأرمن سوريا، مُحرّكاً غصّة حيال الواقع الراهن. وأظهر الجانب الثقافي للمجتمع السوري حين عزَّز مكانة السينما وأفرد مساحة لشخصية الشاعر عمر أبو ريشة وحضوره بين الطلاب المولعين بقصائده. عصرٌ زاهر رغم المآسي، ومرحلة مضيئة مزدانة بما يتخطّى جمالية عبور الترامواي في الشوارع الدمشقية تحت نور القمر، ليُشكّل هذا المَعْلم المُحال على الأمس الغابر حيّزاً دفاعياً يرفع مقامه، حين يتحوّل كميناً ينفجر وسط تجمُّع لجنود فرنسيين، وفي داخله سوري رفض الموت العادي.

كفاح الخوص ونتاشا شوفاني يؤدّيان بإتقان (لقطة من حفل زفافهما في المسلسل)

تكامُل العناصر يرفع المستوى ويمنح «تاج» فرادته: القصة أولاً، توازياً مع إخراج لائق وإنتاج ضخم (الصبّاح أخوان)، وإلحاقاً بتمثيل أمين لشخصيات كتبت التاريخ بالدم. هذا التكامُل هو الطاغي. والجميع يسبح في نهر منسجم، تجري مياهه بتدفُّق واحد لتُحدث خريراً تُصدره الأعماق نحو الضفاف والسطح.

سؤال «قولك مستاهلة؟»، في الحديث الأخير خلال معركة البرلمان السوري، بين ضابطين سوريَيْن، يحمل دلالاته. وإذ يبدو محسوماً أنّ الجواب «نعم»، تتكفّل الشخصيات بتأكيد ذلك. في نادي الملاكمة، يُدار مخطّط لتسديد الضربة الكبرى نحو الجنرال الفرنسي «جول» (جوزيف بو نصار بأداء آسر). بشخصية «الصابوني»، يرسم موفق الأحمد ملامح أخرى للبطل، فيتعدّى حصره بتيم حسن، ليشمل الشباب الشجعان: نوار سعد الدين بدور «هشام»، ونورا رحال بشخصية «زيزي»، ودوجانا عيسى بدور «حنان»، وفرح الديبات بدور «عفاف»، مع سوسن أبو عفار المتألّقة بشخصية «فايزة»، وسط حضور لـ«شكري القوتلي» يمثّله باسل حيدر، وقيادته المرحلة يداً بيد مع «الشعب».

جوزيف بو نصار يتألّق بأداء شخصية الجنرال الفرنسي «جول» (فيسبوك)

يدفع المناخ الوطني ما عداه إلى المرتبة الثانية، فيتراجع حضور قصة الحب بين «تاج» و«نوران» (دور أول لافت لفايا يونان)، ويصبح أقل أهمية انتظار مصيرها بينما دمشق تُدكّ. هذا مُتعمَّد. ثلاثية «جول» الفرنسي – «رياض»- «زكريا» (المجتهد إيهاب شعبان) بدورَي السوري الخائن، تُشعل النار، فيتصاعد دخانها أسوةً بدخان المدافع إلى حيث الولادة الجديدة من صلب الأرض المحترقة.

دور أول لافت لفايا يونان (مواقع التواصل)

تيم حسن فنان شخصيات، تعامل مع «تاج» ببراعة، وبسام كوسا أستاذ، وإنْ لم يكن «رياض» أهمّ أدواره. حضور منى واصف قيِّم، ولو أطلَّت في مشهد.


مقالات ذات صلة

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

يوميات الشرق وحدها الثقة بمَن يعمل معهم تُخفّف الحِمْل (صور المخرج)

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

ينظر المخرج السوري سامر البرقاوي إلى ما قدَّم برضا، ولا يفسح المجال لغصّة من نوع «ماذا لو أنجرتُ بغير هذا الشكل في الماضي؟»... يطرح أسئلة المستقبل.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق تعبُ مصطفى المصطفى تجاه أن يكون الدور حقيقياً تسبَّب في نجاحه (صور الفنان)

مصطفى المصطفى: ننجح حين نؤدّي الدور لا وجهات نظرنا

اكتسبت الشخصية خصوصية حين وضعها النصّ في معترك صراع الديوك. بمهارة، حضن الديك ومنحه الدفء. صوَّره مخلوقاً له وجوده، ومنحه حيّزاً خاصاً ضمن المشهد.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

بين الوجوه ما يُنجِح الصورة من المحاولة الأولى، وبينها غير المهيّأ للتصوير. يتدخّل أحمد الحرك لالتقاط الإحساس الصحيح والملامح المطلوبة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الفنان المصري دياب حمل السلاح من أجل «مليحة» (الشرق الأوسط)

دياب: لن أجامل أحداً في اختيار أدواري

أكد الفنان المصري دياب أنه وافق على مسلسل «مليحة» ليكون بطولته الأولى في الدراما التلفزيونية من دون قراءة السيناريو، وذكر أنه تعلّم حمل السلاح من أجل الدور.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق استلهمت الكثير من نجمي العمل بسام كوسا وتيم حسن (إنستغرام)

فايا يونان لـ«الشرق الأوسط»: الشهرة بمثابة عوارض جانبية لا تؤثر عليّ

تابعت فايا يونان دورها على الشاشة الصغيرة في مسلسل «تاج» طيلة شهر رمضان. فكانت تنتظر موعد عرضه كغيرها من مشاهديه.

فيفيان حداد (بيروت)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
TT

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

عاد إلى ذاكرة مُؤسِّسة غاليري «آرت أون 56»، نهى وادي محرم، مشهد 4 أغسطس (آب) 2020 المرير. حلَّ العَصْف بذروته المخيفة عصر ذلك اليوم المشؤوم في التاريخ اللبناني، فأصاب الغاليري بأضرار فرضت إغلاقه، وصاحبته بآلام حفرت ندوباً لا تُمحى. توقظ هذه الحرب ما لا يُرمَّم لاشتداد احتمال نكئه كل حين. ولمّا قست وكثَّفت الصوتَ الرهيب، راحت تصحو مشاعر يُكتَب لها طول العُمر في الأوطان المُعذَّبة.

رغم عمق الجرح تشاء نهى وادي محرم عدم الرضوخ (حسابها الشخصي)

تستعيد المشهدية للقول إنها تشاء عدم الرضوخ رغم عمق الجرح. تقصد لأشكال العطب الوطني، آخرها الحرب؛ فأبت أن تُرغمها على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية. تُخبر «الشرق الأوسط» عن إصرارها على فتحه ليبقى شارع الجمّيزة البيروتي فسحة للثقافة والإنسان.

تُقلِّص ساعات هذا الفَتْح، فتعمل بدوام جزئي. تقول إنه نتيجة قرارها عدم الإذعان لما يُفرَض من هول وخراب، فتفضِّل التصدّي وتسجيل الموقف: «مرَّت على لبنان الأزمة تلو الأخرى، ومع ذلك امتهنَ النهوض. أصبح يجيد نفض ركامه. رفضي إغلاق الغاليري رغم خلوّ الشارع أحياناً من المارّة، محاكاة لثقافة التغلُّب على الظرف».

من الناحية العملية، ثمة ضرورة لعدم تعرُّض الأعمال الورقية في الغاليري لتسلُّل الرطوبة. السماح بعبور الهواء، وأن تُلقي الشمس شعاعها نحو المكان، يُبعدان الضرر ويضبطان حجم الخسائر.

الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه (آرت أون 56)

لكنّ الأهم هو الأثر. أنْ يُشرّع «آرت أون 56» بابه للآتي من أجل الفنّ، يُسطِّر رسالة ضدّ الموت. الأثر يتمثّل بإرادة التصدّي لِما يعاند الحياة. ولِما يحوّلها وعورةً. ويصوّرها مشهداً من جهنّم. هذا ما تراه نهى وادي محرم دورها في الأزمة؛ أنْ تفتح الأبواب وتسمح للهواء بالعبور، وللشمس بالتسلُّل، وللزائر بأن يتأمّل ما عُلِّق على الجدران وشدَّ البصيرة والبصر.

حضَّرت لوحات التشكيلية اللبنانية المقيمة في أميركا، غادة جمال، وانتظرتا معاً اقتراب موعد العرض. أتى ما هشَّم المُنتَظر. الحرب لا تُبقى المواعيد قائمة والمشروعات في سياقاتها. تُحيل كل شيء على توقيتها وإيقاعاتها. اشتدَّت الوحشية، فرأت الفنانة في العودة إلى الديار الأميركية خطوة حكيمة. الاشتعال بارعٌ في تأجيج رغبة المرء بالانسلاخ عما يحول دون نجاته. غادرت وبقيت اللوحات؛ ونهى وادي محرم تنتظر وقف النيران لتعيدها إلى الجدران.

تفضِّل نهى وادي محرم التصدّي وتسجيل الموقف (آرت أون 56)

مِن الخطط، رغبتُها في تنظيم معارض نسائية تبلغ 4 أو 5. تقول: «حلمتُ بأن ينتهي العام وقد أقمتُ معارض بالمناصفة بين التشكيليين والتشكيليات. منذ افتتحتُ الغاليري، يراودني هَمّ إنصاف النساء في العرض. أردتُ منحهنّ فرصاً بالتساوي مع العروض الأخرى، فإذا الحرب تغدر بالنوايا، والخيبة تجرّ الخيبة».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه، وربما حيّزه في هذا العالم. تُسمّيه مُتنفّساً، وتتعمّق الحاجة إليه في الشِّدة: «الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه. نرى الحزن يعمّ والخوف يُمعن قبضته. تُخبر وجوه المارّين بالشارع الأثري، الفريد بعمارته، عما يستتر في الدواخل. أراقبُها، وألمحُ في العيون تعلّقاً أسطورياً بالأمل. لذا أفتح بابي وأعلنُ الاستمرار. أتعامل مع الظرف على طريقتي. وأواجه الخوف والألم. لا تهمّ النتيجة. الرسالة والمحاولة تكفيان».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه وربما حيّزه في العالم (آرت أون 56)

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها: الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع، الإسعاف والصراخ... لـ9 أشهر تقريباً، أُرغمت على الإغلاق للترميم وإعادة الإعمار بعد فاجعة المدينة، واليوم يتكرّر مشهد الفواجع. خراب من كل صوب، وانفجارات. اشتدّ أحدها، فركضت بلا وُجهة. نسيت حقيبتها في الغاليري وهي تظنّ أنه 4 أغسطس آخر.