«هرمونات السعادة»... بين الواقع العلميّ والتسويق المبالغ فيه

الطبيب إيليو ساسين: حذارِ تضخيم دورها وأثرِها على الصحة النفسية

«هرمونات السعادة» مفهوم يلقى رواجاً كبيراً في مجال الصحة النفسية (رويترز)
«هرمونات السعادة» مفهوم يلقى رواجاً كبيراً في مجال الصحة النفسية (رويترز)
TT

«هرمونات السعادة»... بين الواقع العلميّ والتسويق المبالغ فيه

«هرمونات السعادة» مفهوم يلقى رواجاً كبيراً في مجال الصحة النفسية (رويترز)
«هرمونات السعادة» مفهوم يلقى رواجاً كبيراً في مجال الصحة النفسية (رويترز)

بلغت «هرمونات السعادة» مؤخّراً مرحلةً متقدّمة من الرواج، إلى درجة أنها استحقّت أغنية بصوت الفنان تامر حسني. الكلّ يبحث عن السعادة ويريدها، حتى وإن اقتضى الأمر تناول جرعاتٍ منها.

تتضمّن رحلة البحث عن الدوبامين (dopamine)، والسيروتونين (serotonin)، والأوكسيتوسين (oxytocin)، والإندورفين (endorphins) محطاتٍ عدّة تتراوح بين أنشطةٍ بسيطة كالخروج إلى الطبيعة، وسلوكيّاتٍ أخرى أكثر دقّةً كاللجوء إلى متمّماتٍ غذائيّة باتت لديها سوقٌ عالميّة مزدهرة.

ينعكس الخروج إلى الطبيعة إيجاباً على المزاج (أ.ف.ب)

عندما يتحدّث الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية إيليو ساسين عن موضة «هرمونات السعادة»، يحرص قبل الغوص في التفاصيل على تصويب تلك التسمية. علمياً، هي ليست هرمونات بل «ناقلات عصبيّة أي إفرازات دماغيّة مسؤولة عن انتقال المعلومات بين الخلايا الدماغيّة»، وفق ما يوضح ساسين لـ«الشرق الأوسط». إلّا أنّ التسويق لها اقتضى منحَها لقباً جذّاباً وواعداً. هذا في الشكل، أما في المضمون فيرى الطبيب أنّ ثمّة «تضخيماً لدَورها وأثرِها على الصحة النفسية»، محذّراً ممّا بات يُعرف بالمتمّمات الغذائية التي تجلب السعادة.

رباعيّة «هرمونات السعادة»

خلف أسمائها المعقّدة، تختبئ وظائف إيجابيّة لـ«هرمونات السعادة»؛ فهي كلّما أفرز الدماغ كمياتٍ أكبر منها، تضاعف الشعور بالارتياح لدى المرء. من هنا اللقب الذي يُطلق على الدوبامين، وهو «هرمون الراحة»؛ فهذا الناقل العصبيّ يتعرّف على بعض الأنشطة أكثر من سواها، أي أنه يتفاعل مثلاً عندما يتناول المرء وجبةً يحبّها، أو عندما يعتني بنفسه، أو يحقق إنجازاً كان يطمح إليه. في هكذا حالات، يرتفع منسوب الدوبامين في الدماغ ما يؤدّي إلى إحساس بالسعادة.

الاعتناء بالنفس والقيام بأنشطة تحبّها يسهمان في رفع منسوب الدوبامين (أ.ف.ب)

بالانتقال إلى السيروتونين، الملقّب بـ«المعزِّز الطبيعي للمزاج»، فهو إضافةً إلى تحسينه المزاج وتنظيمه النوم، يؤثّر إيجاباً على نشاط الذاكرة وعلى القدرة الاستيعابيّة، كما أنه يساعد في الاسترخاء.

يلفت ساسين إلى أنّ «مَن يعانون من الاكتئاب والقلق الدائمَين، يكون لديهم نقص في منسوب السيروتونين في منطقة معيّنة من الدماغ». ويوضح أنه في هكذا حالاتٍ متقدّمة، لا تكفي الحلول البسيطة كالتعرّض للضوء الطبيعي أو القيام بنشاط رياضي أو التأمّل، بل يجب استشارة طبيب نفسيّ؛ ففي «الحالات المرضيّة المتطوّرة لا بدّ من اللجوء إلى علاجٍ طبّي وإلى أدوية تُعيد رفع منسوب الناقلات العصبيّة، وهي معروفة بمضادات الاكتئاب».

إيليو ساسين طبيب متخصص في الأمراض النفسية

ثالث «هرمونات السعادة» هو الأوكسيتوسين الملقّب بـ«هرمون الحبّ». إلى جانب الدور الأساسي الذي يلعبه في التخفيف من آلام الولادة لدى المرأة، فهو يساعد في تحسين العلاقات الاجتماعية ويدفع إلى البحث عن روابط إنسانية عميقة. هو بمثابة حجر أساس في العلاقات العاطفية ويعزّز الثقة والتعاطف بين الشريكَين.

يبقى الإندورفين المعروف بـ«مُضادّ الألم الطبيعي»، بما أنّ الدماغ يفرزه كلّما تعرّض للتوتّر أو الانزعاج، إضافةً إلى تمويهه للآلام الجسديّة، فإنّ هذا الناقل العصبي معروف بقدرته على التخفيف من القلق وتحسين المزاج.

للأوكسيتوسين أو «هرمون الحب» فعلٌ كبير على السعادة (رويترز)

ليست حلاً نهائياً

رغم الدور المهمّ الذي تلعبه كلٌ من هذه الناقلات العصبيّة الأربعة، يصرّ إيليو ساسين على التوضيح أنّ «الدماغ معقّد جداً ولا يقتصر الشعور بالسعادة والرضا على حركة صعود وهبوط 4 هرمونات، فالقصة ليست بالبَساطة التي يجري التصوير لها» في الإعلام، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو على ألسنةِ بعض المعالجين.

صحيح أنّ انخفاض منسوب الدوبامين، والسيروتونين، والأوكسيتوسين، والإندورفين وتراجُع نشاطها يتحكّمان بالحالة النفسيّة، إلّا أنّ مفتاح الحلّ لا يكمن حصراً في تعزيزها بالأشكال الطبيعية المتَداولة، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بحالاتٍ نفسية مزمنة.

أما في الحالات العاديّة أي لدى الأشخاص الذين لا يعانون من مشاكل نفسية أو أنّهم يمرّون بفترة إحباط عابرة، فيلفت ساسين إلى أنّ «أنشطةً كالرياضة أو الاستماع إلى الموسيقى أو التأمّل أو الاستثمار في العلاقات العاطفيّة، تؤدّي إلى زيادة في إفرازات الناقلات العصبيّة، ما يساعد على الشعور بالراحة والسعادة». ويضيف ساسين أنّ الخروج إلى الطبيعة والنوم الجيّد يلعبان كذلك دوراً إيجابياً، لكن تلك الاهتمامات مجتمعةً هي ذات أثرٍ قصير الأمد، ولا تحمي الأشخاص المعرّضين لحالاتٍ نفسيّة مرَضيّة.

مصادر طبيعيّة للسعادة

لكلٍ من «هرمونات السعادة» الأربعة مشغّلاتها الطبيعيّة التي يمكن أن تساعد في تحفيز إفرازها. مفاتيح الدوبامين مثلاً هي الأكل الصحّي وتحديداً تناول كميات كافية من اللحم ومشتقّات الحليب والخضر والبيض، إلى جانب التأمّل (meditation)، والاستماع إلى الموسيقى، وتنظيم ساعات النوم.

الاستماع إلى الموسيقى يساعد الدماغ على إفراز مادة الدوبامين (أ.ف.ب)

أما منسوب السيروتونين، فقد تعزّزه التمارين الرياضيّة، والتأمّل، والاعتناء بالنفس، والحصول على كمٍّ كافٍ من النور الطبيعي والتعرّض لأشعّة الشمس، إضافةً إلى تناول مشتقّات الحليب.

وفيما يخصّ الأوكسيتوسين فإنّ أكثر ما يحفّزه هو تَبادُل العواطف والقرب الجسديّ من الأشخاص الذين نحبّ. «هرمون الحب» اسمٌ على مسمّى، وهو مرتبط بالآخر الذي يهمّنا أمرُه ويُفرحنا التواجد معه أو التحدّث إليه أو حتّى التفكير فيه. تكفي أنشطة بسيطة مثل الطبخ مع الأصدقاء أو الشريك، أو مشاهدة فيلم معهم لرفع منسوب السعادة. وما يلعب دوراً إيجابياً في هذا الإطار كذلك، خدمة الآخرين والقيام بأفعال خير وإن كانت صغيرة، إلى جانب الاعتناء بالحيوانات الأليفة.

للإندورفين مفاتيحها الخاصة ومن بينها تناول الشوكولاتة السوداء، والضحك مع الأصدقاء أو خلال مشاهدة الأفلام، والحركة الجسديّة كالرياضة والرقص، إضافةً إلى الاستماع للموسيقى.

الضحك مع الأصدقاء يرفع منسوب الأوكسيتوسين (رويترز)

أبعد من تلك الوسائل الطبيعية التي ترفع أسهُمَ السعادة، راجت مؤخراً موضة المتمّمات الغذائية التي يُقال إنها تلعب الدور نفسه. غير أنّ ساسين يشكّك فيها، مؤكّداً أنها «غير نافعة في 90 في المائة من الحالات». ويشير الطبيب النفسيّ إلى أنّ «سوق المتمّمات تشهد ازدهاراً ومن بينها التريبتوفان (tryptophan) على وجه التحديد، رغم أنها غير ناجعة».

ويحذّر ساسين من «بعض الأطبّاء والمعالجين الذين يصفون تلك المتممات لمَرضاهم، بعد إقناعهم بأنّ تحاليل الدم أظهرت انخفاضاً في منسوب هرمونات السعادة»، مع العلم بأنّ الدم لا يكشف شيئاً عن السعادة.


مقالات ذات صلة

خلل بسيط في حركة العين قد يشير إلى إصابتك بألزهايمر

صحتك بهدف تكوين صورة بصرية ذات معنى لمشهد ما تقوم أعيننا بسلسلة من الحركات السريعة المنسقة (رويترز)

خلل بسيط في حركة العين قد يشير إلى إصابتك بألزهايمر

تبرز مؤخراً طريقة جديدة للكشف المبكر عن مرض ألزهايمر ترتبط بالاستماع إلى حركة عيون المرضى عبر ميكروفونات في آذانهم.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك شعار «شات جي بي تي» يظهر أمام شعار شركة «أوبن إيه آي» (رويترز)

هل يساعد «شات جي بي تي» الأطباء حقاً في تشخيص الأمراض؟ الإجابة مفاجئة

يتساءل الكثير من الأشخاص حول ما إذا كان برنامج الدردشة الآلي الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي قادراً على مساعدة الأطباء في تشخيص مرضاهم بشكل أفضل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك يرفع العلاج الجديد مستويات البروتين في الخلايا الحساسة للضوء بشبكية العين (هارفارد)

علاج جيني يُعيد القدرة على السمع ويعزّز الرؤية

طوّر باحثون بكلية الطب في جامعة «هارفارد» الأميركية علاجاً جينياً للمصابين بمتلازمة «آشر من النوع 1F»، وهي حالة نادرة تسبّب الصمم والعمى التدريجي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
صحتك تقنيات جديدة لعلاج التهاب الأنف المزمن

تقنيات جديدة لعلاج التهاب الأنف المزمن

كشفت دراسة حديثة أن استهداف العصب الذي غالباً ما يكون مبهماً يؤدي إلى تحسين معدل نجاح العلاج بالتبريد والعلاج بالترددات الراديوية لالتهاب الأنف المزمن.

العالم العربي من داخل مجمع مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح في قطاع غزة (أرشيفية - أ.ب)

«أطباء بلا حدود»: مواصلة إسرائيل تدمير النظام الصحي في غزة ستَحرم مئات آلاف السكان من العلاج

حذرت منظمة «أطباء بلا حدود»، اليوم الأحد، من أن مواصلة إسرائيل تدمير النظام الصحي في قطاع غزة ستَحرم مئات آلاف السكان من العلاج الطبي.

«الشرق الأوسط» (غزة)

احذروا الإفراط في الوقوف خلال العمل

تحتاج بعض المهن إلى الوقوف فترات طويلة (معهد الصحة العامة الوبائية في تكساس)
تحتاج بعض المهن إلى الوقوف فترات طويلة (معهد الصحة العامة الوبائية في تكساس)
TT

احذروا الإفراط في الوقوف خلال العمل

تحتاج بعض المهن إلى الوقوف فترات طويلة (معهد الصحة العامة الوبائية في تكساس)
تحتاج بعض المهن إلى الوقوف فترات طويلة (معهد الصحة العامة الوبائية في تكساس)

توصّلت دراسة أجراها باحثون من جامعة توركو الفنلندية، إلى أنّ الوقوف لفترات طويلة في العمل له تأثير سلبي في قياسات ضغط الدم على مدى 24 ساعة.

وتكشف النتائج عن أنّ الوقوف لفترات طويلة يمكن أن يرفع ضغط الدم، إذ يعزّز الجسم مسارات الدورة الدموية إلى الأطراف السفلية عن طريق تضييق الأوعية الدموية وزيادة قوة ضخّ القلب. وعلى النقيض من ذلك، ارتبط قضاء مزيد من الوقت في وضعية الجلوس في العمل بتحسُّن ضغط الدم.

وتشير الدراسة، التي نُشرت في مجلة «ميديسين آند ساينس إن سبورتس آند إكسيرسيس»، إلى أنّ السلوكيات التي يغلب عليها النشاط في أثناء ساعات العمل قد تكون أكثر صلة بقياسات ضغط الدم على مدار 24 ساعة، مقارنةً بالنشاط البدني الترفيهي.

تقول الباحثة في الدراسة، الدكتورة جووا نورها، من جامعة «توركو» الفنلندية: «بدلاً من القياس الواحد، فإن قياس ضغط الدم على مدار 24 ساعة هو مؤشر أفضل لكيفية معرفة تأثير ضغط الدم في القلب والأوعية الدموية طوال اليوم والليل».

وتوضِّح في بيان منشور، الجمعة، على موقع الجامعة: «إذا كان ضغط الدم مرتفعاً قليلاً طوال اليوم ولم ينخفض ​​بشكل كافٍ حتى في الليل، فتبدأ الأوعية الدموية في التصلُّب؛ وعلى القلب أن يبذل جهداً أكبر للتعامل مع هذا الضغط المتزايد. وعلى مرّ السنوات، يمكن أن يؤدّي هذا إلى تطوّر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية».

وأظهرت دراسات سابقة أنّ ممارسة الرياضة في وقت الفراغ أكثر فائدة للجهاز القلبي الوعائي من النشاط البدني الناتج عن العمل، الذي ربما يكون ضاراً بالصحّة، مشدّدة على أنّ التمارين الرياضية المنتظمة مهمة للسيطرة على ضغط الدم.

وعلى وجه الخصوص، تعدّ التمارين الهوائية الأكثر قوة فعالةً في خفض ضغط الدم، ولكن وفق نتائج الدراسة الجديدة، فإنّ النشاط البدني اليومي يمكن أن يكون له أيضاً تأثير مفيد.

في الدراسة الفنلندية، تم قياس النشاط البدني لموظفي البلدية الذين يقتربون من سنّ التقاعد باستخدام أجهزة قياس التسارع التي يجري ارتداؤها على الفخذ خلال ساعات العمل، وأوقات الفراغ، وأيام الإجازة. بالإضافة إلى ذلك، استخدم المشاركون في البحث جهاز مراقبة ضغط الدم المحمول الذي يقيس ضغط الدم تلقائياً كل 30 دقيقة لمدّة 24 ساعة.

وتؤكد النتائج أنّ طبيعة النشاط البدني الذي نمارسه في العمل يمكن أن يكون ضاراً بالقلب والجهاز الدوري. وبشكل خاص، يمكن للوقوف لفترات طويلة أن يرفع ضغط الدم.

وتوصي نورها بأنه «يمكن أن يوفر الوقوف أحياناً تغييراً لطيفاً عن وضعية الجلوس المستمر على المكتب، ولكن الوقوف كثيراً يمكن أن يكون ضاراً. من الجيد أن تأخذ استراحة من الوقوف خلال العمل، إما بالمشي كل نصف ساعة أو الجلوس لبعض أجزاء من اليوم».

ويؤكد الباحثون أهمية النشاط البدني الترفيهي لكل من العاملين في المكاتب وفي أعمال البناء، وتشدّد نورها على أنه «جيد أن نتذكّر أنّ النشاط البدني في العمل ليس كافياً بذاته. وأنّ الانخراط في تمارين بدنية متنوّعة خلال وقت الفراغ يساعد على الحفاظ على اللياقة البدنية، مما يجعل الإجهاد المرتبط بالعمل أكثر قابلية للإدارة».