ريما فرنجية... التوحّد طيفٌ يتلوّن بالحب

رئيسة «الجمعية الوطنية اللبنانية للتوحّد» لـ«الشرق الأوسط»: الدمج قضيّتُنا الأولى

رئيسة مركز الشمال للتوحّد والجمعية الوطنية اللبنانية للتوحّد ريما فرنجية (مركز الشمال للتوحّد)
رئيسة مركز الشمال للتوحّد والجمعية الوطنية اللبنانية للتوحّد ريما فرنجية (مركز الشمال للتوحّد)
TT

ريما فرنجية... التوحّد طيفٌ يتلوّن بالحب

رئيسة مركز الشمال للتوحّد والجمعية الوطنية اللبنانية للتوحّد ريما فرنجية (مركز الشمال للتوحّد)
رئيسة مركز الشمال للتوحّد والجمعية الوطنية اللبنانية للتوحّد ريما فرنجية (مركز الشمال للتوحّد)

في أحد أيام عام 2010، وبينما كانت تقدّم واجب عزاء في إحدى قرى قضاء زغرتا (شمال لبنان)، استوقف ريما فرنجية نحيبٌ لم تسمع له مثيلاً في حياتها. سألتْ عن مصدر الصوت الغريب الآتي من إحدى غرف المنزل، فقيل لها إنه جون، ابن العشرة أعوام والمصاب باضطرابٍ يُدعى «التوحّد».

هي المعروفة بوصفها مذيعةً ومقدّمةَ تلفزيون سابقة وزوجةَ أبرز شخصية سياسية في المنطقة، الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية، وضعت ريما الواجبات الاجتماعية جانباً للحظة، ولحقت بصوت جون. لم تكن تعرف شيئاً عن التوحّد حينها، إلّا أنّ نداء الطفل أثار فضولها فقرّرت أن تلبّيه.

في عام 2010 تبنّت فرنجية قضية الأطفال الذين لديهم طيف التوحّد (مركز الشمال للتوحّد)

«البحر بيضحك للتوحّد»

ترأسُ فرنجية حالياً «مركز الشمال للتوحّد» و«الجمعية الوطنية للتوحّد»، وهي تُشارك «الشرق الأوسط» فخرَها بكل يومٍ من تلك السنوات الـ14 التي انقضت بعد اللقاء الأول مع جون. أثمر عن تلك الصدفة تأسيسُ المركز الذي فتح أبوابه لـ10 تلاميذ خلال السنة الأولى، «أما اليوم، فالـ10 صاروا 100 سنوياً، بينما مئات الأسماء والحالات مسجّلة على لائحة الانتظار».

المركز بمثابة مدرسة، وهو يؤمّن التعليم والمواصلات للتلاميذ الذين لديهم اضطراب طيف التوحّد، مغطياً احتياجات المنطقة الممتدّة من مدينة جبيل إلى عكّار في أقصى الشمال اللبناني.

رغم الوجوم الذي يسيّج البلد، فإن فرنجية لم تفوّت وفريق العمل إحياء اليوم العالميّ للتوحّد في 2 أبريل (نيسان)، من خلال رسم ابتسامة أمل على صفحة مياه بحرِ لبنان يرافقها شعار «كبر البحر... منحبّكن».

شعار حملة 2024 للجمعيّة الوطنية للتوحّد (مركز الشمال للتوحّد)

أنشطة رغم الأزمة

«تحوّلت الظروف جذرياً خلال السنوات الـ5 الماضية، فبات الاستمرار بمثابة تحدٍّ كبير، لا سيّما أنّ 90 في المائة من الأهالي غير قادرين على تسديد أقساط أولادهم، لكن بفضل الأيادي البيضاء والتبرّعات نكمل رسالتنا»، تتحدّث فرنجية عن الواقع الماليّ المستجدّ الذي أرخى بثقله على المركز. مع ذلك، فإنّ الأنشطة مستمرة لمواكبة حملة 2024 السنويّة، وهي تتضمّن تقديم صندوق يحتوي على ألعاب حسّيّة للأطفال الذين لديهم توحّد والمسافرين عبر مطار بيروت، تساعدهم في الحفاظ على هدوئهم خلال الرحلات الجويّة.

لا تقف الحملة عند هذا الحدّ، فمن بين أهمّ مشروعات هذه السنة وفق فرنجية، «استكمال توسيع المركز في زغرتا بهدف استقبال مزيد من الطلّاب العام المقبل، وتطوير (مكتب العبور/ Access Office) في جامعة الروح القدس - الكسليك، الذي يمتدّ جسراً بين الخرّيجين ممّن لديهم طيف التوحّد ودراستهم الأكاديميّة، مُحدثاً نقلة نوعيّة في حياة 80 طالباً».

العمل جارٍ على توسيع المركز في الشمال بهدف استضافة عدد أكبر من التلاميذ (مركز الشمال للتوحّد)

«العباقرة الصغار»

«نعم، كثيرون من طلّاب المركز استطاعوا أن يكملوا دراستهم الجامعيّة، وهذا إنجاز بحدّ ذاته»، تعلن فرنجية مبتسمةً. تتنوّع المواهب والقدرات الخارقة في صفوف هؤلاء الأطفال، وهي تسمّيهم «العباقرة الصغار». من بينهم قاسم الذي أذهل جميع مَن حوله برسومات «الماندالا»، إلى درجة أنّ إدارة المركز قررت جمع إبداعاته ونشرها في كتاب.

في مقابل ذوي الحالات المتقدّمة في صعوبتها، يتفاجأ القيّمون على المركز كل عام بموهبة جديدة؛ من هؤلاء الطالب الذي يركّب شبكات الكلمات المتقاطعة، أو أولئك المتفوّقون في الرياضيات، أو البارعون في الأعمال الكهربائية.

يبرع قاسم الذي لديه طيف التوحّد في رسم «الماندالا» (مركز الشمال للتوحّد)

تؤكّد فرنجية أنّ «المركز يواكب خرّيجيه من الحضانة إلى المدرسة إلى الجامعة ثمّ سوق العمل، كما أنه يساعدهم على إيجاد وظائف». يحدث ذلك بدافع «الصداقة والمحبة بيننا وبينهم، والتي بلغت صلابةً من الصعب كسرها»، وفق تعبيرها.

الدمج... من شعار إلى واقع

بما أنّ قصص النجاح الصغيرة تلك أثبتت أنّ عدداً كبيراً من الأطفال المصابين بالتوحّد يتساوون موهبةً وذكاءً مع سواهم وقد يتفوّقون عليهم أحياناً، فصار لا بدّ من تكريس مفهوم الدمج، وتحويله من شعارٍ إلى واقع.

دمج التلاميذ في المدارس والجامعات العاديّة أبرز هدف تعمل فرنجية على تحقيقه (مركز الشمال للتوحّد)

تضع ريما فرنجية هذا المشروع في أعلى سلّم أولويّاتها. «لا بدّ من أن يأتي يوم يصبح فيه الطلّاب الذين لديهم اضطراب طيف التوحّد قادرين على دخول الحضانات والمدارس العاديّة والاختلاط بتلاميذ أصحّاء، وهذا أمرٌ يعود بالفائدة على الجهتَين». تُراهن في هذا المجال على دور وزارة التربية والتعليم اللبنانية ووعدِها بتسهيل دخولهم المدارس العاديّة. «سندافع عن قضيّة الدمج بكل ما أوتينا، وهي باتت أقرب إلى التحقيق أكثر من أي وقت»، تؤكد فرنجية.

يتكامل مشروع الدمج مع التوعية التي انتشرت حول اضطراب طيف التوحّد خلال السنوات الـ10 الأخيرة، والتي بدأت تأتي بثمارها. تلفت فرنجية إلى أنّ «الموضوع كان مجهولاً في الماضي القريب، غير أنّ تحوّلاً جذرياً تحقّق في النظرة إلى طيف التوحّد، وبلغنا مرحلة غير مسبوقة من التعاطف والتقبّل والاحترام، ولهذا أثرٌ إيجابيّ على الأطفال وذويهم».

التلاميذ خلال أحد صفوف علم الروبوت (مركز الشمال للتوحّد)

«سيّدة أولى» أم لا... العطاء أوّلاً

من حالةٍ صامتة كانت تختبئ خلف جدران البيوت، تحوّل اضطراب طيف التوحّد إلى شعارٍ ملوّن بالأزرق «لبنان بيتوحّد حول التوحّد». تَرافقَ ذلك وحملات توعية تشجّع على الاعتراف بالمشكلة وتشخيصها بهدف التدخّل المبكر لمحاولة مداواتها، مع أنّ أي علاج ليس نهائياً. ريما فرنجية نفسُها ما زالت تشبّه التوحّد بـ«اللغز، لأننا لا نعرف مسبّباته ولا أساليب الوقاية أو الحلّ».

بأسلوبها الخاص، هذا الذي اكتسبته مع مرور السنوات، تتعامل مع أطفال المركز. تتابع أمورهم يومياً، وإن عن بُعد، عادّةً أنّ هذا هو عملها. أما خلال الزيارات، فتقاربهم بهدوءٍ وإيجابيّة وابتسامة، مُراعيةً أمزجتهم؛ «أتقدّم منهم بخطى هادئة، وهم غالباً ما يبادلون ابتسامتي بالعناق والقبلات.»

فرنجية متوسطةً الشعارات المواكبة لحملة «لبنان بيتوحّد حول التوحّد» على مر السنوات (مركز الشمال للتوحّد)

تُقرّ فرنجية بأنها تعلّمت دروساً كثيرة من الأطفال الذين لديهم طيف التوحّد، مثل الصبر وتقبّل الآخر. «طيبتهم ونقاؤهم، وحبّهم للطبيعة والفن والحيوانات، كلّها أمورٌ ألهَمَتني. أيقنتُ أيضاً بفضل هذه التجربة أنّ الحب قادر على صنع المعجزات في حياة الناس».

«سيّدة أولى» أم لا، للخدمة الاجتماعية والأنشطة الإنمائية الصدارة ضمن برنامج ريما فرنجية. صحيح أن زوجها مرشّح أساسيّ على قائمة رئاسة الجمهورية اللبنانية، إلّا أنّ اللقب لن يغيّر كثيراً في أولويّاتها الإنسانية على ما تؤكّد: «لا أنتظر المنصب حتى أُنجز، فعندما نكون قادرين على العطاء يجب أن نعطي، مهما كانت ألقابُنا».


مقالات ذات صلة

من أينشتاين إلى ماسك... مشاهير وعباقرة تعايشوا مع التوحّد

يوميات الشرق من أينشتاين إلى ماسك... مشاهير وعباقرة تعايشوا مع التوحّد

من أينشتاين إلى ماسك... مشاهير وعباقرة تعايشوا مع التوحّد

في الشهر العالمي للتوحّد، عودة إلى شخصياتٍ أدهشت العالم بعبقريّتها وفنّها رغم تعايشها مع طيف التوحّد.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق المسلسل إنساني ينشر الدفء والنُبل (البوستر الرسمي)

«أغمض عينيك»... دراما النُبل الإنساني

يؤكد مرور حلقات مسلسل «أغمض عينيك» فرادته. ليست الأحداث الكبرى ما يحرّكه، بل الدفء، وهذا يكفي.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق ألين غرو تؤكد نموّ التطبيق في السويد (أ.ف.ب)

تطبيق مواعدة سويدي للمتوحّدين والمتراجعين ذهنياً يؤكد حقّهم في الحب

تتميّز المنصّة بطريقة عملها المبسّطة، وإجراءات التسجيل التي تضمن «أمن» هؤلاء المستخدمين الذين يتعرّضون غالباً لإساءات على الشبكات.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
صحتك تشخيص التوحد بواسطة الذكاء الاصطناعي

تشخيص التوحد بواسطة الذكاء الاصطناعي

 ذكاء اصطناعي يحلل نشاط المخ ويتمتع بدقة كبيرة جداً في التشخيص لكشف حالات التوحد.

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
يوميات الشرق التوحد يؤثر في كيفية تعامل الشخص مع الآخرين (موقع آي ستوك)

دراسة: المصابون بالتوحد المفتقرون للدعم أكثر عُرضة لـ«الوفاة المبكرة»

أوضح الباحثون أنّ دراستهم هي «الأولى من نوعها التي تُقدر متوسّط العمر المتوقع لدى المصابين بالتوحد الذين يعيشون في بريطانيا».

محمد السيد علي (القاهرة )

محمد محسن يذّكر بأيقونات «فنان الشعب» سيد درويش

سيد درويش (وزارة الثقافة المصرية)
سيد درويش (وزارة الثقافة المصرية)
TT

محمد محسن يذّكر بأيقونات «فنان الشعب» سيد درويش

سيد درويش (وزارة الثقافة المصرية)
سيد درويش (وزارة الثقافة المصرية)

«أنا هويت وانتهيت»، و«سالمة يا سلامة»، و«قوم يا مصري»، و«أهو ده اللي صار» وغيرها من الأغاني الأيقونية، تردّد صداها في المتحف القومي للحضارة المصرية بصوت المطرب محمد محسن، الذي اشتهر بتقديم الأغاني القديمة والجماهيرية، خلال احتفالية غنائية لاستعادة ذكرى مرور مائة سنة على رحيل «فنان الشعب» سيد درويش.

الاحتفالية التي أقيمت، مساء الأحد، في المتحف الذي يقع في منطقة الفسطاط ضمن القاهرة التاريخية، تعدّ امتداداً لاستعادة التراث المصري في مناح شتى، تاريخياً وموسيقياً وفنياً، وكذلك عبر توثيق وإحياء الفنون التراثية والحرف التقليدية والعادات والتقاليد المصرية في العصور القديمة أو العصر الحديث.

ويقول الدكتور أحمد غنيم، الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف: «استضاف المتحف حفلاً غنائياً بمناسبة مرور 100 سنة على رحيل سيد درويش، ويوم السبت الماضي أيضاً، كانت لدينا احتفالية عن أم كلثوم من خلال عرض تراثها وأسطواناتها وكثيرٍ من المقتنيات التذكارية والأعمال الفنية المرتبطة بها»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «المتحف أخذ على عاتقه منذ افتتاحه إبراز الحضارة المصرية سواء القديمة أو الحديثة، ليس فقط من خلال عرض الآثار ولكن من خلال عرض التراث بجميع أشكاله، سواءً كان هذا التراث في شكل غناء أو موسيقى أو محاضرات عامة أو معارض فنية»، مؤكداً أن أعمال «فنان الشعب» سيد درويش، تمثل جزءاً مهماً من تراث مصر الموسيقي بما قدمه من أنماط غنائية مختلفة راسخة في الوجدان الجمعي.

جانب من حفل يستدعي ذكرى سيد درويش (المتحف القومي للحضارة المصرية)

ويعدّ سيد درويش (1892 - 1923) أحد أهم المجددين في الموسيقى المصرية، وفق نقاد ومتخصصين عدّوه صاحب مدرسة خاصة في الفن وأطلقوا عليه لقب «فنان الشعب».

وقدم سيد درويش خلال حياته القصيرة التي لم تتجاوز 31 عاماً عشرات الألحان المرتبطة بالحياة اليومية والمهن الموجودة في الشارع المصري في بدايات القرن العشرين، من موظفين، وسائقي الحنطور، والشّيالين، والتجار، والسقايين، والفلاحين وغيرهم، بالإضافة إلى نحو 30 رواية مسرحية وأوبرا غنائية، واشتهر بتقديم عدد من الأغاني الوطنية مثل «قوم يا مصري» و«أنا المصري كريم العنصرين» والنشيد الوطني لمصر «نشيد بلادي» بعد أن اقتبس الشاعر يونس القاضي كلماته من خطاب للزعيم مصطفى كامل عام 1907.

المطرب المصري محمد محسن يغني أعمال سيد درويش (المتحف القومي للحضارة المصرية)

ولفت الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف القومي للحضارة المصرية إلى أنه «بالإضافة لهذه الفعاليات التي تستعيد جزءاً مهماً من تراث المصريين، فالمتحف يحاول عرض حضارات البلاد الأخرى، جنباً إلى جنب مع مفردات الحضارة المصرية، من خلال معارض مشتركة مع السفارات الأجنبية الموجودة في مصر».

مشيراً إلى إقامة «معرض للتراث من بيرو وأشياء شبيهة له في قرية تونس بالفيوم من خلال إحدى الجمعيات المهتمة بصناعة الفخار»، وتابع: «قدمنا من قبل فعاليات مشابهة مع سفارات أخرى مثل إيطاليا وبلجيكا وإسبانيا والمكسيك تضمنت عروضاً فنية أو معارض صور للثقافات المختلفة».

ويضم المتحف القومي للحضارة المصرية، 1600 قطعة أثرية اختيرت بعناية للتعبير عن مختلف العصور والحضارات التي مرّت على مصر، وقد شهد المتحف لدى افتتاحه في أبريل (نيسان) 2021 موكباً لنقل 22 مومياء ملكية فرعونية من المتحف المصري في ميدان التحرير (وسط العاصمة القاهرة) إليه.